حذر وزير المالية علي علاوي مؤخرا من مخاطر الوضع المالي والاقتصادي في العراق خلال السنوات العشر القادمة بسبب استمرار الاعتماد الكبير على النفط في تمويل الموازنة العامة للدولة. خصوصا مع اتساع النفقات العامة بشكل شاهق يفوق المقدرة المالية للبلد ويقوض الاستدامة المالية في المديات المتوسطة والطويلة. وقد عرض وزير المالية تلك المحاذير في اطار مناقشة مستقبل قطاع النفط في اسواق الطاقة العالمية. وعلى الرغم من استبعاد البعض للسيناريوهات المطروحة من قبل وزير المالية، خصوصا مع استمرار تعافي اسعار النفط وامتلاك العراق خامس أكبر احتياطي للنفط في العالم عام 2021 . الا ان تجربة السنوات السابقة واستمرار نمط النمو والتمويل القائم على الريع النفطي يؤكد ما ورد من تحذيرات. وفيما يلي جملة من النقاط التي تعزز النتائج المذكورة:
1- تتسق تحذيرات وزير المالية مع مخرجات مؤتمر كوب26 في إلزام الدول بوضع أهداف طموحة لخفض الانبعاثات حتى عام 2030 للوصول إلى صافي انبعاثات الكربون الصفرية بحلول منتصف القرن 2050. والحد من الاحتباس الحراري الى (1.5) درجة مئوية، وتسريع التحول صوب الطاقة النظيفة لتقليص تداعيات تغير المناخ. فضلا على بوادر بزوغ اقتصاد طاقة جديد، ففي عام 2020، ورغم انزلاق الاقتصاد العالمي في شراك ركود اقتصادي عميق بسبب تفشـي فايــــروس 19Covid-والاغلاق الكبير للاقتصاد والاسواق الا ان مساهمة مصادر الطاقة المتجددة مثل الرياح والطاقة الشمسية الكهروضوئية ارتفعت بأسرع معدل لها منذ عقدين، وحققت مبيعات السيارات الكهربائية أرقاما قياسية جديدة. ووفقا لتقرير وكالة الطاقة الدولية الاخير فان اقتصاد الطاقة الجديد بدأ بالظهور، مدفوعا بإجراءات السياسة والتكنولوجيا والابتكار والإلحاح المتزايد لمكافحة تغير المناخ.
2- تعرضت المالية العامة في العراق الى صدمة خارجية حادة عام 2014 وعام 2020 نتيجة انهيار اسعار النفط الى دون (20) دولار للبرميل، دخل الاقتصاد العراقي حينها الى ركود اقتصادي نتيجة ارتباط معظم القطاعات الاقتصادية بشكل مباشر وغير مباشر بقطاع الصادرات النفطية، مما يؤشر اتساع الاختلال الهيكلي وارتفاع التداعيات الاقتصادية لارتباط الاقتصاد والموازنة بأسعار النفط العالمية.
3- عجزت الحكومة العراقية عام 2020 عن تمرير الموازنة الاتحادية (2020) نتيجة اتساع الفجوة بين الايرادات والنفقات العامة بعد انهيار الايرادات النفطية الى دون النصف مقارنة بالعام 2019.
4- افصحت ازمة 2020 عن تزامن في انخفاض اسعار وكميات النفط المصدر في آن واحد، نظرا لما فرضه تحالف اوبك من تقليص للحصص الانتاجية لكافة الدول الاعضاء، مما يكبح فرضية زيادة الانتاج النفطي لتعويض هبوط الاسعار في المستقبل في ظل التزام العراق بسياسة اوبك النفطية.
5- اضطرت الحكومة عام 2020 الى رفع سقف القروض الداخلية الى قرابة (27) ترليون دينار لتمويل رواتب الموظفين وتغطية بعض النفقات الضرورية، مما ضاعف حجم الدين العام الداخلي، وزاد من هشاشة المالية العامة باعتمادها على النفط والاقتراض لتمويل النفقات الجارية، وهي مصادر متقلبة وغير مستدامة وتزيد من فرص اللااستقرار المالي والاقتصادي.
6- بعدما كانت القروض العامة مصدر استثنائي وتستخدم فقط لتمويل النفقات الاستثمارية، تم اعتمادها عام 2020 لتمويل النفقات الجارية، وتحديدا بند الرواتب والاجور. ويخشى ان تعتاد الحكومات الحالية على المناورة بين النفط والقروض لتمويل الهدر المالي المستمر في بنود الموازنة الاتحادية.
7- يخلف انخفاض اسعار النفط تراجعا في الايرادات النفطية بالدولار، وبالتالي تراجع مبيعات الحكومة الى البنك المركزي مقارنة بمبيعات البنك المركزي الى الاسواق مما يقلص من مقدار الاحتياطي الاجنبي لدى البنك المركزي. وبالطبع لا يحدث الاختلال المؤقت بين الطرفين فرقا يذكر، لكن استمرار الاختلال بين ما يشتريه البنك المركزي من الدولار وما يبيعه فعلا في الاسواق المحلية، كما حدث عام 2020، يهدد استقرار الاحتياطي الدولاري لدى البنك المركزي، ويعرض العملة الوطنية للمضاربة وهروب رؤوس الاموال الوطنية.
8- ارتباطا بالنقطة السابقة، الزمت الظروف المالية عام 2020، وزارة المالية والبنك المركزي الى تخفيض سعر صرف الدينار العراقي من (1200 مقابل الدولار) الى (1450 مقابل الدولار)، مما قلص من الدخول الحقيقية للأفراد. وزاد من هشاشة الوضع المالي في العراق بعدما باتت المالية العامة تعتمد على النفط والاقتراض وتخفيض سعر الصرف لتأمين التمويل المناسب للنفقات العامة المتزايدة في العراق.
خلاصة ما ورد ان استمرار اتساع مصروفات الحكومة في ظل غياب سياسات الضبط والترشيد في كافة بنود الانفاق العام يعرض المالية العامة لمخاطر العجز الهيكلي وتقويض الاستدامة المالية للبلد، خصوصا مع اعتماد ادوات تمويل عالية المخاطر كالنفط والاقتراض وتخفيض سعر الصرف، بدلا من تعظيم الايرادات غير النفطية كالضرائب وغيرها. كما ان اعتماد سياسة خفض قيمة الدينار عام 2020 لتوفير قرابة (12) ترليون دينار لموازنة 2021 على حساب ارتفاع الاسعار وخفض الدخل الحقيقي للأفراد يعني عمليا فتح قناة نقدية لنقل الصدمات النفطية الى الاقتصاد العراقي، بعدما كان انتقال تلك الصدمات يقتصر على القناة المالية (الموازنة الاتحادية).
ورغم اشارة وزير المالية الى امكانية تسريح جزء من العاملين في اجهزة ومؤسسات الدولة في المستقبل نتيجة صدمات نفطية قادمة، الا ان هذا الخيار مستبعد في الامد القصير والمتوسط نتيجة الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة. بدلا من ذلك، يتوقع ان تلجأ الحكومة لاجراءات متنوعة للحفاظ على رواتب الموظفين والتعايش مع هبوط الايرادات النفطية ان تراجعت اسعار النفط، من تلك الاجراءات رفع معدلات الاقتطاع الضريبي لتعظيم الايرادات غير النفطية، او تقليص الدعم الحكومي بشكل تدريجي عن بعض السلع ورفع اسعار بعض الخدمات العامة المقدمة للمواطن كالكهرباء مثلا، او اجراء خفض اخر في سعر صرف الدينار اذا ما تكرر سيناريو انهيار اسعار النفط 2020، فضلا على الاقتراض العام الذي بات الخيار المعتاد لتمويل العجوزات المالية في موازنة العراق الاتحادية.
ويبقى خيار اعادة هيكلة واصلاح الانفاق العام في العراق خيارا بعيدا عن دوائر صنع القرار في الحكومات الراهنة نتيجة فساد النظام السياسي في العراق وافتقاده لاعتبارات النزاهة والكفاءة والوطنية في ادارة الاقتصاد والثروة الوطنية. رغم ان جوهر اصلاح المالية العامة يبدأ من ضبط الانفاق العام وليس في توفير بدائل لتمويل الهدر والفساد المالي المستمر في بنود الانفاق الجاري والاستثماري.