يلعب التحرر الاقتصادي دوراً كبيراً في معالجة التخلف الاقتصادي وتحقيق التقدم الاقتصادي وذلك من خلال تجذير مبادئ اقتصاد السوق وتحجيم دور الدولة إلا في الظروف الاستثنائية.
التحرر الاقتصادي
يُعنى التحرر الاقتصادي في تقليص دور الدولة وحجمها في الاقتصاد واقتصاره في مجالات محدودة جداً، في المجالات التي لا يستطيع القطاع الخاص القيام بها لأسباب قد تكون فنية أو اقتصادية أو أخلاقية أو غيرها، مُقابل إعطاء مساحة أكبر للقطاع الخاص ليمارس دوره وفق مبادئ اقتصاد السوق كالملكية الخاصة والمنافسة والحرية الاقتصادية.
حيث تُعنى الملكية الخاصة بأحقية الفرد بامتلاك وسائل الإنتاج والحفاظ عليها من قبل الدولة وعدم مُصادرتها إلا إذا أصبحت تؤثر على المصلحة العامة بشكل سلبي فمن الممكن تدخل الدولة لتوقيف هذا التأثير لا أكثر.
كما تُعد المنافسة جزء أساس في اقتصاد السوق، حيث تسهم في رفع كفاءة استخدام الموارد وتحسين نوعية المنتجات وخفض الاسعار وزيادة رفاه المستهلكين، عكس الاحتكار الذي يسهم في انخفاض كفاءة استخدام الموارد ورداءة نوعية المنتجات ورفع الأسعار وانخفاض رفاه المستهلكين.
وتهتم الحرية الاقتصادية بحياد الدولة وتوسيع خيارات الأفراد وعدم تقييد الإنتاج والاستهلاك والتجارة وحرية انتقال الأيدي العاملة ورؤوس الأموال والبضائع من وإلى السوق، كذلك تعني العمل على حماية الملكية الخاصة من أي اعتداء أو مُصادره لها، وتعني أيضاً أن الأسعار تتحدد وفقاً لقوى العرض والطلب بعيداً عن التحديد من قبل الدولة.
تُعد الأرباح هي المحرك والدافع الرئيس للنشاط الاقتصادي لتنمية الثروة وزيادتها، ولولا الأرباح التي يحصل المنتجين لما كان هناك حافز للانتاج وممارسة النشاط الاقتصادي إلا بمقدار مستوى المعيشة، بمعنى إن الهدف الرئيس للنشاط الاقتصادي في ظل سيادة اقتصاد السوق هو تحقيق الأرباح.
إن العمل على تجذير هذه التوليفة من الملكية الخاصة والمنافسة والحرية الاقتصادية والأرباح مع تحرير الاسعار وتقليص دور الدولة وجعله دور حيادي في الاقتصاد، هو ما يمكن القول عنه بالتحرير الاقتصادي.
التقدم الاقتصادي
تسعى أغلب الدول في الوقت الحاضر إلى تحقيق التقدم الاقتصادي عبر وضع الخطط والبرامج المختلفة، وفي إطار التحرر الاقتصادي ولكن بعضها نجح نجاحاً باهراً أذهل الجميع كدول جنوب شرق آسيا، والبعض الآخر لازال في طريق التحرير الاقتصادي كمصر وبعضها فشل ولايزال يتعثر في طريق التحرير الاقتصادي كالعراق مثلاً.
يتمثل التقدم الاقتصادي في زيادة النمو الاقتصادي المتمثل في زيادة إنتاج السلع والخدمات لمجتمع ما، مع خلق فرص العمل لتخفيض البطالة لأدنى نقطة، وتحسن التجارة الخارجية مع تخفيض التضخم لأدنى المستويات.
ولابُد أن يتسم التقدم الاقتصادي بالاستدامة الاقتصادية التي يمكن من خلالها الايفاء بمتطلبات الاقتصاد لاحقاً والقدرة على إشباع الحاجات الاقتصادية لان الاقتصاد قائم على استثمار الموارد المحدودة لإشباع الحاجات المتزايدة، والاستدامة الاقتصادية تُعنى في إشباع الحاجات حالاً ومستقبلاً.
وبعبارة اوضح، يتمثل التقدم الاقتصادي في قدرة بلد ما على تنمية الموارد وزيادتها بشكل أسرع من زيادة السكان بالتزامن مع الحفاظ على البيئة وضمان حقوق الأجيال اللاحقة، وذلك من خلال استخدام النظام الاقتصادي المناسب الذي يكفل تحقيق التقدم الاقتصادي.
بهذا الصدد، يمكن القول إن نظام اقتصاد السوق بالتزامن مع اشراف الدولة لإدائه، يكون كفيل باستثمار الموارد أفضل استثمار مع الحفاظ على البيئة وضمان حقوق الأجيال اللاحقة، لان اقتصاد السوق اكثر كفاءة في تخصيص الموارد واستثمارها مع إشباع الحاجات المتزايدة، كما أن اشرف الدولة لأداء اقتصاد السوق يضمن عدم انحرافه عن الدور المطلوب الذي يفي باحتياجات الحاضر والمستقبل.
دور التحرر الاقتصادي في تحقيق التقدم الاقتصادي
أن تقليص دور الدولة وجعل دورها حيادي مع إعطاء المساحة الأكبر للقطاع الخاص والعمل وفق مبادئ اقتصاد السوق، يعني تحرر الاقتصاد وتحقيق التقدم الاقتصادي، إذ إن القطاع الخاص لا يستطيع أن يعمل بكفاءة عالية في ظل هيمنة الدولة وتدخلها في الاقتصاد، كما أن التقدم الاقتصادي لا يحصل في ظل ادارة الدولة للاقتصاد، لان الدولة لا تضمن رفع نوعية المنتجات وخفض اسعارها كما في اقتصاد السوق.
هناك انسجام واضح بل ويمكن القول هناك تطابق بين التقدم الاقتصادي والتحرر الاقتصادي، اي أينما وُجد التحرر الاقتصادي وُجدَ التقدم الاقتصادي والعكس صحيح أينما وُجدَ الاستبداد الاقتصادي وُجدَ التخلف الاقتصادي.
وهذا واضح من خلال الواقع، حيث نلاحظ الدول ذات الاقتصادات المتحرر نجدها دولاً ذات تقدم اقتصادي، كالولايات المتحدة الامريكية على سبيل المثال لا الحصر. وفي المقابل ان الدول ذات الاقتصادات المستبدة هي دول متخلفة كغالبية دول الاتحاد السوفيتي سابقاً ودول النظام الديني كالسعودية وإيران ودول الحزب الواحد كسوريا والعراق ومصر سابقاً.
واقع التحرر والتقدم الاقتصادي في العراق
كان العراق قبل عام ٢٠٠٣ يعاني من الاستبداد بشكل عام والاستبداد الاقتصادي بشكل خاص، حيث كانت الدولة تملك أغلب وسائل الإنتاج وهي المحرك الرئيس للنشاط الاقتصادي ولا يملك القطاع الخاص إلا اشياء محدودة وكان نشاطه محدود أيضاً.
نعم القطاع الخاص أصبح يشكل دور أكبر في الاقتصاد خلال مرحلة التسعينات بعدما سمحت الدولة بذلك بسبب الحصار الاقتصادي الذي جفف الإيرادات النفطية التي تمثل اليد اليمنى للدولة في ممارسة نشاطها الاقتصادي، فاضطرت الدولة لفتح الباب أمام القطاع الخاص ليأخذ دوراً أكبر في الاقتصاد لكن هذا الدور ظل تحت أنظار الدولة ولم يصبح دوراً مركزياً بل هو دوراً ثانوياً.
عموماً، إن الاقتصاد العراق عانى بشكل كبير وحتى الواقع الذي يعيشه بعد عام ٢٠٠٣ بسبب التركة الثقيلة التي خلفها الاستبداد الاقتصادي الذي كان سائداً قبل عام ٢٠٠٣، ومع إعلان التوجه نحو تحرير الاقتصاد العراقي إلا إنه لايزال يعاني الاستبداد الاقتصادي.
حيث تهيمن الدولة على بشكل وآخر على الاقتصاد، سواء عن طريق وضع يدها على عناصر الإنتاج أو عن طريق تعقيد بيئة الأعمال فيحجم القطاع الخاص عن المشاركة في الاقتصاد، وتصبح الدولة هي المحرك الرئيس في الاقتصاد، مما يعني أن التحرر الاقتصادي لم يتحقق بعد.
إن بلد كالعراق مارس الاستبداد الاقتصادي لمدة طويلة انعكست آثاره على المجال السياسي والاجتماعي، لا يمكن أن يحقق التحرر الاقتصادي بالشكل الذي يضمن تحقق التقدم الاقتصادي بصورة مفاجئة وخلال مدة دون وجود دراسات مستفيضة بهذا الخصوص بالتزامن مع جدّية الدولة في التحرر والتقدم من خلال العمل على تطبيق تلك الدراسة إن كانت متوفرة.
ونتيجة لغياب الدراسات أو عدم جدّية الدولة بهذا الخصوص أو كلاهما معاً، نلاحظ أن التحرر الاقتصادي تعثر وبشكل واضح والدليل نلاحظ أن الاقتصاد العراقي يعاني التقهقر والتخلف، حيث يتسم بأحادية الإنتاج وتذبذب النمو الاقتصادي والعجز الداخلي والخارجي وزيادة البطالة والفقر وغيرها من المؤشرات التي تؤكد عدم تحقيق التقدم الاقتصادي نتيجةً لعدم تحقق التحرر الاقتصادي بالشكل السليم.
ومن أجل تحقيق التقدم الاقتصادي لا بُد من العمل على دراسة التحرر الاقتصادي بشكل دقيق والعمل على تطبيقها في الاقتصاد العراقي.
ويمكن تحديد ثلاثة نقاط بهذا الاتجاه هي:
أولاً: انسحاب الدولة من الاقتصاد واقتصار دورها في المجالات التي لا يستطيع القطاع الخاص الولوج إليها.
ثانياً: تهيئة بيئة الأعمال لتكون بيئة جاذبة للقطاع الخاص على الاستثمار وممارسة نشاطه الاقتصادي بانسيابية عالية وضمانات كافية.
ثالثاً: تجذير مبادئ اقتصاد السوق كآلية لعمل القطاع الخاص وبالخصوص المنافسة التي تكفل خفض الأسعار وزيادة نوعية المنتجات.
الخلاصة، انسحاب الدولة من الاقتصاد مع تهيئة بيئة الأعمال وتحذير مبادئ اقتصاد السوق يعني تحقيق التحرر الاقتصادي وكذلك تحقيق التقدم الاقتصادي أيضاً.