اتضح من خلال مقالٍ سابق إن دور الدولة في العراق هو دور توزيعي وليس تنموي ، بحكم استخراج النفط وتصديره ثم توزيع عائداته على بعض المجتمع، عبر قناة المالية العامة، ولم توظف تلك الإيرادات بما يصب في تنمية الاقتصاد العراقي ومجتمعه.
هناك أسباب كثيرة، تقف خلف الدور التوزيعي للدولة، سيتم الإشارة لبعضها مراعاةً لحجم المقال والتخصص، فأحد الأسباب هو الهيمنة، هيمنة الدولة على الاقتصاد، والسبب الثاني هو الريعية، أي الاعتماد على الريع النفطي في تمويل الاقتصاد العراقي، وما تمخض عنهما من دور سلبي في المجتمع أصبح، لاحقاً، سبباً رئيساً في إعاقة إصلاح دور الدولة في الاقتصاد.
من المعروف، إن العراق تبنى النظام الاشتراكي لمدة زمنية طويلة، رافق هذا التبني الاعتماد على النفط بشكل كبير، أسهم هذا التبني في خلق ثقافة اجتماعية إتكالية ريعية، جعلت من الصعوبة مغادرة هذا النظام حتى في ظل تبني السوق كنظام اقتصادي بعد 3003.
لان النظام الاشتراكي يقوم على تدخل الدولة في الاقتصاد بل وتكون القائد الرئيس للاقتصاد برمته، وهذا ما دفع بها لامتلاك اغلب عناصر الإنتاج والقيام بأغلب العمليات الاقتصادية من إنتاج وتوزيع واستهلاك واستيراد وتصدير.
بمعنى آخر، عدم وجود الملكية الخاصة وانعدام الحرية الاقتصادية وغياب المنافسة فضلاً عن وجود الاحتكار من قبل الدولة وعدم فاعلية الأرباح كهدف يسعى لتحقيقها القطاع الخاص وذلك لعدم وجود الملكية والحرية.
إن الترابط(التزاوج) العميق الذي حصل بين السبب الأول، الهيمنة، والثاني، الريعية، أدى إلى صناعة(ولادة) مجتمع ذو ثقافة اتكالية ريعية، ينتظر الدولة أن تعطف عليه بالأموال النفطية وفرص العمل، في ظل تبني الديمقراطية سياسياً بعد عام 2003التي تقوم على إن الشعب هو مصدر السلطات، فهل بالإمكان أن يقوم المجتمع ذو الثقافة الاتكالية الريعية، والذي هو مصدر السلطات، بالمطالبة بإصلاح دور الدولة في الاقتصاد؟! فضلاً عن استقباله والتفاعل معه؟
بالتأكيد، إن المجتمع الذي تربى في ظل الدولة والنفط، لمدة زمنية طويلة، وأصبح تفكيره وسلوكه اتكاليا ريعياً، يكون مجتمع كسول لا يرغب بالعمل والاعتماد على ذاته، فيرفض تخلي الدولة وقطع النفط عنه بل لا يقبل استقبال فكرة إصلاح دور الدولة في الاقتصاد، فثقافة المجتمع الاتكالية-الريعية، أصبحت أحد العوائق الرئيسة في إجراء عملية إصلاح دور الدولة في الاقتصاد.
إذن، من يريد إصلاح الدور الاقتصادي للدولة في العراق، عليه في بداية الأمر، معالجة الثقافة، الاتكالية والريعية، المتراكمة عبر الزمن، والتي لا تنسجم مع الدور الجديد للدولة، ثم العمل على إرساء ثقافة جديدة تنسجم مع النظام الجديد، من خلال دعم المؤسسات التي تعمل على صياغة ثقافة المجتمع بالشكل المطلوب حتى يستطيع أن يستقبل النظام الجديد والتفاعل معه.
ويُمكن العمل بشكل متزامن، أي في الوقت الذي يتم العمل على زراعة ثقافة الإنتاجية والاعتماد على الذات، يتم التخلي التدريجي من قبل الدولة عن التدخل في الاقتصاد، واعتماد الملكية الخاصة والحرية الاقتصادية والمنافسة كأساس للانطلاق نحو البناء الاقتصادي الرصين.
وتجب الإشارة، إلى إنه لا يمكن إصلاح دور الدولة في الاقتصاد العراقي الذي كان يعتمد كلياً على الدولة من خلال التخلي المفاجئ، لان هذا الأخير سيؤدي إلى تضخم الآثار التي سيتركها على المجتمع وهذا ما حصل بالفعل بعد عام 2003.
فكان المفروض، أن يتم في بداية الأمر تهيئة البيئة المناسبة وجعل المجتمع مستعداً للتخلي عن الدولة والذهاب نحو الاعتماد على الذات، ثم يبدأ التخلي عن الدولة بشكل تدريجي ووفق خطة معينة تتحدد فيها مراحل التخلي والمجالات المشمولة والتوقيتات الزمنية.
ويمكن القول، إن البداية، تبدأ من أمور رئيسة هي:
أولاً: محاربة الفساد، لان العراق يحتل المرتبة 162 من اصل 180 دولة في عام 2019، والدولة تحتل النسبة الأكبر منه، ويمثل الفساد كلفة يتحملها المنتج دون إن تسهم في إضافة شيء لعملية الإنتاج مما يعني انخفاض الأرباح فيحجم المستثمر عن الاستثمار ثانياً، فمحاربة الفساد تمثل بداية إصلاح دور الدولة في الاقتصاد العراقي.
ثانياً: مغادرة البيروقراطية وتبسيط الإجراءات الحكومية على اعتبار إن تعقد الإجراءات تُنفر المستثمر من الاستثمار. وبما إن العراق يعاني من تعقد بيئة الأعمال كما يشر لهذا البنك الدولي في مؤشر سهولة أداء الأعمال، ويحتل العراق بموجبه المرتبة 172 من اصل 190دولة، فالعمل على مغادرة البيروقراطية وتبسيط الإجراءات تمثل جزء من إصلاح دور الدولة في العراق كونها تحفز القطاع الخاص على الاستثمار في هذه البيئة السلسة.
ثالثاً: التخلي عن ملكية الأرض وفسح المجال لامتلاكها من قبل الأفراد، كون الدولة تملك أكثر من 80% الأراضي، وهذا ما يعطي حافزاً كبيراً للاستثمار والنشاط الاقتصادي...
رابعاً: العمل بآلية الشركة، أي شراكة القطاع الخاص وخصوصاً الوطني حتى يستعيد ثقته بنفسه أولاً وثقة الجمهور به ثانياً، وبهذا نستطيع القول نحن بالاتجاه الصحيح.
خامساً: الاهتمام بالبنية التحتية، بما إن العراق يعاني من ضعف البنية التحتية وعدم إقبال القطاع الخاص عليها كونها تتطلب رؤوس أموال كبيرة وتتميز بطول فترة استرداد رؤوس الأموال، إذن في هذه الحالة، من الأفضل إن تصب الدولة جُل اهتمامها في هذا المجال لبناء قاعدة أساسية ينطلق منها القطاع الخاص.