سوف تنتهي الهيمنة ويولد عالم جديد، والأفضل للأوساط الأكاديمية في العلوم السياسية والاجتماع والتاريخ والاقتصاد وسواها المبادرة بإدانة تبرير الهيمنة وتعريتها في مجتمعات الدول المتقدمة والنامية على حد سواء
يعبر مفهوم الناتج المحلي عن مجموع القدرة الفعلية لانتاج السلع والخدمات، ومنذ النصف الثاني للسبعينات أصبح من الممكن قياس الناتج بوحدة نقدية متعادلة القوة الشرائية عبر البلدان او الدولار الدولي، ما يعني الغاء فروقات الأسعار عند المقارنة بين الولايات المتحدة وبقية دول العالم، ويسمى القياس الجديد تعادل القدرة الشرائية Purchasing Power Parity ويرمز له PPP. وبحسب المقياس الجديد يقترب الناتج المحلي للعالم من 130 ترليون دولار عام 2016 بأسعار عام 2011، بينما لا يتجاوز 80 ترليون دولار عند استخدام اسعار الصرف الاعتيادية وبغض النظر عن تفاوت الأسعار المحلية للسلع والخدمات.
المهم حسب المقياس الجديد صارت الصين هي الدولة الاقتصادية الأكبر في العالم. وبينما كانت حصة الولايات المتحدة 19.6، تقريبا 20 بالمائة من ناتج العالم عام 1990، عند انهيار الاتحاد السوفيتي، تراجعت الى 15.4 بالمائة عام 2016. في المقابل تغير اسهام الصين من 3.7 بالمائة الى 17.7 بالمائة من ناتج العالم لنفس السنتين. اليس هذا التغير كبير مادام الجميع يتفق على اهمية الاقتصاد في توزيع القوة بين الدول والمناطق. لماذا لم ينعكس في السياسة الدولية لحد الآن؟
وايضا نلاحظ تراجع فرنسا وبريطانيا وروسيا مجتمعة من 13.4 بالمائة الى 7.8 بالمائة من ناتج العالم، بين سنتي 1990 و2016 بينما لازالت هذه الدول الثلاث مع الولايات المتحدة الأمريكية تكاد تنفرد في ادارة السياسة الدولية وليست بعيدة عن صناعة الحروب واطفائها ومسلسل سفك الدماء في دولنا وعذابات الشعوب. طبعا مع اختلاف النمط الروسي ومرجعياته عن الدول الثلاث الأخرى، وايضا يكاد لا يتجاوز دور الدول الكبرى جميعها ابداء ملاحظات وتحركات محدودة على هامش الفعل الأمريكي والذي يؤكد الاصرار على الهيمنة دون تحفظ.
وأكثر من ذلك كان المعروف ولحد الأن ان الصناعة التحويلية هي مرتكز القدرة التي تسميها الأدبيات الدارجة " استراتيجية"، وها هي الصين تجاوزت الولايات المتحدة الأمريكية بفارق واضح في القيمة المضافة للصناعة التحويلية، والى ذلك اصبحت الدولة التجارية الأولى في العالم. وليس هذا فقط بل ان أكثر ناتج العالم هو للدول النامية والناهضة 58 بالمائة ومنها الصين والهند والبرازيل وجنوب افريقيا. والجزء الآخر 42 بالمائة للدول المتقدمة التقليدية والجديدة. ونتساءل اين أثر الاقتصاد في السياسة، والعالم لم يختلف بقدر ملموس عن ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وعند مراجعة هذه الأرقام قد يفسر ثبات السياسة مع تغير الاقتصاد باستمرار تركز القدرات التكنولوجيا في غرب اوربا وشمال امريكا واليابان وروسيا، الى جانب التفوق التكنولوجي للولايات المتحدة التي تنفرد بالريادة وانتاج التقنيات الجديدة. وقد يتبادر الى الذهن، خطأ، ان تكامل القدرات التقنية توافر للولايات المتحدة وبقية السبع الكبار وروسيا. فهذه الدول تملك مقومات الاستقلال وتتعذر محاصرتها، اذ تستطيع بقدراتها الوطنية الذاتية انجاز اعقد برامج تطوير الطاقات الإنتاجية في التعدين والاستخراج والصناعة التحويلية وجميع مكونات الطاقة والبناء التحتي ناهيك عن السلاح التقليدي والدمار الشامل.
لكن هذا الانطباع غير صحيح اذ ان الهند والصين والبرازيل ودول اخرى تمتلك قدرات تقنية متكاملة في الصناعة والطاقة والسلاح.
ولأن الأنفاق على البحث والتطوير R&D هو المؤشر على مدى عناية الدول بالاختراع والابتكار ونزوعها نحو الاستقلال التقني او التنافس على الصعيد الدولي في هذا المجال، فإن الوقوف على ارقام الانفاق المقارن على البحث والتطوير يكشف عن حقائق اخرى.
فالبيانات المنشورة عن السنوات 2013-2015 تبين ان الولايات المتحدة الأمريكية قد انفقت 473 مليار دولار على البحث والتطوير والصين 419 مليار دولار، ما يعني ان الأخيرة انتقلت من اقتحام الأسواق الخارجية بالصناعة الى التنافس على القيادة التقنية. ونسبة ما تنفقه الصين على البحث والتطوير 2.1 بالمائة من ناتجها الإجمالي وهذه النسبة في الولايات المتحدة 2.7 بالمائة، ما يفيد امكانية الصين ادامة التنافس دون ضغوط ترهق اقتصادها. وبنفس المعنى انفقت اليابان والمانيا وكوريا الجنوبية 180 و109 و92 مليار دولار في السنة على التوالي، بينما انفقت فرنسا 60 مليار دولار وكل من روسيا وبريطانيا 45 مليار دولار في السنة أي أدنى من الهند 66 مليار دولار.
لقد انتقل ثقل الاقتصاد العالمي نحو آسيا، وربما بعد مدة ليست بعيدة تنتقل الى هناك الريادة التقنية، لكن السياسة بقيت كماهي.
من قراءة نتاجات مراكز الأبحاث السياسية الأمريكية نلاحظ اتفاقها على مبدأ الهيمنة Domination في السياسة الدولية للولايات المتحدة، ومن الناحية العملية لا تختلف مدارسهم سوى بين ما يسمى الهيمنة الأيديولوجية وهيمنة الواقعية السياسية، الأولى تنزع نحو تعميم النموذج الأمريكي (القيم الأمريكية بما في ذلك ليبرالية فريدوم هاوس) بالإضافة الى السيطرة، والثانية تكتفي دون ذلك بالولاء السياسي والانضواء الاستراتيجي تحت المظلة الأمريكية.
ان التغيرات الجوهرية في الاقتصاد ينتظر منها منطقيا تحول الولايات المتحدة نحو عقيدة Doctrine أخرى في استراتيجيتها الدولية وهذا لم يحصل لحد الآن. روسيا وفرنسا وبريطانية، والى حد ما المانيا، تريد هذه الدول الشراكة في الهيمنة مع الولايات المتحدة الأمريكية. بينما الحقائق الموضوعية تقتضي نبذ الهيمنة، كليا، نحو شراكة من طراز آخر قوامها تعاون الدول الكبرى اقتصاديا وتقنيا في حفظ الأمن العالمي وضمان احترام استقلال الدول وتكافؤها في السيادة.
ومع الأسف دول منطقتنا ورغم قدراتها التقنية الضئيلة وافتقارها الى الاستقلال الفعلي تستنسخ مبدا الهيمنة الأمريكية على المستوى الإقليمي والذي جر على شعوبها الويلات منذ عام 1952 والى يومنا.
ومن المؤلم ان كتاب السياسة في اللغة العربية وكتابات خبراء ومثقفي هذه البلدان في اللغة الإنكليزية، على قدر اطلاعي، ينطلقون من التعامل مع مبدأ الهيمنة وكأنه قانون طبيعي ويتشاطرون في تكريسه دون وعي، بحيث لم يعد التدخل السافر للدول الكبرى في بلادنا يواجه بالاستهجان والادانة الأخلاقية القطعية.
ان سياسة الهيمنة سوف تصل الى طريق مسدود ويتخلى عنها العالم لأنها ضد القوانين الموضوعية للتطور كما افهما وهي لا اخلاقية قطعا، ولكن بعدما تعاني الإنسانية المزيد من الويلات وخسائر في فرص الرفاه والعدالة والحرية. سوف تنتهي الهيمنة ويولد عالم جديد، والأفضل للأوساط الأكاديمية في العلوم السياسية والاجتماع والتاريخ والاقتصاد وسواها المبادرة بإدانة تبرير الهيمنة وتعريتها في مجتمعات الدول المتقدمة والنامية على حد سواء. وفضح الشعوذات والأفكار الدموية التي حاولت تضليل البشر بالقول ان الهيمنة والنزاع على السيطرة حتمية مغروسة في طبيعة نظام العالم ولا مفر منها. ان الأنسان كائن اخلاقي وارادة البشر حقيقة كبرى وكذلك مسؤوليتهم عن واقعهم ومصيرهم.
اضافةتعليق