على الرغم من العلاقات السياسية والاقتصادية، فضلا عن العلاقات الاجتماعية والدينية الوثيقة التي تربط الجمهورية الإسلامية الإيرانية مع العراق، لاسيما بعد العام 2003، ومساعدتها العسكرية ومواقفها الإيجابية أتجاه الدولة العراقية بعد اجتياح تنظيم "داعش" محافظة الموصل في 10/حزيران/2014 وبعض المحافظات الشمالية والغربية. وفي الوقت الذي أخذت به بعض الدول العربية والإقليمية موقف المتفرج من اجتياح التنظيم الإرهابي للعراق، إذ كانت تنتظر تلك الدول ‘‘الدول العربية وتركيا‘‘نبأ سقوط العاصمة العراقية بيد التنظيم والإعلان عن نسف العملية السياسية العراقية الحالية برمتها، فضلاً عن الموقف الأمريكي والغربي بشكل عام الذي لم يختلف عن الموقف العربي والإقليمي. سارعت إيران في تقديم الدعم العسكري واللوجستي وامداد المقاتلين العراقيين بالسلاح من أجل وقف الزحف الإرهابي باتجاه العاصمة بغداد، حتى تمكنت القوات العراقية والمتطوعين من استيعاب الصدمة العسكرية والنفسية التي خلفها سقوط الموصل "بساعات"، والزحف السريع لتنظيم "داعش" باتجاه العاصمة بغداد الذي توقف عند حدودها الشمالية، لتأخذ بعدها قوات الامن العراقية والمتطوعين بعد ‘‘فتوى المرجعية الدينية المباركة‘‘ زمام المبادرة، واستعادت عافيتها بشكل تدريجي، لتُبادر بعد ذلك وتنتقل من حالة الدفاع إلى الهجوم في خطوة جديدة باتجاه تحرير الأراضي العراقية التي تقبع تحت سيطرة تنظيم "داعش" تدريجيا. إلا أن ذلك لا يقف مانعاً امام الكثيرين من (المحللين والأكاديميين والمختصين وأصحاب الشأن) من توجيه سهام النقد إلى سياسة إيران الخارجية أتجاه المنطقة بشكل عام والعراق بشكل خاص، لاسيما بعد عام 2003.
بشكلٍ عام، تقوم سياسة إيران الخارجية "الإقليمية" على سياسة التوسع ومد النفوذ الإقليمي في المنطقة من خلال جمع الحلفاء الشيعة أو ما يسمى بـ "محور المقاومة" في (لبنان، سوريا، العراق واليمن) مع الاحتفاظ بعلاقاتها الخارجية الوطيدة مع بعض الدول كـ "تركيا" من أجل الحفاظ على مصالها السياسية والاقتصادية المتبادلة مثل حجم التبادل الاقتصادي بين البلدين في مجال النفط والغاز والمنسوجات، فضلا عن مصلحة الطرفين المشتركة في محاربة أي تمرد كردي على حدودهما والوقوف بوجه الاطماع الكردية من اجل الاستقلال وقيام دولة كردية في المستقبل. وهذا ربما يكون حق طبيعي متاح لكل الدول في الحفاظ على مصالحها السياسية والاقتصادية وحماية أمنها القومي، طالما لم تستخدم القوة العسكرية اتجاه الدول الأخرى، انطلاقاً من مفاهيم النظرية الواقعية والمصالح الجيوسياسية في السياسة الخارجية للدول في المحيط الإقليمي والدولي. لكن الوضع مع العراق مختلف كثيراً؛ لأن العلاقات الإيرانية العراقية قبل عام 2003 كانت متوترة، لاسيما مع المكون السني العراقي (وهنا تكمن المشكلة).
بعد العام 2003 دعمت إيران العملية السياسية العراقية وباركت بها في الوقت الذي قاطعتها اغلب الدول العربية، ولاسيما الخليجية منها وبشكل علني، إذ كانت العملية السياسية العراقية مقتصرة في الغالب على المكون الكردي والشيعي، وحتى بعد مشاركة المكون السني فيها والتصويت على الدستور ودخول الاحزاب السنية كشريك سياسي في العملية السياسية الفتية، لم تبادر إيران إلى سد الفجوة التي خلفها نظام صدام حسين مع المكون السني بشكل عام، أو لربما بادرت إلى تحسين العلاقة مع المكون السني، إلا أن هذا التحّسن لم يكن بالمستوى المطلوب، واقتصر على المستوى السياسي فقط؛ لأن العملية السياسية العراقية بشكل عام (بسنتها وشيعتها) كانت مقتصرة على مجموعة (أحزاب وأشخاص وقوى سياسية غير شعبية) أي بعيدة كليا عن القاعدة الشعبية أو المجتمع بشكل عام، ولم تبادر إيران في مد جسور التعاون والثقة مع المجتمع السني كـ (مؤسسة دينية أو مؤسسة ثقافية "علمية" أو كـ ‘‘مجتمعات عشائرية وقبلية‘‘ على أقل تقدير)، ولهذا بقيت الفجوة تزداد بين إيران كـ (حكومة وشعب) وبين المكون السني في العراق، لاسيما في الظل التواجد الإيراني المستمر في العراق والدعم السياسي للأحزاب الشيعية، الأمر الذي استغلته بعض المؤسسات والشخصيات الدينية والسياسية "السنية" المتطرفة، فضلاً عن استياء أفراد حزب البعث المنحل، والذين أقصوا من وظائفهم بسبب انتمائهم للحزب المحظور، فبادروا الى استغلال نقاط الضعف هذه، ليسهِموا في توسيع حالة الشرخ السياسي والمجتمعي ضد إيران. وهذه كانت أولى النقاط وأبرزها التي استغلها تنظيمي "القاعدة" و "داعش" لتدعيم صفوفه من الشباب في المناطق الغربية والشمالية ذات الغالبية السنية ضد الحكومة العراقية ومحاربة القوات الأمنية، لكونها حكومة خاضعة للاحتلال الإيراني ‘‘على حد وصف تلك التنظيمات الإرهابية‘‘. ومن المآخذ التي تّسجل على إيران وسياستها اتجاه العراق، بأنها لم تبادر إلى التعامل مع الدولة العراقية أو الحكومة العراقية بشكل رسمي على أساس الشراكة السياسية والمصالح الاقتصادية كـ "دولة وحكومة" كما تتعامل مع جارتها الدولة التركية –على سبيل المثال- وإنما كانت سياستها انتقائية في التعامل مع الاحزاب والقوى السياسية العراقية، لاسيما مع الاحزاب الشيعية، ولم تبادر كذلك على أقل تقدير الى لملمة البيت الشيعي للخروج برؤية سياسية موحدة أتجاه العملية السياسية والقضايا المصيرية الحساسة، بل كانت الاحزاب الشيعية منقسمة فيما بينها باستمرار وعادة ما تتأزم العلاقة بينها. وقد مثلت إيران مرجعاً سياسياً للأحزاب الشيعية بشكل عام، لكن ليس بالمرجعية الموثوق بها من قبل كل الاطراف الشيعية. وربما هناك نقطة ثالثة في غاية الأهمية يمكن أن تُؤخذ على السياسة الإيرانية اتجاه العراق، وهي أن طهران عمدت باستمرار الى جعل الساحة العراقية بعد عام 2003 "ساحة صراع" إقليمي وتصفية حسابات مع خصومها التقليدين سواء مع السعودية أو مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأخذت بتشكيل الفصائل الشيعية العراقية فيما بعد؛ لتشرف على تدريبها وتسليحها، وتزجها في تلك الصراعات، فضلاً عن ارتباطها الأيديولوجي والعقائدي؛ وذلك من أجل تقويض المشروع الأمريكي بالعراق بعد العام 2003، ومشروع إعادة العراق إلى مكانته السابقة قبل 2003. بل الأكثر من ذلك اخذت إيران تساهم في حالة الانقسامات لبعض القوى السياسية أو التيارات الدينية من أجل إعادة بنية تلك التيارات بما يتوافق مع المصلحة الإيرانية في العراق أو أضعافها سياسياً وشعبيا وربطها فيما بعد بتشكيلات مسلحة ترتبط بها سياسيا وعقائدياً على غرار "حزب الله" اللبناني.
ومّثل اجتياح تنظيم "داعش" الإرهابي فرصة كبيرة لإيران في للإعلان عن تشكيل الفصائل الشيعية المسلحة في العراق بشكل علني والاشراف على تدريبها ودعمها بالأسلحة والمال، فضلاً عن الارتباط السياسي والايديولوجي البعيد عن الحكومة العراقية، متجاهلة بذلك دعم وتدريب وتمويل المؤسسة العسكرية العراقية الرسمية مثل "الجيش والشرطة والقوات الأخرى"، حتى أخذت تلك الفصائل تستقوي على المؤسسة العسكرية الرسمية بشكل علني وتجوب بأسلحتها الشوارع والمدن الآمنة، (أي بالمجمل أن إيران اليوم متهمة بإضعاف المؤسسة العسكرية العراقية لحساب الفصائل المسلحة). ولهذا هناك من يتهم بعض قوات الحشد الشعبي بأنها قوات مرتبطة سياسياً وأيديولوجيا بإيران. "وعلى حد وصف بعض المختصين" بأنها مرتبطة أيديولوجيا بـ ‘‘المرشد الأعلى‘‘، وسياسياً بالجنرال ‘‘قاسم سليماني‘‘. فضلاً عن ذلك فأن إيران متهمة أيضاً بدعم الفاسدين في الحكومة؛ لأنها "ولطالما" كانت تمثل مظلة سياسية حامية لكثير من الاسماء والشخصيات المتهمة بالفساد وتدهور الوضع السياسي والاقتصادي بشكل عام. ولكونها أيضاً لم تبادر إلى حلحلة الأزمات وتسويتها عبر الضغط على حلفائها من الشيعة والكرد وكذلك بعض سياسي السنة. وحتى مع انطلاق الثورات الشعبية في وسط وجنوب العراق في العام الماضي، فأن إيران كانت متخوفة من الإطاحة ببعض حلفائها ممن هم في مراكز صنع القرار العراقي ‘‘من السنة والشيعة‘‘. ولهذه الأسباب وغيرها ينتقد الكثيرون سياسة إيران الخارجية أتجاه العراق، على الرغم من المواقف الإيجابية للحكومة الإيرانية مع الحكومة العراقية. وعليه فإن الحكومة الإيرانية مطالبة بسياسة خارجية أكثر وضوحاً أتجاه الحكومة في بغداد، سياسة قائمة على الاحترام المتبادل للسيادة الوطنية وحسن الجوار وفقاً لمبادئ العلاقات الدولية والقانون الدولي.
اضافةتعليق