إن طبيعة العلاقات التركية الروسية يغلب عليها الطابع المميز لمسار العلاقات الدولية، فعلى مدار التاريخ الطويل للدولتين مرت علاقاتهما بموجات من الصعود والهبوط ارتباطا بتوجهات القيادة السياسية في الدولتين من ناحية، وبالارتباطات الدولية والإقليمية لكل طرف من ناحية أخرى، وبطبيعة القضايا والمشكلات الخلافية بينهما من ناحية ثالثة، فيذكر أن هناك ميراثاً تاريخياً من الخلافات بين البلدين، منها: الخلافات حول المرور في مضيق البوسفور، والتنافس على نقل بترول آسيا الوسطى، والموقف من قضية النزاع حول منطقة "ناغورنو كاراباخ"، بين أذربيجان وأرمينيا، والقضية القبرصية، والدعم الروسي لليونان، ومشكلة الشيشان والموقف التركي منها. وواحدة من اسباب تصاعد الأزمة الحالية بين الروس والاتراك هي قضية التدخل الروسي في سوريا والمصالح المتضاربة بين الروس والاتراك بين بقاء نظام بشار الاسد ورحيله، فضلاً على تعصب القيادة التركية المتمثلة بـ اوردوغان، والخلاف بين الرئيسين بوتين و اوردوغان، التي وصلت لحد السجال والقاء التهم بين الاثنين في وقت سابق. ولعل الخلاف بين الطرفين بشأن الازمة السورية، والعلاقة الأمريكية التركية، وعضوية الاخير بحلف الناتو، والعلاقة التركية الجورجية. كل تلك المشكلات باستثناء الازمة السورية هي خلافات سابقة أو خلافات لايمكن أن تؤدي إلى الصدام المباشر، وقد عفى عليها الزمن، إلا أن نقطة التحول في العلاقات التركية الروسية، تغيرت بعد التدخل الروسي في سوريا ودعمه لنظام بشار الاسد، ولعل الاخطر من ذلك، والذي كان يدور منذ تدخل روسيا في المنطقة قد حدث بإسقاط الطائرة الروسية، طائرة سيخوي من طراز "سو- 24" فوق جبل التركمان. إذ تقول تركيا أنها اخترقت الاجواء التركية لعشرة مرات خلال 5دقائق وتم تحذيرها بشكل متكرر ولم تستجيب الطائرة للتحذير، مما ادى إلى سقوط الطائرة وقتل الطيارين في منطقة جبل التركمان كما تشير بعض المصادر. وبالمقابل صرح الكرملين بأن الطائرة الروسية لم تخترق الاجواء التركية وكانت على بعد 4 كيلومتر أو أكثر عن الحدود المسموح بها، وهي داخل الاجواء السورية أي في المناطق التي يدور فيها قتال. وبغض النظر عن أن الطائرة اخترقت الاجواء التركية أم لم تخترقها، إلا أن من المؤكد بأن لتلك الحادثة تداعيات خطيرة على المنطقة، وتمثل تشنج كبير في العلاقات التركية الروسية المتوترة أصلاً.
وقد وعد الكرملين بأن حادثة اسقاط الطائرة سابقة خطيرة، وقد تلقي بضلالها على العلاقات التركية الروسية. ووصف الرئيس الروسي بوتين الحادثة خلال زيارته العاهل الأردني، بأن حادثة اسقاط الطائرة الروسية "طعنة في الظهر من قبل قوى داعمة للإرهاب"، مؤكداً بأن روسيا لن تتسامح مع هكذا جرائم، كحادثة الهجوم على الطائرة الروسية. وهذا يشير إلى الاتهام الروسي المتكرر لتركيا بأنها هي من تساعد تنظيم داعش وتدعمه اقتصادياً، محذراً تركيا بالقول: "ستكون هناك عواقب وخيمة على العلاقات بين موسكو وأنقره". في المقابل لم يكن الموقف التركي اقل قوة من ردت الفعل الروسية، وقد جاء الرد على لسان رئيس الوزراء احمد داود أوغلو بأن " من حق تركيا الرد على انتهاك مجالها الحيوي". وقد استدعت موسكو الملحق العسكري التركي لديها بعدما اكدت السفارة الروسية في أنقرة على استدعاء وزارة الخارجية التركية الوزير المفوض لدى سفارتها "سيرغي باتوف". وقد طلبت تركيا من حلف الناتو اجراء مشاورات حول الحادث، وهذا ما يغيظ الروس أكثر؛ لأن حادثة سقوط الطائرة الروسية يعد الأول من نوعه من قبل دولة عضو في حلف الناتو منذ خمسينيات القرن الماضي، ولموقف الروس من حلف شمال الأطلسي أذ أن أحد أسباب خلاف الروس مع تركيا هو بسبب عضويتها بحلف الناتو.
وتعد حادثة اسقاط الطائرة الروسية من قبل المقاتلات التركية سابقة خطيرة في العلاقة بين البلدين، وتصعيد كبير في مسار الاحداث المتلاحقة في المنطقة، وقد تلقي بضلالها على الجهود الدولية في مكافحة الإرهاب، لاسيما الجهود الفرنسية والأوروبية الساعية إلى توحيد جهود المجموعة الدولية من أجل محاربة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" بعد الاحداث الاخيرة التي ضربت العاصمة الفرنسية "باريس"، ونجاح الاخيرة في كسب قرار مجلس الأمن من أجل تظافر الجهود في ضرب تنظيم "داعش". وبالتأكيد ستتصاعد الأزمة السياسية بين البلدين في ظل التواجد الروسي في المنطقة، وربما لن تكون حادثة اسقاط الطائرة، الحادثة الأخيرة، وقد يترتب عليها تداعياتها خطيرة، لاسيما بعد وفاة الطيارين، وربما تنذر تلك الحادثة بمواجهة أو صدام مباشر بين الطرفين في حالة تكرار الحادث، لاسيما في ظل الموقف المتشنج وتراكم الازمات بين البلدين. فاذا ما حاولت تركيا استفزاز الروس مرة ثانية، سيكون للروس ردود فعل غاضبة، وقد تنذر بمواجهة عسكرية، وستكون الفصائل المسلحة التي تدعمها تركيا ودول الخليج هدفاً للطائرات الروسية بعد هذا الحادث، لاسيما وأن قتل الطيارين جاء على يد تلك الجماعات بعد هبوطهما بالمظلة. وسيحاول الروس رد الاعتبار لهم في قادم الأيام، وربما سكوت الروس لحد الآن هو لمعرفة ملابسات الحادث، والوقوف على تفاصيله، من خلال تشخيص مكان سقوط الطائرة، والتأكد هل كانت الطائرة ضمن الاجواء السورية أم اخترقت الاجواء التركية؟ وإذا كانت الطائرة ضمن الاجواء السورية لماذا تعمدت تركيا اسقاطها؟ وماهو مصير الطيارين؟ وما هي طبيعة الموقف الدولي وحلف الناتو؟ لاسيما إذا ما توافقت الرؤية الروسية مع روايتها القائلة بأن طائرتها لم تخترق الاجواء التركية. كل تلك المواقف سيكون لها أثر كبير في تحديد الموقف الروسي من الاتراك، لاسيما الموقف العسكري الذي يستبعده البعض. مما سينذر بتصاعد الأزمة بين البلدين وتصاعد حالة عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. لاسيما بعد ورود بعض الاخبار التي تشير بأن سفينتان حربيتان روسيتان عبرتا مضيق جناق قلعة (الدردنيل)، شمال غرب تركيا، وعبرت السفينة بحر مرمرة ومنه إلى البحر الأسود دون أن تتضح وجهتها النهائية.
والشيء المؤكد هو أنه سيكون لتلك الحادثة تداعيات غير عسكرية، ربما تتمثل في التقاطع الدبلوماسي بين الطرفين، وسحب كل دولة سفيرها من الدولة الأخرى، كذلك سيكون التقاطع التجاري والاقتصادي بين البلدين احد تداعيات هذا الحادث، وربما تفرض روسيا عقوبات اقتصادية على تركيا. وكان أول تداعيات الحادث، هو الغاء وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف زيارته يوم غدا الاربعاء إلى تركيا. كذلك اوصى اتحاد السياحة الروسي بوقف بيع تذاكر الرحلات إلى تركيا. كذلك ادى الحادث إلى بعض التداعيات الدولية، فالموقف الأوروبي بانتظار دراسة الموقف النهائي للحادث ومنع التصعيد بين الطرفين، والموقف الأمريكي عن طريق البنتاغون أكد بأن تركيا لم تتصرف في حادثة الطائرة بوصفها شريكة واشنطن، وإنما لحماية اجوائها، وأن القوات الأمريكية لم تشارك في هذه الحادثة، أما التشيك فقد انتقدت تركيا ووصف رئيسها "ميلوش زيمان" تصرفات أنقره بأنها ستعكر الاجواء في المنطقة، وقد اكد وزير خارجيتها "لوبومير زاوراليك" بأن " الحادث يعد تنبيهاً، وأن على المجتمع الدولي الجلوس إلى طاولة واحدة والتوصل إلى اتفاق وإلا فليعمل لصالح الإرهابيين، بينما اعربت المانيا عن مخاوفها من الحادث متخوفة أن يتسبب الحادث في تعقد المفاوضات بشأن سوريا، أما الرئيس الشيشاني "رمضان قاديروف" فقد قال بأن "تركيا ستندم طويلاً لإسقاطها الطائرة الروسية.
وبهذا يمكن القول بأن الموقف الروسي النهائي يتجلى بدراسة الحادث بكل تفاصليه، ومعرفة موقف المجتمع الدولي دون تفرد، ومن ثم اتخاذ الاجراء اللازم اتجاه تركيا، إلا أن المجتمع الدولي والأمم المتحدة ستحاول تهدئة الأجواء بين الطرفين ومنع التصعيد العسكري، واجماع كل الاطراف على هدف مشترك وهو مقاتلة تنظيم "داعش" الذي يهدد أمن أوروبا بأكملها، وسيحاول المجتمع الدولي تهدئة الروس بعدم تكرار مثل هكذا حوادث من الجانب التركي، إلا أن تداعيات الحادث السياسية ستلقي بضلالها على العلاقات الروسية التركية وستكون لها تداعيات على مستقبل العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية والسياحية بين البلدين.
اضافةتعليق