الخاسر والرابح في الاتفاق النووي الغربي - الإيراني

برز الملف النووي الإيراني كقضية تحمل في طياتها عوامل الشد والجذب في أروقة الهيئات والمؤسسات الدولية وعلى طاولة المفاوضات الدبلوماسية والعسكرية عند صانعي السياسة العالمية ، ويبدوا أن التكنولوجية النووية التي عكفت حكومة طهران على تطويرها وامتلاكها أحدثت اختراقا كبيرا وعظيما للمنظومة الدولية الاحتكارية في هذا الجانب ، تلك المنظومة التي عكفت الدول الكبرى والغربية على التحكم بماركة إنتاجها وترك الدول الأخرى تحت رحمة استهلاكها من باب التفوق والردع التكنولوجي والعسكري ، فالدول الكبرى في شتى المجالات وخاصة في مجال التكنولوجية النووية والذرية تضع للآخرين خطا احمرا من اجل عدم الولوج إلى هذا المركب العلمي العالمي الحديث والمعاصر ،وما يزيد من إصرار الدول الكبرى في إعاقة وتفكيك التكنولوجية النووية الإيرانية أنها برزت في منطقة تمثل قلب المصالح العالمية للدول الكبرى وخاصة مصالح الولايات المتحدة الأمريكية أي منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي ، فظهور قطب إقليمي يحمل هذه المزايا يهدد مصالحها وكذلك يهدد مصالح ووجود إسرائيل في المنطقة . لقد اخذ الملف النووي الإيراني بداياته منذ زمن الشاه حيث كانت آنذاك حكومة الشاه حليفة للغرب فعملت الشركات الفرنسية والبريطانية والأمريكية على بذر نواة المنشآت النووية الإيرانية الحالية لكن توقف هذا البرنامج بفعل التغيّـر السياسي الذي حدث في إيران عام 1979م ، والذي افجع الغرب وإسرائيل وغير كل الحسابات والموازين في المنطقة والعالم وما تبعه من إقحام إيران في حرب مع العراق لمدة ثمان سنوات ، لكن بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية عام 1988م عكفت حكومة طهران على المضي قدما في برامجها النووية والذرية ، والدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية هي أدرى بحجم وتطور هذه التكنولوجيا لدى طهران لأنها هي أول من بادر إليها. وفي عام 2006 ابتدأ التشديد والإصرار اتجاه إيران من بعض الدول الغربية ودولا إقليمية أخرى انطلاقا من حسابات عسكرية كما هو الحال في موقف إسرائيل، والبعض منها مواقف أيديولوجية ، كما هو الحال في موقف المملكة العربية السعودية التي سخرت علاقاتها مع الولايات المتحدة من اجل الضغط في سبيل تفكيك المنشآت النووية الإيرانية. أيقنت إيران آنذاك أنها في سباق مع الزمن من اجل أتمام مشاريعها النووية لدخول النادي النووي العالمي من أوسع أبوابة بعد إتمام كل من مفاعلي ( أراك و بوشهر القريب من مياه الخليج ) ، وبدأت العقوبات الأمريكية والغربية تمارس على إيران ابتداء بالعقوبات العسكرية ومن ثم الاقتصادية ، وحاولت الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الاستفادة من مزايا نزع السلاح الليبي في زمن ألقذافي وكذلك من سطوتهما في إسقاط وارضاخ الدول والأنظمة في المنطقة كالنظام الأفغاني والنظام العراقي السابق ، كما إن المستفيدين من تطور وامتلاك التكنولوجيا النووية السلمية لدى إيران تنفسوا الصعداء بينما الخاسرون في الجانب الأخر اعترفوا بتلك الحقيقة التي تكمن في إن إرادة الشعوب في التطور والتقدم لا تقيّـَد أو تُـصادَر تحت وسائل الضغط الاقتصادي والعسكري والإعلامي ، وفيما يلي سنوضح من هم الرابحون والخاسرون في هذا الملف : • الدول المستفيدة والرابحة :- - لاشك أن الدول النامية أو ما يصطلح عليها بدول العالم الثالث هي المستفيد الأول والأخير من التطور التكنولوجي النووي السلمي الإيراني ، كون هذه الدول تعاني من سطوة التبعية للتكنولوجية النووية السلمية الاحتكارية في هذا الجانب ، ويبدوا إن هذه الدول مدركة لتلك الحقيقة ، لكن القرار السياسي والإرادة سلبت من بعضها من قبل الغرب الذي جردها من كل شيء يجعلها دولا ًمنتجةً. - ومن دول المنطقة ( جمهورية مصر العربية ) التي تناضل منذ زمن بعيد من اجل امتلاك هذه التكنولوجيا لكن يبدو أن مصر في الوقت الحاضر تحاول فك الخناق المفروض على مساعيها في هذا الجانب أسوةً بما توصلت إليه إيران ببرنامجها هذا على الصعيد العملي والدولي في المفاوضات . - كما إن الملف النووي الإيراني احدث اختراقا لمنظومة الردع النووي الوحيدة فالمنطقة التي تمتلكها (إسرائيل) في منطقة الشرق الأوسط ، فإيران سواء كانت تملك سلاح النووي أم لم تمتلكه فهي امتلكت في كل الأحول التكنولوجيا النووية . فحققت ما يصطلح عليه في العلاقات الدولية بأحياء التوازن لان الإخلال في التوازن يضر في السلم والأمن بين الدول ، وإيران كسرت تلك الانفرادية التكنولوجية لدى إسرائيل في المنطقة ، أيضا شد هذا الملف من قوة وعزيمة الدول الممانعة للمشاريع الغربية والإسرائيلية في المنطقة ، فقد أعطى الملف النووي قوة للجبهة الأمامية التي تتصدى لتلك المشاريع كـ ( حزب الله اللبناني والحوثيين في اليمن وغيرها من القوى الأخرى في المنطقة ) . - روسيا الاتحادية من جانبها استطاعت بدعمها للملف النووي الإيراني إعادة ترتيب التوازن في منطقة انفردت الولايات المتحدة الأمريكية في ترتيب أوضاعها ، واستطاعت بصورة أو أخرى فرض هيبتها كلاعب دولي وقطب عالمي له قراره في إستراتيجية توزيع القوى وتنظيم التوازن في الشرق الأوسط . • الدول الخاسرة والمتضررة :- - الولايات المتحدة الأمريكية لم تخرج في تعاملها مع هذا الملف النووي عن تعاملاتها الأخرى في المنطقة وخصوصا الدول الممانعة لسياساتها ومشاريعها وعبرت عن هذا في اغلب المناسبات وأثناء زيارات مسئوليها للمنطقة وهي ( ضمان تدفق النفط من منطقة الخليج والشرق الأوسط والحفاظ على منابعه واستقراره والحفاظ على امن إسرائيل ) ، فالأخيرة تجد في مشاريع إيران في مجال التكنولوجية النووية تجاوزا للخط الذي وضع لإسرائيل في السيادة والتفوق العسكري والتكنولوجي ونتيجةً للسرعة والظروف الموضوعية التي شغلت العالم والولايات المتحدة بالحروب كحرب العراق وحرب أفغانستان استطاعت إيران في هذه الفترة انجاز معظم مقومات وركائز مشروعها وبعد العقوبات العسكرية والاقتصادية التي ابتدأت بفرضها منذ العام 2006 لم تستطع إيقاف هذا البرنامج لكنها أدركت أنه لابد من الجلوس إلى طاولة الحوار والاعتراف بحقوق إيران النووية وبذلك خسرت منهج الارضاخ والتهديد وفرض الإرادات على إيران الذي تتعامل به مع دول العالم . - إسرائيل تعتبر المتضرر الأول في الملف النووي الإيراني إقليميا ودوليا كون هذا الملف أعطى صورة جديدة وواقعية للمنطقة بعد ما فقدته لفترة طويلة في الأحادية العسكرية الإقليمية والتفوق العسكري والعملياتي لصالحها فهي أدركت حقيقة هذا الأمر الذي فرضته إيران ، كما أن إسرائيل تضررت كون هذا الملف أعطى دعما معنويا وعسكريا لحلفاء إيران في المنطقة وعلى حدود جغرافيا وجودها . - كما إن الأنظمة الرجعية وبعض الدول الإقليمية في المنطقة خسرت الكثير بسب تطورات هذا الملف ومنها :- 1- العربية السعودية ، إذ يكن النظام الحاكم في العربية السعودية العداء والتأمر على الملف النووي الإيراني من عدة دواعي : أبرزها مبدأ الاختلاف الطائفي بين الاثنين ، والثورة الإسلامية في إيران عام 1979والتي تخوفت وعارضت في حينها مبدأ تصديرها الثورة والآثار التي تركتها في المنطقة ، ودعم إيران للمكونات اللبنانية الشيعية ، وكذلك دعمها للحراك الشعبي في اليمن المتمثل في الحوثيين ، وفي البحرين ، كل هذه التحديات أربكت السياسة السعودية في المنطقة وجعلت موقفها لا يقل صرامة" عن موقف إسرائيل في تفكيك وتعطيل الملف النووي الإيراني . 2- تركيا تعاملت أيضا مع الملف النووي الإيراني وفق عدة اتجاهات ، لكن موقفها لا يخرج بكل الأحوال عن المواقف الغربية والموقف الأمريكي فهي لديها مشاريع إقليمية في أقامة تركيا الكبرى مستفيدة" من التخبط والخلافات بين الدول العربية وكذلك طموحاتها في الانضمام إلى الاتحاد الأوربي ، فهي تظهر النوايا الحيادية في بعض المبادرات والوساطات بين الغرب وإيران تقربا منها للدول الغربية والولايات المتحدة لمعرفة مدى الإصرار والثبات في موقف إيران ومدى إمكانية مساومتها في امتيازات اقتصادية وتكنولوجية ، كما هو الحال مع ملف كوريا الشمالية ، ففي الملف النووي الإيراني ونتيجة" لنجاحاته كواقع دولي لصالح إيران ، ودخول الأخيرة النادي النووي العالمي تضررت تركيا في فعالية موقفها ومكانتها الإقليمية في فرض إرادتها كما هو الحال في الأزمة السورية . لقد استفادت إيران من الأجواء الإقليمية والدولية في فترة التسعينات ومطلع الألفية الثالثة في تطوير برنامجها النووي ، فجعلت الدول الكبرى وصانعي القرار فيها أمام أمر واقع وهو القبول والاعتراف بحقوقها بامتلاك التكنولوجية النووية، وفقا لما أقرته المعاهدات والاتفاقات الدولية والوكالة الدولية للطاقة الذرية ، ودخل الطرفان على اثر ذلك في سلسلة من المفوضات أثبتت عددا من الحقائق منها : أن القوى الكبرى في العالم لا تستطيع فرض إرادتها ومصالحها على القوى الصاعدة على الرغم من تصاعد قوة التهديد في المجالات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية ، وبلوغ برنامج إيران إلى مرحلة اللا عودة إلى الوراء والتفكيك كما حدث في برنامج ليبيا الكيماوي في زمن ألقذافي ، كما برهنت أن الأمم المتحدة ووكالاتها وكذلك وكالة الطاقة الذرية ليست تلك المؤسسات التي تتعامل بحيادية مع كل الدول فهي أسيرة رغبات ومصالح الدول الكبرى ، وأظهرت نجاحات إيران قوة وحنكة مفاوضها الذي استطاع استدراج الدول الكبرى إلى واقعية الرضوخ إلى حقوقها ، مع عدم المساومة أو التنازل عن دعم حلفائها في المنطقة كسوريا وحزب الله وباقي القوى الأخرى بالرغم من حقيقة أن الأعراف الدبلوماسية المتعارف عليها في مفاوضات دولية كهذه يحدث فيها التنازل عن بعض الحلفاء لكن هذا لم يحدث في مفاوضات إيران الأخيرة مع الغرب ، وتوصلت إيران إلى إدراك أن التسويف والوعود الغربية لها بمكافئتها اقتصاديا وتكنولوجيا ما هي إلا امتيازات زائفة لا يمكن أن يبنى عليها مستقبل تطورها واحتياجاتها من الطاقة ، وان التهديدات الإسرائيلية والأمريكية ما هي إلا عوامل ضغط سياسية من اجل المفاوضات وتقديم التنازلات ، وان عوامل الردع والتوازن الإقليمي في المنطقة لا تفرضه الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والقوى الغربية وإنما تفرضه إرادة وعزيمة الشعوب.
التعليقات