احتجاجات تشرين: مقاربة مفاهيمية

شارك الموضوع :

َهم الحراك الشعبي العراقي الحالي من قبل السلطة، والوقوف على مسبباته، قد يسهم في وضع الحلول المناسبة له، إذا ما ارادت السلطة والقوى السياسية تجاوز الوضع الحالي بدون مظاهر مسلحة وأراقة الدماء

تتباين الاوصاف العلمية والشعبية بشأن الحراك الشعبي العراقي الذي خرج في تظاهرات كبيرة نهاية العام الماضي في 1تشرين الثاني/ أكتوبر 2019، حسب طبيعة المواقف الشخصية والسياسية والايديولوجية، فضلاً عن المواقف الموضوعية. إذ تراوح وصف الحراك الشعبي بين الموضوعية العلمية، والتشدد بالضد منه وعليه. فهناك من وصفه بالثورة، وهناك من وصفه بالانتفاضة، وهناك من وصفه بتسميات أخرى، كالحراك والتمرد والفتنة... وغيرها، فضلاً عن الأوصاف الأخرى. في هذا المقال، سنحاول قراءة الوصف العلمي لهذا الحراك في ظل المفاهيم والمصطلحات العلمية الحديثة والمعاصرة، ومدى مقاربته لأيًّ منها؛ للوقوف على معالمه وطبيعته، وتوضيحه لصنّاع القرار في العراق من ناحية علمية موضوعية، بعيداً عن الأدلجة والاتهام والتخوين، وبما يضمن لهم آلية التعامل وطبيعة مسايرته والتعاطي معه، وبما يجنّبنا الدخول في خانة الاتهام والاتهام المضاد، وانزواء الاوضاع إلى ما لا تحمد عقباه، ولاسيما مع بداية التحشد الذي اطلقه المتظاهرين، عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ للاحتفال بالذكرى السنوية لانطلاق تظاهراتهم في بداية اكتوبر المقبل، والخشية من تصاعد وتيرة الاحتجاجات، وما يترتب عليها من تداعيات ونتائج، قد تؤدي بنا إلى مخاطر اكبر مما تتخيلها الطبقة السياسية وصنّاع القرار في العراق. 

إن فهم الحراك الجماهيري وطبيعته بشكل واضح من قبل السلطة والقوى السياسية بدون قبعات أو اتهامات مسبقة، سيحد من خطورة الأزمة ويقّوض تداعياتها، وسيحدد معالجاتها، وهذا الفهم، ينبغي عليه أولاً تحديد طبيعة هذا الحراك ونوعه، هل هو ثورة أم انتفاضة أو تمرد أو فتنة أو غيرها من المفاهيم الآخرى. 

يربط البعض حراك تشرين بمفهوم الثورة، وهذا الربط فيه بعض الاشكاليات، إذ أنّ هناك من يعتقد، بأن الحراك هدفه التغيير السياسي، وهذا الهدف يُعد من أولويات اهداف الثورة وسماتها، وعلى الرغم من أن هدف التغيير السياسي، كان سمة مميزة لخطاب الحراك الشعبي في كثير من الأوقات، ولاسيما أن بعض الهتافات والشعارات كانت شعارات راديكالية اتجاه مفهوم التغيير السياسي، إلا أنه يختلف عن خطاب أو سمات الثورة كثيراً، بالرغم من تشابه بعض المفردات بينهما. فالثورة بالعالم المعاصر تُفهم على أنها: "تحرك شعبي واسع خارج البنية الدستورية القائمة، او خارج الشرعية، يتمثل هدفه في تغيير نظام الحكم القائم في الدولة". فالثورة حركة سريعة تستهدف كل بنى الدولة أو النظام السياسي القائم، وهذا ما يتناقض مع خطاب حركة تشرين، الذي طالب في بداية الحراك بالإصلاح السياسي، وإصلاح الوضع العام، ونحن نعرف، بأن خطاب الإصلاح أو الإصلاح السياسي، ليس من اهداف الثورة ولا من أولوياتها، فالثورة تستهدف الحكم والسلطة ومن ثم تغيير الاشياء المعطوفة عليها. أما الإصـــــــــــلاح فهو استراتيجية للتغيير السياسي والاجتماعي تقوم على التدرج ويتسم إيقاعها بالبطء النسبي.

كذلك، هناك من يضع حراك تشرين ضمن خانة التمرد، كما وِصف على لسان الكثير من المسؤولين العراقيين، إذ وَصَّف بعضهم سلوك المتظاهرين أو الحراك بشكل عام، بأنه تمرد على قانون التظاهر والاحتجاجات السلمية، ومن ثم وضع الحراك في خانة التمرد. وهذا الوصف، ربما يكون فيه الكثير من التّجني على حراك تشرين وسلوك المتظاهرين، على الرغم من أنّ سلوك بعض المحتجين، لازمته بعض الممارسات العنيفة، وهي حالات ربما تكاد تكون نادرة، أو هي نوع من انواع التسقيط التي تلازم كل حركة شعبية تخرج ضد السلطة القائمة للمطالبة بحقوقها من قبل الجهات المستفيدة من السلطة والوضع القائم (الرسمية وغير الرسمية)، فضلاً عن ذلك، فأن السلوكيات والممارسات العنيفة، عادةً ما تكون صفة ملازمة لكل حركات الاحتجاج في التاريخ، إلا أن ذلك، لا يعطي دلالة واضحة على وضع الحراك  الشعبي التشريني العراقي في خانة التمرد أو وصفه بحركة متمردة؛ لأن التمرد يعد "شكلا من أشكال التحدي العنيف والمواجهة المسلحة للنظام القائم من قبل بعض الفئات، أو الجماعات المدنية أو العسكرية أو الاثنين معاً، وهو أحد مؤشرات العنف السياسي الذى يمارسه المواطنون عامة إزاء النظام". وهذا ما لم يحدث في سلوك حراك تشرين وديناميته، الذي ما يزال قائم لحد الآن، على الرغم من العنف المفرط الذي قوبل به منذ انطلاقته الأولى في 1تشرين الأول من العام الماضي. فضلاً عن ذلك، هناك من وصم أو وصف حركة تشرين بــ "الفتنة"، وهي تسمية غالباً ما تستخدمها الأحزاب الإسلامية أو جماعة الإسلام السياسي، اتجاه حركات الاحتجاج، التي تناهض وجودها وخطابها السياسي – الثيوقراطي، ونحن نعرف بأن، مفهوم الفتنة في الفكر السياسي والفقه الإسلاميين، هي مفهوم مرادف للثورة؛ لأن أقصى ما نجده في مصنفات القدامى، عن مفهوم الثورة، هو تسمية محاولات الاحتجاج على نظام الخلافة أو ولاة الأمر المسلمين "خروجا" أو "فتنة"، وهي صفة ربما تتسم كثيراً مع المفردات القرآنية التي تتحدث في بعض الآيات عن مصطلح أو مفهوم "الفتنة". وهذا الوصف بعيد كل البعد عن حركة تشرين، كما هو الحال في مفهوم الثورة، ولاسيما أننا عرفنا بأن مفهوم الفتنة هو مفهوم مرداف لمفهوم الثورة وكلاهما يشيران إلى نفس الدلالة والمعنى في المفهوم الإسلامي. 

أخيراً، نرى البعض من المتخصصين وغيرهم، قد وصِف حراك تشرين بالانتفاضة، وهو وصف قد يكون موضوعياً ومناسباً للحراك الشعبي العراقي، ولاسيما أنّ هذا الحراك هو امتداد لحركات الاحتجاج التي انطلقت بداياتها في العام 2011، وقد بانت ملامحه بشكل واضح لعامة الناس والرأي العام، وتمّيز بالاستمرارية، على الرغم من الانقطاع وعدم التواصل بشكل دائم، كما هو الحال في انطلاقته نهاية العام الماضي وديمومته لحد الآن، وهذا ما يضع حراك تشرين أمام مقاربة مفاهيمية لمفهوم الانتفاضة، ولاسيما إذا ما عرفنا بأن الاستمرارية ودوام الاحتجاج، صفة ملازمة للانتفاضة. فثورة 1830 في فرنسا كانت بمثابة انتفاضة؛ لأنها امتدت لمدة ثماني عشرة سنة، على الرغم من أنها استحوذت على السلطة بالقوة. فالانتفاضة على حد تعبير شعبان الأسود: "هي حركة عفوية شعبية غير منظمة، يقوم بها الشعب معبراً من خلالها عن رفضه لقرار أو إجراء اتخذته السلطة الحاكمة من خلال مواجهة حضارية شاملة، بكافة الوسائل المدنية أو العنيفة أو كلاهما معاً، تجمع بين التصاعد والخبو، من جماعة إنسانية أو أفراد، لظلم أو فساد أو منكر أو تخلف أو تبعية أو وهن، وقع عليهم من قوة داخلية مستبدة، تعمل لصالح أهوائها وبقائها في السلطة، من أجل رفع الظلم والحصول على الحقوق". وهذا ما تَجّسد في حراك تشرين، وهو حراك تراكمي، مناهض لكل سنوات الفوضى والفساد واللادُولية التي عمت البلد خلال الـ (17) الماضية. 

من خلال ما تقدم، يتضح لنا بأن حركة تشرين، تقترب كثيراً من مفهوم الانتفاضة، وهي تتراوح بين مفهومي الانتفاضة والإصلاح، فقد تقترب من الاخير  في الخطاب والمفهوم؛ لأن الإصلاح أو الإصلاح السياسي، يعتبر البنى السياسية تفسيراً للوضع القائم، وهي سمة من سمات الأنظمة السياسية الهجينة في الشرق الأوسط، وأنّ مطالب الحراك التشريني كانت وما زالت تتسق مع مفهوم الإصلاح في التغيير السياسي، وتتوافق مع مفهوم الانتفاضة من حيث استمراريتها ووسائلها، وهي بالضد من مفهوم الفوضى "كما يصفها البعض"؛ لكون الفوضى عادة ما تكون حالة ملازمة في كثير من الاحيان لمرحلة ما بعد التغيير، كما حصل في العراق بعد عام 2003، والدول التي شهدت ما يسمى بثورات الربيع العربي. لذلك، فأن فَهم الحراك الشعبي العراقي الحالي من قبل السلطة، والوقوف على مسبباته، قد يسهم في وضع الحلول المناسبة له، إذا ما ارادت السلطة والقوى السياسية تجاوز الوضع الحالي بدون مظاهر مسلحة وأراقة الدماء. 

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية