دلالات الانسحاب الأمريكي من سوريا

لم يكن انسحاب القوات الأمريكية من سوريا مفاجئاً بقدر ما كان بمثابة نقطة تحول في ادراك اللاعبين المؤثرين في الساحة الإقليمية، فالانسحاب الأمريكي من سوريا كان متوقعاً، لاسيما وأن الرئيس الأمريكي أعلن منذ العام الماضي عن نيته عن سحب قوات بلاده من سوريا، فالوجود الأمريكي في سوريا، ربما يراه البعض بأنه تحصيل حاصل وغير مؤثر في حسابات القوى الدولية والإقليمية؛ لأن الروس والإيرانيين يتحكمون في قواعد اللعبة السياسية في الساحة السورية، وأن الفصائل السورية المعارضة للنظام السوري والمدعومة من بعض المنصات العربية لم يعد لها وجود قوي ومؤثر في تغيير قواعد اللعبة السياسية في سوريا، فضلاً عن ذلك، فأن تواجد القوات الأمريكية في مناطق غير مؤثرة استراتيجيا على النفوذ الروسي والإيراني ودعمها المستمر لوحدات الشعب الكردي سيطيح بحليف كبير بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية مثل تركيا، التي بدأت بمغازلة الروس والإيرانيين من خلال اعلان الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بعدم التزامه بالعقوبات التي فرضتها واشنطن على طهران. فالدعم اللوجستي الأمريكي في سوريا الذي اقتصر على تقديم الدعم لقوات سوريا الديمقراطية وقوات المعارضة بإمدادات عسكرية أو معلومات استخباراتية وقصف مدفعي أو اسناد جوي من طائرات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، لم يعد له مبرراً كبيراً يمكن الاستناد عليه، لاسيما مع تقويض وجود نشاط تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في سوريا وانهاءه عسكرياً في العراق، وعليه فأن هناك أولويات أخرى في العقل السياسي الأمريكي وفي عقل الإدارة الأمريكية الحالية من خلال التموقع العسكري الجديد وإعادة انتشار قواتها في العراق.  

فهذا الحدث لم يأتي منفصلاً عن الأحداث الإقليمية الأخرى، فقد جاء مترافقاً مع التغيرات والاتفاقات التي يجريها المعنيون في إدارة الصراع في المنطقة سواء في سوريا أو في اليمن، وربما هذان الحدثان (مساع حل الأزمة اليمينة والانسحاب الأمريكي من سوريا) يعبران عن الرغبة الأمريكية في المنطقة والتوجه الجديد التي تريده الإدارة الأمريكية الحالية "على أقل تقدير" في عهد الرئيس الأمريكي الحالي أو فيما تبقى من ولايته الرئاسية الحالية. فسوريا في الحسابات الاستراتيجية ليست مكسباً كبيراً بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية إذا ما قورنت مع العراق، وإن تهدئة الوضع في المنطقة بشكل عام، لاسيما فيما يتعلق بالأزمتين (السورية واليمنية) قد يعطي الأمريكان دورا أكبر في العراق، واستعادة "تركيا" حليفهم الأكبر في المنطقة مع عدم استفزاز الدب الروسي، والاتفاق مع الطرفين على أنهاء التواجد العسكري الإيراني على الساحة السورية، ومعالجة مشكلة وحدات حماية الشعب الكردي مع تركيا مع اعطاء أولوية كبيرة في مكافحة النشاط الإيراني المتزايد في العراق من قبل واشنطن؛ ولهذا هناك اعتقاد كبير بأن الدور الأمريكي القادم سيتركز على معالجة الدور الإيراني في المنطقة بشكل عام والعراق بشكل خاص من خلال التدخل السياسي وليس العسكري. بموازاة ذلك، هناك من يعتقد بأن قرار الانسحاب قد يكون الغرض منه إعادة انتشار القوات الأمريكية في العراق على الحدود العراقية – السورية سواء في محافظة الأنبار أو في محافظة الموصل والتحضير اللوجستي لأي سيناريو يمكن أن يحضر له تنظيم "داعش" في سوريا مستقبلاً، لاسيما وأن هناك روايات تؤكد بأن الهدف من  الانسحاب الأمريكي من سوريا ربما يكون الغرض منه أغراق الروس والإيرانيين في المستنقع السوري سواء فيما يتعلق بدور عناصر تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" أو فيما يتعلق بدور فصائل المعارضة أو المعركة في الشمال السوري بين الجيش التركي وعناصر وحدات حماية الشعب الكردي (PYD). 

بغض النظر عن كل هذه المشاهد الضبابية التي تزيد المشهد السياسي في منطقة الشرق الأوسط، فأن الاستراتيجية الأمريكية ربما تكون واضحة فيما يتعلق بالوجود الأمريكي في المنطقة، وقد تؤسس لها وجود دائم "في العراق" متاخم للحدود السورية – العراقية وإعادة تمركز قواتها في العراق طبقاً لمتطلبات المرحلة السياسية المقبلة التي سيكون محورها (العراق) على الصعيد الداخلي ودور إيران فيه، أما على المستوى الإقليمي فهناك ادوار أخرى سوف تناط بتركيا في شمال شرق سوريا وربما أيضاً في شمال العراق لملاحقة حزب العمال الكردستاني ووحدات الشعب الكردي من أي توجه انفصالي في المستقبل البعيد، كذلك الحال بالنسبة لأكراد العراق. فتركيا لاعب مهم في حسابات الإدارة الأمريكية وعضو في حلف الناتو، ويبدو بأن الولايات المتحدة لا ترغب بخسارة حليفها الدائم، وتريد أن تعطيه دورا كبيرا في استراتيجيتها المقبلة في المنطقة، لاسيما فيما يتعلق بدور إيران في المنطقة وموقف الاتراك من العقوبات الأمريكية عليها. من الجانب الآخر يبدو بأن الانسحاب الأمريكي جاء متوافقاً مع التطورات السياسية الأخيرة من الأزمة السورية والانفتاح العربي على سوريا من خلال استعادة بعض دول الخليج العربي مثل الأمارات والبحرين فتح سفارتهما في دمشق، فضلاً عن زيارة الرئيس السوداني عمر حسن البشير إلى دمشق، واستئناف الرحلات الجوية بين دمشق وتونس في الاسبوع الماضي بعد انقطاع دام لثمان سنوات. هذه التحركات العربية تجاه سوريا، لم تكن لتكون لولا موافقة السعودية عليها، إذ تفيد عديد المؤشرات أن الرياض هي من دفعت باقي العواصم العربية إلى تغيير موقفها من النظام السوري بعد أن كانت الطرف الأبرز الداعي لقطع العلاقات مع هذا النظام إبان الثورة السورية، فضلاً عن ذلك فأن هذه التحركات اتت متزامنة مع توجهات الكونغرس الأمريكي ضد محمد بن سلمان والتغيرات التي شهدها البيت السياسي السعودي من تغيرات وتبدلات على مستوى الوزارات الفاعلية، لاسيما فيما يتعلق بوزارة الخارجية وبعض الوزارات الأمنية. وقد تحمل هذه التحركات دلالات في الاستراتيجية الأمريكية القادمة في المنطقة، وربما تكون المنطقة والعراق على وجه التحديد مسرحاً لسيناريو أمريكي – سعودي. فالتحرك العربي الأخير اتجاه سوريا وعلى رأسه التحرك الخليجي، يبدو أنه مدفوع بالخوف المتزايد من الصعود الإيراني في المنطقة، وخشيته من تمكّن النظام الإيراني من السيطرة الكلية على سوريا، خاصة بعد القرار الأمريكي المفاجئ في الانسحاب من سوريا، هذا التخوف العربي وجد في المقابل رغبة سورية في انقاذ اقتصادها ومدنها التي دمرت خلال الثمان سنوات الماضية. وهذا ما يعكس الرغبة الأمريكية – السعودية في ارجاع سوريا إلى الحاضنة العربية وحل الأزمة اليمنية بين اليمنيين أنفسهم بعيداً عن الدور الإيراني، فضلاً عن معالجة الدور الإيراني في العراق من خلال إعادة انتشار القوات الأمريكية والتطورات السياسية التي سترسمها الإدارة الأمريكية في المرحلة المقبلة مع بعض القوى السياسية العراقية. والأهم من ذلك سيبقى السؤال مطروحاً على صانع القرار العراقي في طبيعة تعاطيه وتعامله مع التوجه الأمريكي الجديد في ظل التحركات العسكرية الأمريكية على أرضه؟ 

التعليقات