النمو الاقتصادي العالمي والحاجة لسياسات مشتركة

لا تزال مؤشرات اسواق الطاقة والاسواق المالية العالمية والاستثمارات الاجنبية موجهة صوب افاق النمو الاقتصادي العالمي ومدى تعافي الاقتصادات المتقدمة والصاعدة (الصين تحديدا) والتكييف مع المعطيات الاقتصادية الجديدة التي رشحت مع تسنم دونالد ترامب ادارة الاقتصاد الامريكي الذي يعد فعليا مركز التشابكات الاقتصادية العالمية نظرا لدور المؤسسات المالية الامريكية والدولار الامريكي في حركة النمو والاستقرار في العالم. في هذا السياق تناول تقريرا حديثا لصندوق النقد الدولي صدر في تموز يوليو 2017 كافة التطورات الاقتصادية الجارية والمتوقعة للاقتصادات المتقدمة والصاعدة والنامية. فقد رصد التقرير عناصر الدفع التنموي المتوقع وأبرز المخاطر المحدقة بالاستقرار الاقتصادي، واخيرا تمت الاشارة لعدد من السياسات اللازمة لتعديل المسار والدفع باتجاه النمو الاقتصادي المستدام.

التعافي الاقتصادي المتوقع

تفصح تنبؤات صندوق النقد الدولي إلى تسارُع النشاط الاقتصادي في كل من الاقتصادات المتقدمة والاقتصادات الصاعدة في العام 2017، ليصل معدل النمو فيها إلى 2% و 4.6% على التوالي، مع توقُّع بقاء النمو العالمي عند معدل 3.5%. كما تشير التنبؤات إلى نمو الاقتصادات المتقدمة بمعدل 1.9% في 2018، بانخفاض قدره 0.1 نقطة مئوية عن تنبؤات العام 2017، ونمو الاقتصادات الصاعدة والنامية بمعدل 4.8% بزيادة قدرها 0.2 عن 2017، فضلا على توقع نمو عالمي قدره 3.6% في العام 2018. اما بالنسبة للاقتصادات الصاعدة والنامية فإنها بدأت تشهد تحسنا مستمرا في النشاط الاقتصادي الكلي، حيث ارتفع معدل النمو الاقتصادي من 4.3% في 2016 إلى 4.6% في العام 2017 ويتوقع ان يصل الى 4.8% في العام 2018. ويتركز النمو في الأساس على البلدان المستوردة للسلع الأولية، ولكن التعافي يرجع بشكل اساس الى التحسن التدريجي في كبرى البلدان المصدرة للمواد الاولية بعد الركود الذي شهدته عامي 2015-2016 بسبب تراجع أسعار السلع الأولية(النفط بشكل خاص). ومن المتوقع أن يظل معدل النمو في الصين 6.7% في العام 2017، وهو نفس المستوى الذي كان عليه في العام 2016. اما في الهند فيتوقع أن يزداد تحسن النمو في عامي 2017 و 2018، بسبب قوة الإنفاق الحكومي وتحسن البيانات الاقتصادية التي أظهرت زخما أقوى في الربع الأول من العام الجاري. ومع انتعاش التجارة العالمية وارتفاع الطلب المحلي يتوقع أن يظل النمو قويا في اقتصادات آسيان-5 (اندونيسيا وماليزيا والفلبين وتايلاند وفيتنام) بمعدل يقارب 5% لعام 2017 . كما يشير التقرير الى تباطؤ شديد للنمو في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأفغانستان وباكستان خلال العام الحالي بسبب  تباطؤ النشاط الاقتصادي في البلدان المصدرة للنفط، وقد يتعافى اقتصاد هذه البلدان مجددا في العام 2018 اذ ما تحسنت اسعار النفط، اما اذا استمرت الاسعار بالهبوط فيمكن أن يشكل ذلك عبئا أكبر على آفاق النمو للبلدان المصدرة للنفط في المنطقة. 

المخاطر المحدقة بالنمو والاستقرار الاقتصادي

رغم الافاق الايجابية لمسار النشاط الاقتصادي العالمي، لا تزال عدة مخاطر تهدد التعافي الاقتصادي المتوقع، وخاصة على المدى المتوسط، وبشكل عام يمكن رصد ابرز المخاطر المحدقة بآفاق النمو الاقتصادي العالمي وكما يلي:

1- تنقسم المخاطر المحيطة بالتنبؤات المتعلقة بالولايات المتحدة إلى شقين؛ فإذا حدث تنشيط مالي (كإصلاح الضرائب الخافضة للإيرادات)، يمكن أن يرتفع نمو الطلب والناتج في الولايات المتحدة إلى مستوى أعلى من المستوى الحالي. من ناحية أخرى، يمكن أن ينخفض هذا النمو إذا طُبِّقت إجراءات التقشف القائمة على خفض الإنفاق حسب النموذج المقترح في موازنة الإدارة الأمريكية. 

2- استمرار حالة عدم اليقين بشأن السياسات الاوربية لفترة طويلة، كالمفاوضات بشأن ترتيبات ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو المخاطر الجيوسياسية. ويمكن أن يوثر ذلك على الثقة، ويكبح الاستثمار الخاص، ويضعف النمو.

3- قد تؤدي التوترات المالية في الصين الى ضعف السياسات الموجه في الآونة الأخيرة لمعالجة مخاطر القطاع المالي وكبح النمو الائتماني المفرط (لا سيما عن طريق تشديد قواعد السياسات الاحترازية الكلية) مما يعني تباطؤ حاد في النمو تنتقل تداعياته السلبية إلى البلدان الأخرى من خلال قنوات التجارة وأسعار السلع الأولية والثقة بالاستثمار.

4- قد تؤدي عودة السياسة النقدية العادية في الولايات المتحدة بسرعة أكبر من المتوقع إلى تضييق الأوضاع المالية العالمية وتحويل مسار التدفقات الرأسمالية الموجهة للاقتصادات الصاعدة، إلى جانب ارتفاع سعر الدولار الأمريكي الذي يفرض على الاقتصادات الصاعدة أعباء الرفع المالي الكبير أو ربط العملات المحلية بالدولار الأمريكي أو أوجُه عدم الاتساق في الميزانيات العمومية. 

5- يمكن أن يؤدي التراجع واسع النطاق عن المستوى القوي للتنظيم والرقابة الذي تحقق في القطاع المالي – محلياً ودولياً - منذ وقوع الأزمة المالية 2008 إلى خفض هوامش الأمان التي يتيحها رأس المال والسيولة أو إضعاف فعالية الرقابة، مع ما يسببه ذلك من تداعيات على الاستقرار المالي العالمي.

6- على المدى الأطول، يمكن أن تظهر الحمائية وتعوق الإصلاحات المواتية للسوق إذا لم يتم رفع النمو الممكن وتحقيق نمو أكثر احتوائية يصل إلى كل شرائح السكان. ومن بين النتائج الممكنة حدوث انقطاعات في سلاسل العرض العالمية وانخفاض الإنتاجية العالمية وارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية التجارية لتصبح أبعد عن متناول المستهلكين، وهو ما يضر بالأسر منخفضة الدخل أكثر من الفئات الأخرى.

7- واخيرا يمكن أن يتأثر النشاط الاقتصادي بالمعوقات التي تفرضها التوترات الجيوسياسية المتصاعدة، والنزاعات السياسية المحلية، والصدمات الناشئة عن ضعف الحوكمة والفساد المالي والاداري.

والخطير بالأمر الارتباط والتلازم ما بين التحديات الواردة في اعلاه، حيث يمكن أن يدعم كل منها الآخر. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يقترن التحول إلى السياسات الانغلاقية بزيادة التوترات الجيوسياسية بالإضافة إلى تزايد العزوف عن تحمل المخاطر على مستوى العالم؛ ويمكن أن تفرض الصدمات غير الاقتصادية عبئا مباشراً يعيق النشاط الاقتصادي ويضر بالثقة والمشاعر السائدة في السوق؛ كما يمكن أن يؤدي تشديد الأوضاع المالية العالمية بوتيرة أسرع من المتوقع أو التحول إلى الحمائية في الاقتصادات المتقدمة إلى نشأة ضغوط تدفع إلى خروج التدفقات الرأسمالية من الأسواق الصاعدة.  

اولويات صناع السياسات الاقتصادية

تُلزم التحديات الاقتصادية الجارية تصميم سياسات كلية مشتركة تنظر في المخاطر متوسطة الاجل، وستكون خيارات السياسة الاقتصادية عنصرا حاسما في تشكيل الآفاق المستقبلية والحد من المخاطر المتوقعة، وفيما يلي عددا من السياسات المقترحة لاستباق الازمة وابعاد الاقتصاد عن الجزء الحاد من الازمة:

1- زيادة الزخم: نظرا لما يواجه العالم من أوضاع دورية متباينة، لا يزال من الملائم اتخاذ مواقف مختلفة على صعيد السياسة النقدية وسياسة المالية العامة. ففي الاقتصادات المتقدمة، حيث لا يزال الطلب ضعيفا والتضخم بالغ الانخفاض، ينبغي استمرار السياسة النقدية والسياسة المالية الميسرة. وفي بلدان أخرى، ينبغي استعادة السياسة النقدية العادية بالتدريج(أي الابتعاد عن سياسات التيسير الكمي)، وفقا للتطورات الاقتصادية، وتركيز السياسة المالية على دعم الإصلاحات الرامية إلى توسيع إمكانات العرض في الاقتصاد. وعلى الاقتصادات الصاعدة أن تستمر في السماح لأسعار الصرف بتوفير هامش أمان ضد الصدمات، حيثما أمكن.

2- جعل النمو صلبا ومتوازنا: جهود التعجيل بإصلاح خلل الميزانيات العمومية في القطاع الخاص وضمان بقاء الدين العام في حدود يمكن تحملها تشكل ركائز بالغة الأهمية لتحقيق تعافٍ صلب. وتكتسب نفس الأهمية جهود كل من بلدان الفائض والعجز لتخفيض الاختلالات المفرطة في الحسابات الجارية.

3- الحفاظ على نمو مرتفع واحتوائي على المدى الطويل: يدعو هذا الهدف إلى إصلاحات هيكلية جيدة التسلسل والتصميم لدعم الإنتاجية والاستثمار، واتخاذ إجراءات لتضييق الفجوات بين الجنسين من حيث المشاركة في سوق العمل، وتقديم دعم فعال للمتضررين من التحولات التكنولوجية أو التجارية.

4- في البلدان النامية منخفضة الدخل، ينبغي إجراء عملية تصحيح كبيرة لمعالجة الاختلالات الاقتصادية في البلدان المصدرة للسلع الأولية بوجه عام، وهو تحد يمكن أن يزداد صعوبة في البلدان المصدرة للنفط إذا استمرت الأسعار بالانخفاض. وتتفاوت أولويات السياسة في مختلف البلدان النامية منخفضة الدخل، نظرا لتنوع ظروفها، ولكن الهدف الرئيسي لهذه الاقتصادات ينبغي أن يتمثل في تعزيز صلابتها في مواجهة الصدمات المستقبلية المحتملة عن طريق تقوية مراكز ماليتها العامة وحيازاتها من الاحتياطيات الأجنبية في فترة النمو القوي.

5- يعتبر وجود إطار كفء متعدد الأطراف للعلاقات الاقتصادية الدولية أحد العناصر المهمة الأخرى لتحقيق نمو احتوائي متوازن وقوي وقابل للاستمرار. ويكتسب وجود نظام تجاري عالمي مفتوح وقائم على القواعد أهمية خاصة للرخاء العالمي، ولكنه يجب أن يكون مدعوما بسياسات محلية لتيسير التكيف، ليس فقط مع التجارة وإنما أيضا مع التغير التكنولوجي السريع.

التعليقات