مر الاقتصاد العالمي بأوقات عصيبة منذ تفشي فيروس كوفيد-19 ويحتاج النشاط الاقتصادي الى سنوات ليتعافى من تداعيات الاغلاق الكبير وما تفرضه اجراءات الحجر الصحي من قيود صارمة على التنقل والعمل والنشاط الاقتصادي. ويتوقع ان تشكل الجائحة عائقا لاستئناف النمو والاستقرار الاقتصادي هذا العام. فلا تزال الصدمة الصحية تمارس ضغوط عكسية على الاقتصاد العالمي رغم التوصل الى أكثر من لقاح مختبر لاحتواء فيروس كورونا. ويستبعد صندوق النقد الدولي الانتقال الى تعاف صلب عام 2021، مع استمرار تهديد السلالات الجديدة وارتفاع الوفيات إلى مستويات قياسية في العديد من الاقتصادات الكبرى والنامية على حد سواء.
وعلى الرغم من تقديم اكثر من لقاح مختبر من قبل شركات المانية وامريكية وبريطانية وروسية وصينية، وبدء عمليات التلقيح فعليا في العديد من البلدان، الا ان التحديات اللوجستية الهائلة لتوزيع اللقاح على مليارات البشر لن تعيد النشاط الاقتصادي العالمي لمستويات ما قبل الجائحة قريبا. مما يثير القلق حول مدى صمود الاقتصاد العالمي بعيدا عن كماشة الركود الاقتصادي بسبب عدم اليقين المتزايد تجاه افاق مناخ الاعمال ترقبا للتقدم الذي تحرزه اللقاحات الجديدة في الحد من انتشار وتفاقم فيروس كورونا عالميا.
ويعرض تقرير مستجدات الراصد المالي الصادر عن صندوق النقد الدولي (عدد يناير/ 2021) نبذة عن الجهود الحكومية المتخذة على مستوى العالم لتطويق التداعيات الصحية والاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب التدابير الإضافية التي يمكن للحكومات اتخاذها من أجل تحقيق تعاف أكثر قوة وعدالة وشمول.
كورونا والدعم المالي الحكومي
فرضت جائحة كورونا تحديات جسيمة على الاقتصاد العالمي، فقد أدى انكماش الناتج المحلي الاجمالي وما أعقبه من اتساع في النفقات الحكومية الطارئة وهبوط في الايرادات العامة، نموا كبيرا في العجوزات المالية والديون الحكومية إلى مستويات تجاوزت ما تحمله الاقتصاد العالمي أثناء الأزمة المالية العالمية عام 2008. اذ فاق الدعم المالي العالمي حاجز (14) تريليون دولار أمريكي، منها (7.8) تريليون دولار ضخت الى الاقتصاد على شكل نفقات اضافية، وقرابة (6) ترليون دولار على شكل ضخ لرؤوس اموال وقروض ميسرة لإدامة زخم النشاط الاقتصادي وتحفيز الانفاق الخاص الاستثماري والاستهلاكي والمحافظة على معدلات الطلب الكلي باتجاه معاكس للدورة الاقتصادية الاخذة صوب الركود.
ويلاحظ تباين الدعم المالي المقدم عالميا من حيث النطاق والاتجاه تبعا لتأثير الصدمات التي تعرضت لها الاقتصاديات المحلية، والحيز المالي المتاح لكل بلد قبل حدوث الازمة. ففي الاقتصادات المتقدمة، تغطي إجراءات المالية العامة عدة سنوات وتتجاوز قيمتها (4%) من إجمالي الناتج المحلي عام 2021 وما بعده. في حين تركز الدعم الحكومي في الاقتصادات الصاعدة والنامية في بداية الجائحة، وسينتهي العمل بالعديد من هذه الإجراءات قريبا. وقد اقترن هذا الدعم بانكماش اقتصادي نتج عنه تراجع الإيرادات، ما أدى إلى ارتفاع مستويات العجز والدين العام، حيث بلغ متوسط الدين العام العالمي حوالي (98%) من إجمالي الناتج المحلي في نهاية عام 2020، مقابل (84%) في نفس التاريخ بناء على توقعات ما قبل الجائحة.
ويعود ارتفاع العجوزات المالية في الاقتصادات المتقدمة إلى زيادة الإنفاق الحكومي التحفيزي وانخفاض الايرادات الحكومية بشكل حاد. بينما يعود الجانب الأكبر من عجوزات الموازنة في اقتصادات الأسواق الصاعدة والبلدان النامية منخفضة الدخل، إلى انهيار الايرادات الحكومية على أثر انخفاض النشاط الاقتصادي، كما حدث في العراق جراء هبوط الايرادات النفطية الى دون النصف مطلع العام الماضي.
ويلاحظ ان خيارات السياسات الاقتصادية الاحتوائية في مواجهة الجائحة كانت محدودة في البلدان النامية منخفضة الدخل، نظرا لقيود التمويل وبرامج الرعاية الاجتماعية الأقل تطورا. وعلى الرغم من فترات الإغلاق العام الأقصر والانكماش الاقتصادي الأقل حدة، فقد كانت احتياجات الإنفاق كبيرة سواء لمواجهة الجائحة أو تحقيق متطلبات التنمية في هذه البلدان. الا ان تراجع الايرادات نتيجة انخفاض أسعار السلع الأولية، إلى جانب الانكشاف على مخاطر الدين العام، اضطر الكثير من البلدان النامية منخفضة الدخل إلى وضع قيود صارمة للدعم الاقتصادي والاجتماعي المقدم للأسر والشركات، مما يرجح ان تترك الجائحة مخاطر متنوعة ودائمة على الاقتصادات المحلية، بما في ذلك ارتفاع الفقر والحرمان وسوء التغذية.
أولويات السياسات
لا تزال قوة التعافي الاقتصادي مرهونة بالسيطرة على الجائحة ومواصلة تقديم الدعم من خلال سياسات جيدة التصميم بما يتلاءم مع ظروف كل بلد. ويعد التعاون العالمي ضرورة قصوى لإنتاج اللقاحات وتوزيعها على نطاق واسع. فمن المتوقع أن تظل احتياجات الموازنة العامة كبيرة، بما في ذلك تقديم التحويلات إلى الأسر التي فقدت مصادر الدخل والشركات التي تعاني من الخسائر رغم امتلاكها مقومات البقاء، ودعم الطلب على نطاق واسع، حيثما كان ذلك ملائما.
وينبغي الحفاظ على الدعم الذي تقدمه المالية العامة (والذي يعد ضروريا للأسر والشركات لتحقيق التعافي) ولكن ينبغي أن يصمَّم حسب تطور الجائحة والاقتصاد. وينبغي الاستمرار في تقديم الإمدادات الحيوية الطارئة بصورة تدريجية في البلدان التي تسجل معدلات منخفضة لانتقال الفيروس على المستوى المحلي ويكون النشاط فيها قد بدأ في العودة إلى طبيعته. وأن توجه اجراءات الدعم بشكل أفضل عن طريق التركيز على الأسر الأشد تعرضا للمخاطر والشركات التي تمتلك مقومات البقاء أو الشركات الاستراتيجية والمؤثرة على النظام الاقتصادي.
وستحتاج بعض الاقتصادات التي تواجه خيارات صعبة على صعيد السياسات الاقتصادية حتى بعد إعادة ترتيب أولويات الإنفاق العام، إلى الحصول على مساعدات إضافية، بما في ذلك: مبادرة تعليق مدفوعات خدمة الدين، والمنح، والتمويل الميسر والطارئ. وقد تضطر بعض اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية إلى طلب إعادة هيكلة ديونها السيادية.
ورغم أن اللقاحات الفعالة تعطي أملا في التعافي، من خلال ما تحققه من تحسين أوضاع التمويل لبعض بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية، فإن السياسات ينبغي أن تستجيب بسرعة لما يطرأ من تغيرات فإذا ضعفت مؤشرات الجائحة والمؤشرات الاقتصادية، ينبغي التوقف عن سحب الدعم من الافراد والشركات المتضررة بشدة أو العودة إلى تقديمه مع تحسين الاستهداف. وقد يتطلب الأمر تمديد العمل بالإجراءات المؤقتة والموجهة للفئات المستحقة، مع وضع خطط للإنفاق الطارئ تحسبا للمواقف المعاكسة. ويمكن لهذه الخطط تقديم دعم إضافي من خلال موازنات تكميلية، وصناديق للطوارئ مخصصة لسد احتياجات جائحة كوفيد-19 مع ضمان الشفافية في استخدامها، وتمويل داعم من خلال المساعدات الثنائية ومتعددة الاطراف.
ويتعين أن تركز سياسة المالية العامة على تمكين الانتعاش الاقتصادي، فمن الضروري تيسير إعادة توزيع العمالة وراس المال بطرق من بينها، على سبيل المثال، تقديم دعم مالي محفز لتوظيف العمالة بحيث يكون موجها لمستحقيه ومحدد التوقيت ومشروط بالحالة، وبرامج للتأمينات تغطي خسائر الأجر، وبرامج لتعزيز التدريب ودعم البحث عن الوظائف.
ومن شأن تحفيز الاستثمار العام في الاقتصادات التي تمتلك حيزا ماليا كافيا تعزيز النمو الاقتصادي، مع ضرورة التركيز على تقوية ممارسات الشفافية والحوكمة لجني الثمار الكاملة للدعم المالي. ويمكن المساعدة في مكافحة زيادة عدم المساواة والفقر بتعزيز نظم الحماية الاجتماعية من خلال تحسين تغطية المنافع التي تقدمها الدولة ورفع كفاءتها.
ومن الضروري تحقيق الموازنة بين دعم الطلب على المدى القصير من أجل التعافي وتحقيق استدامة الدين العام على المدى المتوسط، عبر وضع أطر رصينة متوسطة الأجل للمالية العامة واستراتيجيات دقيقة لضبط الأوضاع المالية، بما في ذلك كيفية تعزيز مركز المالية العامة على المدى المتوسط، لا سيما في البلدان التي تعاني من ارتفاع مستويات الدين وضيق أوضاع التمويل. ويتعين على صناع السياسات الموازنة بين زيادة الدعم على المدى القصير لضمان صلابة التعافي وبقاء الدين في مستوى تسهل إدارته على المدى الأطول.