النفط والدينار ومخاطر التضخم الركودي

في معظم اقتصادات العالم يعكس سعر صرف العملة المحلية قوة الاقتصاد الوطني ومدى انخراطه في فلك التجارة العالمية استيرادا وتصديرا، فضلا على طبيعة وحجم التدفقات المالية الداخلة والخارج من البلد. اما في البلدان النفطية هناك قصة ثانية، فغالباً ما يرتبط سعر صرف العملة المحلية بتدفقات المورد النفطي. في العراق، يفصح مسار اسعار الصرف خلال العقود الخمس الماضية عن تلك الحقيقة بوضح، فقد شهد الدينار العراقي مطلع عقد السبعينات من القرن الماضي، حين كانت الايرادات النفطية تتدفق بغزارة، صعودا ملفتاً ليلامس (3) دولار مقابل الدينار الواحد. في حين انهار سعر صرف الدينار بعد تجميد صادرات العراق النفطية مطلع عقد التسعينات ليصل الى قرابة (3000) دينار مقابل الدولار الواحد. اما بعد العام 2003 واتساع حجم الصادرات النفطية وتعافي مستويات اسعار النفط عادت اسعار الصرف للارتفاع مجددا لقرابة (1200) دينار للدولار الواحد.

هيمنة النفط على الدينار

ينكشف الاقتصاد العراقي بشكل مرعب على الخارج في توفير احتياجات البلد من السلع والخدمات نظراً لضعف الانتاج الوطني في تلبية الحدود الدنيا من طلب الجمهور على مختلف انواع السلع الاستهلاكية والاستثمارية. هذا الواقع الزم الحكومة بمؤسساتها (خصوصاً البنك المركزي) على تثبيت اسعار الصرف عند مستويات ملائمة لتأمين حصول المواطن على سلع وخدمات تتناسب مع مستويات الدخل الجارية. وتحصل الحكومة العراقية على ايراداتها من الدولار مقابل تصدير كميات ضخمة من النفط الى الاسواق العالمية، وتقوم وزارة النفط بتحويل هذه الارصدة الدولارية الى حساب وزارة المالية. ولان معظم النفقات الحكومية بالدينار العراقي، تلجأ وزارة المالية الى استبدال الدولار النفطي بالدينار العراقي المتوفر اصلاً لدى البنك المركزي العراقي، ويترتب على ذلك دخول الدولار الى البنك المركزي مقابل خروج الدينار منه. ويراكم الاخير الدولارات الحكومية المستبدلة بالدينار العراقي ضمن خانة احتياطي النقد الاجنبي. هذا الاحتياطي من النقد الاجنبي يتم استخدامه في تغذية طلب قطاع الاعمال (التجار وغيرهم) والقطاع العائلي (جمهور المواطنين) على الدولار في سوق الصرف، ويترتب على ذلك خروج الدولار من البنك المركزي مقابل دخول الدينار اليه. 

مما سبق يتضح بان البنك المركزي العراقي هو العارض الوحيد للدولار، وهذه خصوصية اسعار الصرف في البلدان النفطية. هذه الحقيقة جعلت من اسعار الصرف دالة لأسعار النفط ومستويات انتاجه، وبذلك زاد انكشاف الاقتصاد على اسواق النفط العالمية وتقلباتها. فحين تزداد اسعار النفط الخام ويتدفق المورد النفطي بغزارة ترتفع مناسيب احتياطي البنك المركزي من العملة الاجنبية، وحين ينحسر تدفق ذلك المورد يتقلص احتياطي النقد الاجنبي في البلد مهددا اسعار الصرف بالانخفاض.

افاق الدينار في سياق المشهد النفطي الراهن

يقضم هبوط اسعار النفط من احتياطي النقد الاجنبي لدى البنك المركزي منذ العام 2015 نظراً لان ما يخرج من البنك المركزي، لتغطية الطلب المحلي من الدولار، يفوق ما يدخل البنك من الدولار النفطي عبر نافذة الايرادات النفطية. هذه الحقيقة انعكست في هبوط احتياطي النقد الاجنبي لدى البنك المركزي لقرابة النصف، من نحو 80 مليار دولار عام 2014 لنحو 40 مليار دولار في الوقت الحالي. ويعني الهبوط المستمر لاحتياطي البلد من العملة الاجنبية انزلاق الاقتصاد العراقي الى الجزء الحاد من الازمة. اذ يعاني العراق في الوقت الراهن ركوداً اقتصادياً ناجماً عن انحسار النفقات الحكومية (التي تعد محرك النمو والاستقرار الاقتصادي)، واذا ما عجز البنك المركزي في الاشهر القادمة عن تمويل طلب السوق من الدولار فان ذلك ينذر بانخفاض قيمة الدينار. وكون التضخم بالعراق مرتبط بأسعار الصرف بشكل محكم (لان معظم الطلب المحلي يغطى بالاستيراد) فان تدهور قيمة الدينار ستخلف على الفور موجات تضخمية حادة تجعل التحدي الاقتصادي مركباً (تضخم ركودي)، مما يهدد الامن الاقتصادي والاجتماعي في البلد للانهيار. وازاء هذه التحديات الخطيرة وما سينجم عنها من حمى مضاربة على الدينار تزيد من عمق الازمة، يتحتم على صانع القرار الاقتصادي استباق الازمة بتبني عدد من السياسات لعل اهمها:

1- ايجاد سياسات بديلة لمزاد بيع العملة نظراً لما يشوبه من شبهات هدر وفساد اسهمت في توسيع حجم الفجوة بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف الموازي (سعر السوق) من جهة، وسرعت في تناقص حجم الاحتياطي الاجنبي لدى البنك المركزي من جهة اخرى.

2- اصلاح النظام الضريبي في البلد، وبالتحديد الضرائب الكمركية للحد من الخروج المرعب للدولار عبر تحديث هيكل الضرائب الكمركية بالشكل الذي يحد من دخول السلع الكمالية والتفاخرية باهظة الثمن، ويساهم في تحفيز المنتج الوطني الذي يمتلك فيه العراق ميزة نسبية.  

3- يرتبط حجم الاحتياطي من النقد الاجنبي بشكل مباشر بعجز الموازنة الحكومية، فارتفاع حجم العجوزات المالية في السنوات الماضية أسهم بشكل كبير في تآكل احتياطي البنك المركزي. ويتطلب ذلك الاستمرار بمنهج ضبط النفقات العامة، الجارية تحديداً، وتبني منهج الكلفة العائد في الانفاق العام لتحقيق اقصى منفعة ممكنة. ويتطلب ذلك ثورة حقيقة في ادارة المالية العامة مع ضرورة التركيز على اهمية انجاز الحسابات الختامية لأجل كشف مكامن الهدر والفساد في النفقات العامة بشقيها الجاري والاستثماري. 

4- تبني سياسة سعر الصرف الزاحف اذا ما استمرت اسعار النفط الخام بالهبوط لتجنب الانتقال نحو سعر الصرف العائم بشكل فوري حين يهبط الاحتياطي الاجنبي لدى البنك المركزي دون مستويات غطاء العملة.

5- محاولة تحريك القطاعات الاقتصادية القادرة على تغطية جزء من الاستيراد الخارجي، كالقطاع الزراعي وبعض صناعات المواد الغذائية عبر مدها بالقروض والتسهيلات اللازمة للنهوض ومنافسة المنتج الاجنبي. ويمكن لهذه السياسة ان تحقق الامن الغذائي (ولو جزئياً) وتمتص جزء من البطالة من جهة وتحد من نزيف العملة الاجنبية الى الخارج من جهة اخرى.

التعليقات