الأُطــــر السياسيــــة لأقتصاديـــات التحــــول: دراســــة مقارنـــة مع إشـــارة الى العــــراق

صدرت الطبعة الاولى من كتاب (الآطر السياسية لأقتصاديات التحول : دراسة مقارنة مع اشارة الى العراق) للدكتور حسين احمد دخيل عن دار السنهوري للطباعة والنشر والتوزيع (بغداد - بيروت) للعام 2016. تضمن الكتاب دراسة موسعة لظاهرة برزت خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، أذ شهد العالم تغييرات متسارعة تجلت أوضح صورها في تبني الكثير من الدول في مناطق مختلفة من العالم لأقتصاد السوق ونظم الحكم الديمقراطية. وشهدت هذه الدول تحولات أقتصادية وسياسية مهمة تحولت فيها من أنظمة الحكم الدكتاتورية أو الشمولية الى انظمة الحكم الديمقراطية ومن النظم الاقتصادية المخططة مركزياً الى أقتصاد السوق بهدف التنمية الاقتصادية. كما قامت بعض البلدان بتطبيق سياسات الاصلاح الاقتصادي ومنها البلدان العربية. وكان وراء كل ذلك دوافع داخلية (فرضتها الظروف السياسية والاقتصادية المختلفة) ودوافع خارجية (أملتها المتغيرات السياسية والاقتصادية الدولية). ولازالت كثير من البلدان، ومنها البلدان العربية، تتجه نحو تطبيق سياسات الاصلاح الاقتصادي سعياً منها لبناء نظام أقتصاد سوق دون العمل على أحداث أصلاح سياسي أو تبني ليبرالية سياسية مما أدى الى أستفحال التسلطية تحت عناوين واهية شتى مثل أولوية التنمية ومكافحة الارهاب ...الخ. بينما أتجهت دول أخرى الى تبني الليبرالية السياسية (وبمظاهرها المختلفة) دون أنّ تحقق نجاحات تُذكر على صعيد الاصلاح الاقتصادي أو التحول نحو أقتصاد السوق . بدأ العراق منذ العام 2003 بالاتجاه نحو تطبيق نظام سياسي جديد يقوم على الديمقراطية والتعددية، ونحو نظام أقتصادي جديد يعتمد على السوق ويبتعد عن نمط التخطيط المركزي للأقتصاد. ونظراً لما ينطوي عليه هذا التحول من تبعات وتداعيات وكلف أجتماعية متعددة وخطيرة فأنّ دراسة تجارب بعض البلدان التي شهدت مثل هذه التحولات قد يساعد صناع السياسة في تفادي الاخطاء الفادحة في هذا المجال، وأستناداً الى مقاربة كهذه تكمن أهمية الدراسة. كما تتأتى أهمية الدراسة من تزايد التحديات والاخفاقات على أكثر من صعيد التي يواجهها العراق والتي لم تكن وليدة الظروف التي أحاطت أو نتجت عن طبيعة التغيير الذي حدث في العام 2003 لخليط من السياسات والاخفاقات الاقتصادية والتنموية والسلوك السياسي غير الملائم، بل كانت أيضاً أنعكاساً لتلك الآثار الممتدة. ان مواجهة جميع هذه التحديات والاشكاليات والتقليل من حدتها وأنعكاساتها السلبية يتطلب الاسراع في تأشير مواقع الخلل في الأداء السياسي والاقتصادي ليصبح بالامكان تطبيق برنامج شامل وحقيقي للأصلاح الاقتصادي والسياسي (والاداري) بما يتطلبه ذلك من توافر للأرادات وأستكمال لعملية البناء المؤسسي لنظام سياسي ديمقراطي قادر على خلق بيئة مناسبة لأقتصاد السوق قادرة على أطلاق عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتحفيز أو تفعيل أمكانات النمو الاقتصادي في بيئة سياسية وأقتصادية وأجتماعية وثقافية ملائمة لذلك. وتهدف الدراسة الى المساهمة في تسليط الضوء على قضية أساسية تدور حول طبيعة ومحددات وأمكانات وأنعكاسات العلاقة بين نظام الحكم الديمقراطي (بما ينطوي عليه من توسيع للمشاركة السياسية) من جهة، وبين التحول من الاقتصاد المخطط مركزياً الى أقتصاد السوق - في نماذج معينة - من جهة أخرى. كما تهدف الدراسة الى فهم بعض التجارب الناجحة والتجارب غير الناجحة في بلدان مختلفة من خلال عرض وتحليل أطرها ومراحل تطورها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية للأستفادة منها قدر الامكان في تحديد مكامن الضعف في الوضع السياسي والاقتصادي الجديد في العراق خلال المدة 2003-2010. تنطلق الدراسة من فرضية مفادها (( أنّ أعتماد نظام الحكم الديمقراطي سياسياً بمتضمناته ومؤسساته ومظاهره وسلوكياته وآليات عمله المختلفة ، يُعد من المقومات الأساسية لنجاح عملية الاصلاح الاقتصادي وجعل هذه العملية شرطاً أساسياً لأنجاز عملية التحول الى أقتصاد السوق وليست بديلاً عنها )) . أما مضمون أشكالية الدراسة أنه لاتوجد علاقة حتمية أو ذات طبيعة واحدة أو مباشرة بين متضمنات عملية التحول الديمقراطي من جهة والتحول الى أقتصاد السوق من جهة أخرى . وإذا كانت الدول الديمقراطية هي الحاضنة الاساسية لأقتصاد السوق الحر ، فأن دولاً غير ديمقراطية عديدة تمكنت أيضاً من أنجاز عملية التحول الى اقتصاد السوق وتحقيق نتائج تنموية ملموسة . وتعد دول جنوب شرق أسيا أبرز مثال على ذلك ، فالقفزات التنموية فيها خلال العقود الثلاثة الماضية تمت في ظل أنظمة دكتاتورية قامت بتطبيق أشكال متعددة من أقتصاد السوق على وفق مقاربات وسياسات مراعية للخصوصيات المحلية في المجالين السياسي والاقتصادي (والاداري) . وبالمقابل هناك دولاً كانت تتبنى أو تمارس الليبرالية السياسية مثل الهند والبرازيل وأندونيسيا (قبل تحولها الى قوى أقتصادية حديثة ) أخفقت ولعقود في تحقيق نجاحات أقتصادية. ومن خلال ماورد في هذه الدراسة من تفصيلات ومعطيات ذات صلة بنماذجها الرئيسة يمكن أستنتاج مايأتي : 1- أنّ انّظمة الحكم الديمقراطية تكون أكثر قدرة على تنفيذ إصلاحات اقتصادية شاملة ومستجيبة للضغوط الجماهيرية ومطالبها. انّ نظام اقتصاد السوق والمؤسسات السياسية، خاصة فيما يتعلق بنواحي صنع القرار الحكومي بالنسبة للقضايا اليومية، مترابطان بشكل مباشر، لانّه عبر العملية الدستورية السياسية الحكومية يتم وضع القواعد والهياكل السياسية التي تستند أليها آليات السوق. 2- بينما يدرك الجميع إنّ تحقيق التنمية الشاملة هو هدف طويل الأمد تجري ترتيباته في بيئة آمنة وسليمة مع توفر التصميم على تنفيذه مع الاهتمام بدرجة أساسية لوجود علاجات للاثار السلبية المصاحبة لعملية التحول الاقتصادي ، إلا أنّ صياغة نموذج للتنمية يرافق نمط التحول في الدولة والاقتصاد وبما يتفق مع حاجات المجتمع العراقي يعد من المطالب الملحة للنهوض بالواقع الاقتصادي والاجتماعي في العراق . 3- إنطوت عملية الإنّتقال نحو النظام السياسي الديمقراطي على أبعاد وتداعيات سياسية أطّرها، في بداية الأمر، التناقض بين الرؤيتين السياسيتين العراقية والامريكية في تحديد معالم النظام الاقتصادي الجديد من جانب، والآثار السياسية التي أفرزتها المرحلة الإنتقالية لتأسيس نظام سياسي ديمقراطي من جانب آخر، فضلاً عن الأشكاليات القانونية. وهذه جميعها تركت أثرها بشكل مباشر أو غير مباشر على تحديد درجة وضوح معالم النظام الاقتصادي الجديد. إنّ الاختلافات الموضوعية سرعان مابرزت في الآليات والتطبيقات الاجرائية والتوقيت وفي عدم الادراك المسبق لطبيعة الموروث السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. ولم تأخذ الادارة الامريكية وممثلتها سلطة الائتلاف المؤقتة في الحسبان سوى تحقيق ما تبتغيه كهدف وليس كوسيلة لبناء نظام سياسي وإقتصادي جديد في العراق . ومع إدراك الجميع لإستحالة نقل نموذج (وصفة) جاهزة لليبرالية السياسية والاقتصادية من بلد الى بلد آخر والحكم مسبقاً على نجاحها . فقد كان البدء ببناء الاسس الكفيلة بانجاز التحول السياسي والاقتصادي في العراق ينطوي على تناقض بين الرؤيتين العراقية والأمريكية لكيفية التحول نحو نظام سياسي ديمقراطي وبناء نظام إقتصادي جديد ، وهو ماجهدت الحكومات العراقية المتعاقبة على العمل بإتجاهه بعد 2003 على الرغم من غياب أية رؤية لدى تلك الحكومات حول كيفية إنّجاز هذا التحول وخصوصاً في المجال الاقتصادي . 4- إنّ ضبابية الفلسفة الاقتصادية قادت الى عدم وضوح الرؤى والتصورات حول فهم وأدراك واقع الاقتصاد العراقي وماهي الاستراتيجية الاقتصادية المطلوبة لتغيير هذا الواقع . لذا عانت التوجهات الاقتصادية من الفوضى التي ترافقت مع المتغيرات الجديدة في العراق بعد عام 2003 ، وإنعكس ذلك بوضوح على الواقع الذي ظل يؤكد على دور الدولة الاقتصادي كما هو الحال مع مرحلة ماقبل العام 2003 ، وهكذا بقيت الدولة من الناحية الواقعية تمارس دورها الاقتصادي كالسابق ، وحتى مع الاعتراف بأهمية هذا الدور وضرورته في هذه المرحلة ، ألا إنّه يجب التأسيس لمرحلة التغيير الاقتصادي الحقيقي في المستقبل ، وهذا الدور أصبح يلاقي قبولاً من أطراف سياسية وأقتصادية من ناحية ، كما يلاقي رفضاً من أطراف أخرى من ناحية ثانية . 5- أكتنفت العملية السياسية في العراق منذ عام 2003 ولغاية الآن العديد من الازمات والمشكلات التي يهدد إنّفلاتها بعواقب وخيمة على العملية السياسية، مثل الادارة الحكومية القائمة على المحاصصة الطائفية والتي تفتقر لبرامج وطنية محددة للفعاليات السياسية مما يجعل من الاخيرة متشرذمة وغير قادرة على بناء رؤية موحدة أزاء التعامل مع الواقع عبر آليات واضحة . فضلاً عن تمخض تلك الازمات عن آثار إنّعكست سلباً على مجمل مسيرة التحول الديمقراطي وإنّعكاسها السلبي أيضا على طبيعة التوجهات الاقتصادية والاداء الاقتصادي في مسيرته الصعبة للابتعاد عن التخطيط المركزي والإنّتقال الى أقتصاد السوق . 6- شكل تفكك المؤسسات وعدم التناسق المؤسساتي (وبالذات في بداية عملية التغيير) أرضية خصبة لتصاعد الفوضى على الاصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ظل غياب شبه تام لسلطة الدولة . ومما فاقم من ذلك هو سلوكيات سلطة الائتلاف المؤقتة ذات الآثار السلبية في كل الجوانب نتيحة حالة الإنكار التي سادت تجاه الواقع ومتطلبات أصلاحه . وسرعان ما أصبحت المحاصصة الطائفية والحزبية التي جرى أعتمادها في تشكيل أول لبنات الحكم في العراق ، المتمثل في مجلس الحكم الانتقالي ، أساساً عاماً لتشكيل مؤسسات الدولة المختلفة والتي كان تأثيرها يتداخل لتنعكس على طبيعة الاداء الاقتصادي برمتها . هذا من جانب ، ومن جانب آخر فأنّ ماشهده العراق بعد العام 2003 وإلى الآن من شخصنة للمؤسسات سيجعل مصير هذه الاوضاع رهناً بتواجد تلك الشخصيات بعيداً عن الاستدامة لاسيما في ظل عدم وضوح التوجهات الاقتصادية . من هنا تنبع أهمية دولة المؤسسات التي تضمن أستمراية سير وإدارة الامور بما يتناسب مع تحقيق النمو دون التعرض لتقلبات كبيرة في السياسات والمواقف التي قد تنتج عن أجتهادات وآراء شخصية أكثر منها مؤسسية . 7- نتج عن أعتماد الصيغ التوافقية في الاداء السياسي توظيف بعض التيارات والقوى السياسية لدور الدولة في النشاط الاقتصادي بهدف تحقيق أهداف سياسية آنية وتجسد ذلك من خلال ممارسة وسلوك الدولة لدور شبيه بدورها خلال حقبة النظام السابق . وبالنتيجة لم تتمكن الدولة الجديدة من أجراء أصلاحات أقتصادية حقيقية والتأسيس لعملية إنتقال إقتصادي ناجحة وراسخة وذات توجهات واضحة . ويمكن رصد ذلك في مظاهر عدة منها : إنّ الدولة هي الخالق الوحيد للوظائف ، وهي المقدم الرئيس للخدمات وترتب على ذلك تكريس (وليس تراجع) دور الدولة في الاقتصاد من خلال إرتفاع وتيرة الإنفاق العام خلال المدة 2003-2010 . 8- يُعد النجاح في أرساء أسس سليمة للتحول الديمقراطي (سياسياً) أحد المقومات الهامة والرئيسة للنجاح في إنجاز عملية التحول الى اقتصاد السوق . وقد تفاوتت درجة نجاح نماذج الدراسة في تحقيق ذلك . فبينما نجحت بولندا في بناء نظام سياسي ديمقراطي جعل عملية التحول الى اقتصاد السوق عملية قصيرة الامد ، لم يتمكن العراق الجزائر في تحقيق ذات الشيء مما يؤكد على خصوصية كل بلد في بناء النموذج الخاص به في الانتقال الى اقتصاد السوق وفق البيئة السياسية والاجتماعية السائدة فيه . فعملية التحول في بولندا كانت في حقيقة الامر عملية طويلة الامد وكانت بفعل عوامل أغلبها داخلية . أما في الجزائر فكانت للأضطرابات الاقتصادية دور كبير في الدفع بأتجاه التحول نحو أقتصاد السوق ، بخلاف النموذج العراقي الذي كان التوجه فيه الى أقتصاد السوق ونظام الحكم الديمقراطي نتيجة عامل خارجي قائم على التدخل العسكري تبعه ضغوط التوافق الدولي (الذي عمل على أسقاط النظام السابق) بأتجاه التحول السياسي والتحول الاقتصادي . غير أن التحول الديمقراطي على وفق مفاهيمه ومنطلقاته ومؤسساته المعتمدة سيبقى هو العامل الحاسم في تهيئة البيئة المناسبة للتحول الى أقتصاد السوق وليس العكس.
التعليقات