مقاربات الاصلاح الضريبي في الاقتصادات النفطية

يلزم الهبوط المزمن لأسعار النفط الى دون المستويات التي تطبعت عليها موازنات الدول النفطية الى اعادة هيكلة وتصميم المالية العامة لعزل تقلبات اسعار النفط عن المشهد المالي والاقتصادي لصالح الانسجام والتناغم مع الضرورات الاقتصادية الوطنية وخطط التنمية والاستقرار الاقتصادي. في هذا السياق عقد مؤخرا في مدينة دبي المنتدى الثاني للمالية العامة في الدول العربية تحت عنوان آفاق وتحديات تنويع الإيرادات في الدول العربية والذي ينظمه صندوق النقد العربي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي.

فبعد مرور سنوات عديدة من النمو الضعيف، يتوقع صندوق النقد الدولي انتعاش النشاط الاقتصادي العالمي هذا العام، وفي مختلف الاقتصادات المتقدمة والصاعدة على السواء. غير أن ذلك لا يعني أن الازمة قد انتهت، فالصراعات وأسعار النفط المنخفضة ستظل تؤثر على النمو ومن ثم على الإيرادات الحكومية أيضا. وعلى الرغم من تحسن أسعار النفط (نسبيا) في الآونة الأخيرة، فلا يتوقع عودتها إلى مستوياتها ما قبل عام 2014. وطبقا لصندوق النقد الدولي يلزم عدم اليقين بشأن مستقبل الاسعار، على البلدان النفطية بناء القدرة الذاتية على تحمل الصدمات الخارجية وتأمين موارد مالية بديلة أكثر استدامة واستقرار. ويتم ذلك اساسا من خلال وضع نظم ضريبية متطورة قادرة على تأمين الموارد اللازمة لمعالجة التحديات المستقبلية، والقيام بهذه المهمة على نحو يتسم بالكفاءة والمساواة. ويتطلب ذلك وضع استراتيجية واضحة وشاملة تربط بين إصلاح السياسة الضريبية وإصلاح إدارة الإيرادات العامة. بعبارة أخرى، ينبغي أن تسير عملية تحديد هوية الجهات والأفراد الذين تُفرض عليهم الضريبة جنبا إلى جنب مع كيفية القيام بتحصيل هذه الضرائب. ويقترح الصندوق في هذا الصدد مساران :

1-   اصلاح السياسة الضريبية.

يرى صندوق النقد الدولي ان تصميم سياسة ضريبية شاملة يتطلب وضع هدف للإيرادات العامة تتراوح مدته من خمس إلى عشر سنوات يعد بمثابة خطوة أولى. بعد ذلك، يصبح من الضروري وضع خطة إصلاح شاملة، بهدف بناء المؤسسات على المدى الطويل بدلا من تقديم الحلول قصيرة الأجل. ويشكل جمع ونشر البيانات الجيدة أهمية بالغة لصنع القرارات الجيدة. ولكن لماذا ينبغي تحديد إيرادات مستهدفة؟ لأنها تمثل قائمي المرمى الضروريين للمساعدة على مواءمة الإيرادات العامة مع النفقات العامة – في الأجلين القصير والمتوسط. والجزائر مثال جيد على ذلك، حيث جاء قانون الموازنة العامة لعام 2017 لأول مرة مشتملا على إطار متوسط الأجل يحدد الإيرادات والنفقات المستهدفة للسنوات الثلاث القادمة.

ولنجاح الإصلاح الضريبي وتحقيق أهدافه على صناع السياسات تركيز سياساتهم الضريبية على أولويات رئيسية. على سبيل المثال، شرعت عدة بلدان نفطية في تطبيق ضريبة القيمة المضافة وغيرها من الضرائب الاستهلاكية – كالضرائب على التبغ والمشروبات المحلاة بالسكر. وبمرور الوقت، يمكن أن تنظر الحكومات أيضا في تحقيق إيرادات إضافية من ضرائب الدخل والممتلكات. وتعمل بلدان الخليج، على سبيل المثال، في الوقت الحالي على تطبيق ضريبة موحدة على القيمة المضافة في عام 2018. ويمكن لهذه الجهود – التي يدعمها صندوق النقد الدولي من خلال المساعدة الفنية التي يقدمها – تعبئة إيرادات تتراوح بين 1% و2% من إجمالي الناتج المحلي، مع فرض تطبيق ضريبة القيمة المضافة بمعدل قدره 5%.

وتؤكد تجارب الصندوق في مناطق مماثلة مدى التأثير الإيجابي لتنويع مصادر الاقتصاد. فقد تمكنت المكسيك، على سبيل المثال، من زيادة إيراداتها الضريبية غير النفطية بأكثر من 3% من إجمالي الناتج المحلي – بتوسيع وعاء ضريبة القيمة المضافة وزيادة الضرائب على الطاقة ورفع معدلات ضريبة الدخل الشخصي. وفي بعض البلدان، نجد أن الإصلاح الضريبي يعني أيضا ازدياد تصاعدية النظم الضريبية (الضرائب التصاعدية) عن طريق رفع معدل الضريبة الحدي الأعلى على الدخل الشخصي. مع توخي تطبيق القواعد الضريبية الحالية على نحو متسق ومتدرج.

2-   دمج إصلاحات السياسة الضريبية وإدارة الإيرادات العامة.

تتمثل الخطوة الثانية في تصميم استراتيجية تنويع الإيرادات العامة بربط إصلاح السياسة الضريبية بإصلاح إدارة الإيرادات العامة. ويمكن لهذا الجهد المتزامن والمنسق أن يساعد البلدان على تجنب بعض المتاعب التي كانت فيما مضى تستغرق وقتا طويلا. فكان صناع السياسات يبدؤون غالبا بوضع السياسات الضريبية الجديدة ويؤجلون النظر في مسألة القدرات الإدارية إلى وقت لاحق. ولكن ربط العنصرين معا من البداية، سيتيح لهذه البلدان فرصة تحقيق قفزة إلى مرحلة أكثر تقدما على مسار تطورها. وقد اتخذت موريتانيا، على سبيل المثال، سلسلة من الإجراءات المنسقة – بمساعدة من الصندوق – لتبسيط وتحديث نظامها الضريبي إلى جانب تقوية الإدارة الضريبية. وقد ساهمت هذه الاستراتيجية في تحقيق زيادة ملحوظة في إجمالي الإيرادات الحكومية – من حوالي 20% من إجمالي الناتج المحلي في 2009 إلى 28% في 2014.

ويمكن تعزيز قدرات الإدارة الضريبية في مرحلة مبكرة من عملية الإصلاح من خلال أولويتين أساسيتين: تتمثل الأولى في تبسيط القوانين واللوائح، ولا يقتصر ذلك على القوانين المتعلقة بالمعدلات الضريبية فحسب، وانما يمتد ايضا الى القوانين الإجرائية التي تحدد صلاحيات الهيئات الضريبية وحقوق المكلفين. في حين تتمثل الأولوية الثانية في تنمية المهارات البشرية والموارد الفنية لرفع مستوى الامتثال الضريبي وتحسين الخدمات المقدمة للمكلفين. ومن شأن تحديث البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات، مثلما يجري حاليا في المملكة العربية السعودية وغيرها من البلدان، أن يسمح بتيسير قيام المكلفين بتقديم الإقرارات الضريبية ودفع الضرائب، بما في ذلك من خلال التكنولوجيا المتنقلة. والاتحاد الجمركي لدول مجلس التعاون الخليجي هو مثال جيد آخر في هذا الصدد، حيث ساعدت التكنولوجيا في جمع وإدارة التعريفة الخارجية المشتركة. وسيركز منتدى المالية العامة المقبل، والذي سيعقد في العاصمة واشنطن على الثورات الرقمية في المالية العامة.

ان ضرورة غرس بذور اقتصاد أكثر استدامة واحتواء لكافة شرائح المجتمع عبر بناء القدرات الضريبية امر ضروري لتحقيق الاستدامة المالية، ويتطلب ذلك في المقام الأول صياغة استراتيجية شاملة تربط بين إصلاح السياسة الضريبية وإصلاح الإدارة الضريبية لتوليد إيرادات أكبر وأكثر استقرارا. وسيؤدي ذلك إلى زيادة قدرة الموارد المالية العامة على تحمل الصدمات الخارجية وتحد من تسلل تقلبات اسعار النفط الخام الى الاقتصادات النفطية.

التعليقات

علي
العراق
2017-5-17
موضوع مفيد