مطلع شهر نيسان ابريل الجاري صدر التقرير الدوري لصندوق النقد الدولي والخاص بآفاق الاقتصاد العالمي خلال العام 2017. يبدأ التقرير باستعراض الاخبار السارة التي تزيد من امكانية خروج الاقتصاد العالمي من الانكماش نحو الانتعاش الاقتصادي الذي بدأ يتحقق بالفعل في عدد كبير من الاقتصادات العالمية. وقد رفع الصندوق معدل النمو المتوقع من 3.4 الى 3.5 رغم تعثر معدلات النمو في عدد من البلدان المتقدمة والبلدان النامية. ويشير التقرير الى ان معدلات النمو الاقتصادي الممكن لا تزال ضعيفة على المدى الطويل في جميع أنحاء العالم مقارنة بالعقود الماضية، وخاصة في الاقتصادات المتقدمة.
المخاطر المحتملة:
لا تزال هناك مخاطر معاكسة كبيرة تخيم على آفاق الاقتصاد العالمي في المدى المتوسط، فلا يزال التعافي الذي يستجمع قواه معرضا لمجموعة من المخاطر المعاكسة التي يصفها الفصل الأول من التقرير، ومنها:
- تحول اتجاه السياسات إلى الداخل، بما في ذلك الاتجاه إلى الحمائية، وانخفاض النمو العالمي بسبب تراجع حجم التجارة والتدفقات الاستثمارية العابرة للحدود.
- رفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة بوتيرة أسرع من المتوقع، مما قد يتسبب في تشديد الأوضاع المالية العالمية بسرعة تفوق المتوقع وحدوث ارتفاع حاد في سعر الدولار، مع ما ينجم عن ذلك من انعكاسات سلبية على الاقتصادات الضعيفة.
- تراجع شديد في التنظيم المالي قد يشجع على تصاعد المخاطرة ويزيد من احتمالات وقوع أزمات مالية في المستقبل.
- التشديد المالي في اقتصادات الأسواق الصاعدة، والذي زادت احتمالاته بسبب تفاقم أوجه الضعف في النظام المالي الصيني ارتباطا بالنمو الائتماني السريع واستمرار ضعف الميزانيات العمومية في اقتصادات الأسواق الصاعدة الأخرى.
- حلقات الآثار المرتدة السلبية التي يتعاقب فيها ضعف الطلب وانخفاض التضخم وضعف الميزانيات العمومية وضعف نمو الإنتاجية في بعض الاقتصادات المتقدمة التي تعمل بمستويات مرتفعة من الطاقة الانتاجية الفائضة.
- العوامل غير الاقتصادية مثل التوترات الجيوسياسية، والنزاعات السياسية الداخلية، والمخاطر الناجمة عن ضعف الحوكمة والفساد، وظواهر الطقس المتطرفة، والإرهاب، والمخاوف الأمنية.
وما يزيد تعقيد المشهد الاقتصادي وجود ترابط بين هذه المخاطر يمكن أن يعزز بعضها البعض الآخر. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يرتبط تحول السياسات نحو الداخل (الحمائية التجارية) بزيادة التوترات الجيوسياسية فضلاً عن زيادة العزوف عن المخاطر عالميا. ويمكن أن تؤثر الصدمات غير الاقتصادية بشكل مباشر على النشاط الاقتصادي وأن تضر بالثقة ومزاج السوق. ويمكن ايضا أن يؤدي تشديد الأوضاع المالية العالمية بسرعة تفوق التوقعات أو التحول نحو الحمائية في الاقتصادات المتقدمة إلى تفاقم ضغوط التدفقات الرأسمالية الخارجة من الصين.
السياسات المناسبة
بعد تعافٍ ضعيف من الأزمة المالية العالمية 2008، وفي أعقاب التعديل الحاد لأسعار السلع الأولية العالمية (النفط على سبيل المثال)، تسعى اقتصادات كثيرة إلى زيادة إمكانات النمو وتعزيز طابعه الاحتوائي وصلابته في مواجهة الصدمات. وبالفعل هناك حاجة إلى إجراءات عاجلة لتعزيز الناتج الممكن نظرا لاستمرار العوامل المعاكسة الناشئة عن شيخوخة السكان في الاقتصادات المتقدمة، وعملية التكيف الجارية مع انخفاض معدلات التبادل التجاري، والحاجة إلى التغلب على مواطن الضعف المالي في الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية ، فضلا عن تباطؤ نمو الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج في هاتين المجموعتين. لذلك سيكون اختيار السياسات الاقتصادية المناسبة امر بالغ الأهمية في تشكيل الآفاق الاقتصادية العالمية والحد من المخاطر المحدقة بمسيرة النمو والاستقرار، ومن هذه السياسات التي يوثقها الفصل الثاني من التقرير:
- يوجد تمايز متزايد بين اولويات إدارة الطلب على مستوى الاقتصاد الكلي، نظرا لاختلاف المرحلة الدورية التي يمر بها كل بلد، ففي الاقتصادات التي تعاني من تراخي النشاط الاقتصادي وضعف معدلات التضخم الأساسي بشكل مزمن، سيظل دعم الطلب الدوري ضروريا، وذلك لأسباب من بينها تجنب الانزلاق باتجاه الركود الاقتصادي. أما في الاقتصادات التي يكون فيها الناتج قريبا من مستواه الممكن أو أعلى منه، فينبغي أن تهدف السياسات المالية إلى تعزيز شبكات الأمان وزيادة الناتج الممكن.
- هناك حاجة إلى استراتيجيات موثوقة في بلدان كثيرة لوضع الدين العام على مسار قابل للاستمرار عبر تقييم معدلات الاستدامة المالية في عدد كبير من البلدان المهددة بالانخراط ضمن برامج جدولة الديون ومواجه نفس مصير الاقتصاد اليوناني.
- أثر الانفتاح التجاري ومرونة سعر الصرف وقوة المؤسسات في مساعدة الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية على تعزيز دفعة النمو المستمدة من الأوضاع الخارجية.
- وفي مواجهة مخاطر التقلب المالي العالمي التي لا تنتهي، من المفيد لاقتصادات الأسواق الصاعدة المعرضة للتأثر بالتحولات السلبية التي تطرأ على الأوضاع المالية الخارجية أن تعتمد ممارسات أقوى لإدارة المخاطر واحتواء أوجه عدم التوافق في ميزانياتها العمومية.
- ومن اجل الحفاظ على التوسع الاقتصادي العالمي، يتعين أيضا على صناع السياسات أن يتجنبوا الإجراءات الحمائية وأن يقوموا بالمزيد من الخطوات لضمان توزيع ثمار النمو على نطاق أوسع.
واخيرا، يوثق الفصل الثالث عدم مواكبة الأجور للإنتاجية في كثير من الاقتصادات في فترة طويلة من العقود الثلاثة الماضية، مما أدى إلى انخفاض حصة العمالة من الدخل القومي. ويرجح التحليل الوارد في هذا الفصل أن التغير التكنولوجي والاندماج التجاري (وكلاهما من محركات النمو على المديين المتوسط والطويل) قد ساهما في هذا الانخفاض. وتشير استنتاجات الفصل إلى أن التغير التكنولوجي كان المحرك الرئيسي لحصة العمالة في الاقتصادات المتقدمة بينما كان الاندماج التجاري )والزيادة المصاحبة في كثافة رأس المال في الإنتاج( هو المحرك الرئيسي في حالة اقتصادات الأسواق الصاعدة. وتسلط هذه الاستنتاجات الضوء على ضرورة أن يكون النمو أكثر احتواء للجميع. ومن ابرز السياسات التي يمكن الاستفادة منها تطبيق نظم ضريبية أكثر تصاعدية والاستثمار في المهارات، والتعليم عالي الجودة؛ وبذل جهود أخرى لتعزيز حركية العمالة على المستويين المهني والجغرافي من أجل تيسير وتسريع تكيف أسواق العمل مع التحولات الهيكلية.
ويبدو أن الاقتصاد العالمي يكتسب زخما متزايدا، وقد نكون الآن عند نقطة تحول. ولكن بينما تبدو الآفاق أكثر إشراقا، نجد أن نظام العلاقات الاقتصادية الدولية الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية يخضع لضغوط حادة في الوقت الراهن رغم المنافع التي حققها بوجه عام ، وذلك بالتحديد لأن النمو وما نتج عنه من تعديلات اقتصادية أسفر في أغلب الحالات عن مكاسب وتكاليف غير متكافئة داخل كل بلد. وعلى السياسات الاقتصادية معالجة هذه التباينات بشكل مباشر لضمان استقرار نظام تجاري تعاوني مفتوح يعود بالنفع على الجميع. وتجدر الاشارة الى إن الكثير من التحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي تستلزم التعاون متعدد الأطراف لدعم الإجراءات التي تتخذها البلدان على المستوى الفردي. وتشمل المجالات الرئيسية للعمل الجماعي الحفاظ على نظام تجاري مفتوح، وضمان الاستقرار المالي العالمي، وتطبيق نظم ضريبية منصفة، ومواصلة دعم البلدان منخفضة الدخل في سعيها لتحقيق أهدافها الإنمائية، وتخفيف آثار تغير المناخ والتكيف معه.
اضافةتعليق