يتطلب ضمان تصحيح مسار الموازنة الاتحادية وجعلها اداة للاستقرار ومظلة لتمكين سياسات الاصلاح من النفاذ الى الاقتصاد الوطني دون تكاليف اقتصادية واجتماعية باهظة
يتطلب ضمان تصحيح مسار الموازنة الاتحادية وجعلها اداة للاستقرار ومظلة لتمكين سياسات الاصلاح من النفاذ الى الاقتصاد الوطني دون تكاليف اقتصادية واجتماعية باهظة، العمل على اعادة النظر في التقاليد المعتادة لإدارة المالية العامة وتحديث القاعدة التشريعية وتطوير الملاكات البشرية بما ينسجم ومتطلبات الاصلاح والتغيير الاقتصادي والمالي في العراق. وفي هذا السياق، اقدم مجلس النواب العراقي منتصف العام الماضي على تشريع قانون الادارة المالية رقم (6) لعام 2019 ليحل بدلا عن قانون الإدارة المالية والدين العام الصادر بموجب أمر سلطة الائتلاف المؤقتة (المنحلة) رقم (95) لسنة 2004، باستثناء الملحق (ب) الخاص بـقانون الدين العام. وهدف القانون الجديد الى تنظيم القواعد والإجراءات التي تحكم الإدارة المالية والمحاسبية في مجال التخطيط والإعداد والتنفيذ والرقابة والتدقيق للموازنة العامة الاتحادية وتوجيه جميع الإيرادات الاتحادية إلى الخزينة العامة لتغطية الإنفاق العام وتحديد ارتباط وحدات الرقابة الداخلية من الناحيتين الإدارية والفنية ووضع الآليات المتعلقة بتنفيذ الموازنات والتزام كل جهة منفذة وتحديد مسؤولية وزارة المالية في مرحلة التنفيذ، اضافة الى تحديد مواعيد معينة لتقديم الحسابات الختامية والالتزام بمبادئ الموازنة (شفافية الموازنة وشمولية الموازنة ووحدة الموازنة وسنوية الموازنة وعدم التخصيص) عند تهيئة وتنفيذ الموازنة العامة الاتحادية والأمور المتصلة بها وبما يضمن تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي والاستقرار المالي، وتعزيز تخصيص موارد الموازنة وتحسين كفاءة وفعالية الانفاق وضمان إدارة النقد على النحو الأمثل وتحسين نوعية معلومات الموازنة المقدمة الى مجلس النواب والجمهور.
مع ذلك، لم تراعى جُل الفقرات الواردة في القانون المذكور في موازنة العام 2020، والتي سحبت من قبل الحكومة فور وصولها الى مجلس النواب نظرا لضخامة العجز المالي المقدر فيها. مما يسترعي ضرورة احكام الرقابة البرلمانية والقضائية لضمان نفاذ فقرات قانون الادارة المالية في قوام موازنة العام المقبل. مع اهمية الاشارة الى عدد من المقترحات التي يمكن ان تساهم في تطوير ادارة المالية العامة في العراق بالشكل الذي يعزز سياسات الاصلاح المالي والاقتصادي المفترض الشروع بها مطلع العام 2021. ومن تلك المقترحات:
1- نظرا لانشغال الحكومة العراقية بالعجز وصعوبات التمويل والبحث عن تدابير بديلة لأدامه الأنفاق الضروري في الأمد القصير وحتى نهاية عام 2020 بسبب التراجع الحاد في الايرادات النفطية. فإن أكفأ وابسط منهجية للسيطرة على الأنفاق الحكومي وتمويله هي إدارة الموازنة النقدية (موازنة الأرصدة والتدفقات، الداخلة والخارجة، على الأساس النقدي). وهو المعول عليه في الإدارة المالية الفعلية وخاصة للأمد القصير والسيطرة على الموارد والأنفاق أولا بأول بالتعديل المستمر. اذ تقتضي خصائص الاقتصاد العراقي، والارتباط بين المالية العامة والصادرات النفطية، إعداد موازنتين نقديتين: واحدة بموارد واستخدامات النقد الأجنبي، والثانية مثلها بالنقد الوطني. وهنا تتطلب إدارة الأنفاق العام إصدار الموازنتين شهريا، في اليوم الأول من الشهر الجديد: للشهر، والفصل، والسنة. وبذلك فإن ارصدة الافتتاح لبداية الشهر في الموازين الشهرية، وبداية الفصل والسنة للموازين الفصلية والسنوية هي أرصدة الختام للمدد السابقة لها شهريا وفصليا وسنويا. أما المقبوضات والمدفوعات فهي مقدرة أيضا للشهر والفصل والسنة على اساس وقت القبض أو الدفع الفعلي. هذه الموازين بأصنافها الثلاثة تُعِدها وزارة المالية بالتعاون مع المصارف والبنك المركزي؛ وتصدر شهريا من مجلس الوزراء وتُرسل الى مجلس النواب أيضا. ولتسهيل الإدارة تؤخذ ملاحظات مجلس النواب في الإصدار اللاحق. وتباشر وزارة المالية يوم 25 من الشهر بإعداد الموازين تلك، لتدارسها في جلسة مع رئيس الوزراء بحضور وزير التخطيط، لتُعدّل وتعرض على مجلس الوزراء لإقرارها وتصدر مُلزمة لجميع الجهات.(بريهي، 1:2020).
2- الالتزام بقانون الادارة المالية النافذ الخاص بغلق الحسابات الختامية للسنة المالية المنتهية، في موعد اقصاه (31/1/2021) استنادا الى نص المادة (28) أولاً من القانون المذكور. على ان تقدم وحدات الانفاق والادارات الممولة ذاتيا حساباتها الختامية الى ديوان الرقابة المالية الاتحادي في موعد أقصاه نهاية شهر اذار القادم، من اجل قيام ديوان الرقابة المالية الاتحادي بإصدار الحسابات الختامية في موعد اقصاه نهاية شهر حزيران من العام القادم كما نص القانون. على ان يتضمن التقرير تدقق البيانات المالية لوحدات الإنفاق في إقليم كوردستان بالتنسيق مع ديوان الرقابة المالية في الاقليم.
3- لتحسين الانضباط المالي ورفع جودة الإنفاق، ينبغي قيام وزارة المالية بتنفيذ قانون الإدارة المالية العامة رقم (6) لسنة 2019، واصدار التقارير والكشوفات المتضمنة جداول المالية العامة والاقتصاد الكلي بما يتوافق مع المعايير الدولية، وتقوية الضوابط الحاكمة لالتزامات الإنفاق، وتحسين إدارة النقدية، واجراء عمليات مسح وتدقيق منتظمة لمراقبة المتأخرات والحد منها، واصلاح إدارة الاستثمارات العامة، وتحسين إدارة الدين.
4- تغيير منهجية واسلوب اعداد تقديرات الموازنة العامة والتي تقوم حاليا على جمع تلك التقديرات من الاسفل الى الاعلى في هرم الحكومة ووزارتها، والتحول نحو بناء التقديرات من الاعلى (اللجنة الاقتصادية في مجلس الوزراء ومجلس الوزراء وبالتنسيق مع اللجنة المالية واللجنة الاقتصادية في مجلس النواب) وتحديد سقوف للتقديرات على مستوى القطاعات ثم الوزارات والجهات الاخرى بناءًا على خطة الحكومة والاهداف التي تسعى لتحقيقها وفقًا للأولويات . (العلاق:10)
5- اعداد واطلاق التخصيصات التشغيلية والاستثمارية على نحو فصلي، وتطوير القواعد والتنظيمات التي تخص النفقات الاساسية في الموازنة والمشاريع الاستثمارية، ومتابعة الالتزام والامتثال وارسال التقارير المحاسبية والتدقيقية. مع اعادة النظر في تصميم وتمويل الموازنة الاستثمارية بما يضمن تمويل المشاريع على مدى عمر المشروع، للحيلولة دون حصول تلكؤ بتأثير تأخر اقرار وتطبيق الموازنة.
6- حوكمة الادارة المالية من خلال الاسراع في تنفيذ مشروع نظام ادارة المعلومات المالية المتكامل (FMIS) وحساب الخزانة الموحد (TSA) لتحديث واتمتة الادارة المالية في العراق.
7- لتمويل فجوة الموارد المالية الناجمة عن هبوط الايرادات الحكومية لقرابة النصف عن المعدلات المعتادة لجأت الحكومة الى القروض الداخلية والخارجية وبما يقارب (42) ترليون دينار عراقي لتمويل النفقات الاساسية حتى نهاية العام 2020، مما زاد من اعباء ومخاطر الديون الحكومية. ويتطلب الواقع الجديد للديون اجراء مراقبة دقيقة لاتجاهات الدين الداخلي والخارجي والحيلولة دون تجاوزه مستويات معينة، وربط الديون الداخلية والخارجية في المستقبل بمشاريع استثمارية مولدة للأرباح والعملات الاجنبية، وعدم اللجوء الى الاقتراض لتمويل النفقات التشغيلية للموازنة العامة، خشية الادمان الحكومي المزدوج على النفط والقروض في تمويل الانفاق العام في المستقبل.
8- ضرورة التخطيط لأنشاء صندوق دين سيادي يمول من وفرة الفائض المالي المستقبلي، جراء ارتفاع اسعار النفط، من اجل تمويل فوائد واقساط الدين العام بدلا من الضغوط التي تمارسها الفوائد والاقساط على الانفاق العام ومزاحمة مشاريع البناء والاعمار، فقد بلغت الاقساط والفوائد في موازنة العام 2019 اكثر من (10) ترليون دينار ضمن بند النفقات العامة.
9- اقامة الهياكل والنظم الرسمية المستدامة لتطبيق مبادئ الفيدرالية المالية والتخلص من المشاكل المالية والنفطية المزمنة بين بغداد وحكومة اقليم وكوردستان واستمرار الاخير بسياسة الاستحواذ على تخصيصات مالية من المركز دون تسليم دينار واحد الى الخزينة الاتحادية.
10- يجب أن ترتكز سياسة المالية العامة على التّوسُّع التدريجي في الاستثمار العام، مع العمل في الوقت ذاته على بناء هوامش الأمان الوقائية. ولإيجاد الحيّز المطلوب لذلك، ينبغي وضع سقوف للإنفاق الجاري في الموازنات القادمة، لتعزيز القدرة المالية على دعم حجم أعلى من الاستثمار، والتكيف مع صدمات أسعار النفط.
11- تحسين اطر الاستثمار العام من خلال وضع اهداف استثمار عام متوسطة المدى كجزء من الناتج المحلي الاجمالي واعادة تحديد نظام ادارة الاستثمار العام بناءا على افضل الممارسات الدولية، وربط الاستثمارات العامة بالاطار الاستراتيجي الوطني والقطاعي، وتفعيل نظام المتابعة المركزية لمراجعة ومراقبة تنفيذ المشروع والتدقيق وتقديم التقارير والتقييم ومحاسبة المقصرين، ودمج نظام قياس الناتج المحلي الاجمالي مع نظام المعلومات الادارية المالية المتكامل. (الورقة البيضاء، 2020: 53)
12- لأجل تحقيق نسب انجاز مستهدفة للنفقات الاستثمارية والتغلب على معضلة الطاقة الاستيعابية لها ينبغي رفع كفاءة تنفيذ الموازنة الاستثمارية عن طريق انشاء صندوق ضامن للاستثمار تودع فيهِ تخصيصات الاستثمار السنوية او اية فوائض مالية لمصلحة توفير لوازم التنمية في الموازنة. ويكون هذا الصندوق ممُول وضامن للشركات المقاولة بغية رفع الطاقة الاستيعابية للموازنة الاستثمارية بمساعدة وإداء عالي لشركات المقاولات الدولية. كما يتوجب تحويل الفوائض المتحققة جراء ضعف تنفيذ الموازنة الاستثمارية الى الموازنة الاستثمارية (حصرا) في العام المقبل. (صالح، 2012:263)
13- ضرورة الالتفات إلى عدد من التحديات التي تحدّ من مرونة أدوات الحقيبة المالية في تحقيق أهدافها في الاقتصادات النفطية ومنها العراق، إذ تشكل البيروقراطية المعقدة وتفشي مختلف مظاهر الفساد والمحسوبية وضعف مستوى الشفافية والإفصاح وتخلف أساليب الإدارة والتكنلوجيا في كافة مؤسسات الدولة، قيودا كابحة لتفعيل دور السياسة المالية إزاء التحديات التي تواجه البلد، مما يستدعي إعادة هيكلة المالية العامة في العراق وتعزيز الشفافية والمساءلة والإفصاح، واعتماد تكنلوجيا حديثة في إدارة كافة المؤسسات الحكومية، بدعم وإسناد من المؤسسات الرقابية الدولية.
14- تعزيز القدرات الفنية اللازمة لبناء قاعدة بيانات مالية واقتصادية رصينة تكون منطلق للدراسات والبحوث وتقييم الاداء العام والحد من تباين البيانات المعتاد في الوزارات والمؤسسات العراقية.
15- بناء القدرات والمهارات الفنية والادارية لمنتسبي وزارة المالية، وللدرجات كافة، وانشاء معهد متخصص في مجال ادارة المالية العامة لتدريب وتعزيز كافة مهارات الموظفين من الدرجات المتوسطة والعليا ومواكبة التطورات التكنلوجية الحديثة في المجالات المالية والمحاسبية.
16- ضرورة استفادة وزارة المالية من الدراسات والبحوث الحديثة والرصينة في الميادين المالية والنقدية والمعدة من قبل اكاديميين وخبراء ومختصين بالشأن الاقتصادي، وتوظيف تلك الدراسات لخدمة عمليات التطوير المطلوب في الادارة المالية والسياسة المالية والموازنة العامة في اطار الاقتصاد الكلي .(العلاق:10)
المصادر
1- احمد ابريهي علي، الموازنات النقدية لإدارة المالية الحكومية، مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية، ايار/ 2020.
2- علي اسماعيل العلاق، اعادة النظر في بنية وعرض الموازنة العامة للدولة في اطار الاقتصاد الكلي، قسم البحوث والدراسات، البنك المركزي العراقي، بدون تاريخ.
3- مظهر محمد صالح، الطاقة الاستيعابية للنفقات التشغيلية ومرونة الكلفة المالية للسياسة النقدية، مجلة العلوم الاقتصادية والادارية، مجلد 18 (العدد : 65)، 2012.
4- الورقة البيضاء، التقرير النهائي لخلية الطوارئ للإصلاح المالي، تشرين الاول / 2020.
اضافةتعليق