الجذور الاقتصادية للاحتجاجات الحالية في العراق

 يُعد الاقتصاد ركيزة أساسية في حياة أي مجتمع كونه يعمل على استثمار الموارد الاقتصادية بما يسهم في تلبية حاجات المجتمع وتحقيق الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية.

   ما حصل عام 2003 في العراق من تحول مزدوج، سياسياً واقتصادياً، دون أن يسبقه تحول اجتماعي، بمعنى غياب أولوية التحول، تسبب في عدم استيعاب المجتمع لذلك التحول فضلاً عن عدم استقباله والتفاعل معه.

  ما زاد من سوء التحول، المزدوج، وعدم تقبله من قبل المجتمع، هو عنصر المفاجئة، حيث تم تبني التحول بشكل مفاجئ وفي آن واحد وليس تدريجياً، مما أفضى لعدم تفتيت آثار التحول وتم حقنها دفعة واحدة، فتعثر التحول ونجم عنه غياب الاستقرار وربما سيستمر ما لم تتخذ الإجراءات الكفيلة بتلافيه.

  حيث تم تبني التحول السياسي في العراق عام 2003 من النظام الشمولي إلى النظام الديمقراطي بالتزامن التحول اقتصادي من النظام الاشتراكي إلى النظام الرأسمالي، هذا ما يدلل على ضخامة الجرعة التي تلاقها المجتمع فلم يستوعبها مما يعني حصول التحول الاقتصادي الشكلي وترسيخ الاختلال الاقتصادي الذي كان العراق يعاني منه بالأساس قبل عام 2003، وكلا الأمرين يُعدان من الجذور الاقتصادية للاحتجاجات الحالية “ثورة أكتوبر" كما يُطلق عليها. 

شكلانية التحول الاقتصادي 

   إن تبني التحول الاقتصادي من الخطة إلى السوق يعني تخلي الدولة عن التدخل في الاقتصاد من جانب وفسح المجال للقطاع الخاص من جانب آخر ليكون هو المحرك الرئيس في الاقتصاد وفقاً لمبادئ السوق المتمثلة في الحرية الاقتصادية والملكية الخاصة والمنافسة لتحقيق الهدف الرئيس المتمثل بالأرباح.  

  لكن هذا التحول لم يحصل على أرض الواقع، وما حصل هو الأسوء ونجم عنه الاحتجاجات الحالية، ففي الوقت الذي انسحبت الدولة من الاقتصاد لم يُقدم القطاع الخاص ليحل محل الدولة، هذا ما أدى لانحسار فرص العمل في الوقت الذي يرتفع فيه حجم الأيدي العاملة بفعل النمو السكاني، فلم يخلق القطاع الخاص فرص العمل لاستيعاب الأيدي العاملة، فأصبح التحول شكلي وليس حقيقي، وذلك لأسباب عديدة أبرزها:

1- ما تمت الإشارة إليه آنفاً المتمثل في ضخامة جرعة التحول، سياسياً واقتصادياً وفي آن واحد، ولم يسبقه تحول اجتماعي يُمهد الطريق لاستقبال التحول المزدوج والتفاعل معه.

2- غياب البيئة الاستثمارية وانتشار الفساد في أغلب –إن لم تكُن كل-مفاصل الدولة المنسحبة، كلا الأمرين أسهما في تحجيم بل وطرد الاستثمار المحلي فضلاً عن الأجنبي، مما يعني عدم توليد فرص العمل وعدم استيعاب الأيدي العاملة وتفاقم البطالة آخيراً. 

فالتحول المزدوج ذو الدفعة الواحدة بعيداً عن التحول التدريجي بالتزامن مع غياب البيئة الاستثمارية وانتشار الفساد في مفاصل الدولة جعل من التحول الاقتصادي تحول شكلي لم يستوعب الشعب بشكل عام والأيدي العاملة بشكل خاص فظل الأغلب يعاني الإهمال والبطالة. 

ترسيخ الاختلال الاقتصادي 

  يعاني الاقتصاد العراقي من اختلال واضح قبل عام 2003 في أغلب مؤشراته وما حصل بعد هذا العام هو استمرار لذلك الاختلال ترسيخه بشكل أكبر، انعكس هذا الترسيخ على المجتمع مما دفع به إلى التدافع وصولاً للاحتجاجات الحالية التي تتميز بارتفاع سقف مطالبها من اقتصادية إلى سياسية.

الاختلال الاقتصادي الذي يعاني منه العراق هو هيمنة القطاع النفطي على الاقتصاد بشكل كبير جداً، في الوقت الذي تنخفض فيه مساهمة القطاعات الاقتصادية الأخرى إلى أدنى حد، مما تسبب في مشاكل كثيرة أبرزها انتشار الفساد وتفاقم البطالة.

  فمن حيث الفساد تم إبعاد النفط عن التوظيف السليم الذي يخدم الاقتصاد والمجتمع باتجاه التوظيف السياسي الذي يخدم البقاء في السلطة لأطول مدة ممكنة، هذا ما يعني ان توفَر النفط يسهم في تفاقم الفساد خصوصاً في ظل غياب المؤسسات المانعة من ظهوره والمحاربة له عند ظهوره، على اعتبار هو ثروة سهلة لم تدفع من قبل المواطنين وبالتالي من الممكن توظيفه أين ما تشاء السلطة الحاكمة دون رقيبٍ أو حسيب. 

  أما من حيث البطالة ففي الوقت الذي يهيمن فيه القطاع النفطي على الاقتصاد العراقي مقارنة بالمساهمة المتواضعة للقطاعات الأخرى هو لا يسهم في توليد المزيد من فرص العمل إلا بشكل محدود جداً مقارنة بالقطاعات الاقتصادية الأخرى التي تتسم في توليد المزيد من فرص العمل إلا إنها لم تسهم واقعاً في الاقتصاد العراقي بشكل كبير، مما يعني تفاقم حجم البطالة.

  فالاختلال الاقتصادي أسهم في توليد الفساد وانتشاره من جانب وتفاقم البطالة من جانب ثانٍ وكلا الجانبين أسهما في حرمان الكثير من حقوقهم وسوء الخدمات، فكانت النتيجة ظهور الاحتجاجات بين المدة والأخرى لكن دون أي جدوى تُذكر، هذا ما أدى لتراكم الامتعاض الشعبي تجاه الحكومة والنظام السياسي برمته، حتى انفجر في الاحتجاجات الحالية.  

خلاصة القول، إن شكلانية التحول الاقتصادي والاختلال الاقتصادي أحدهما غذى الآخر، وانعكست آثارهما معاً على المجتمع فرفضهما الأخير عبر الاحتجاجات المتناوبة لكن دون جدوى مما دفع به للاحتجاجات المستمرة الحالية التي ارتفع سقف مطالبها من اقتصادية تتمثل بفرص العمل، الخدمات، الكهرباء وغيرها، إلى مطالب سياسية تهدف لإسقاط الحكومة وتغيير النظام السياسي كونه لم يلبي مطالب الشعب وطموحه وتطلعاته.  

حل اقتصادي ناجع وخطواته

ولتلافي الاحتجاجات المستقبلية لابُد من العمل على تلبية مطالب الشعب وطموحه وتطلعاته بشكل حقيقي بعيداً عن التسويف والمماطلة وذلك لا يتحقق إلا من خلال حل اقتصادي ناجع يتمثل في مغادرة الشكلانية باتجاه جوهرية التحول الاقتصادي ومغادرة الاختلال الاقتصادي بإتجاه التنويع الاقتصادي. وبهذا الصدد يمكن تحديد أبرز الخطوات التي ينبغي إتباعها لتحقيق الحل الاقتصادي الناجع في الآتي:

أولاً: العمل على تحقيق التحول الاجتماعي واعتماد الأسلوب التدريجي في التحول المزدوج حتى يتم تفتيت الآثار من جانب واستقباله من قبل المجتمع والتفاعل معه من جانب آخر.

ثانياً: محاربة الفساد وتهيئة البيئة الاستثمارية المناسبة، هذا ما يشجع الاستثمار الوطني فضلاً جذب الاستثمار الأجنبي مما يعني خلق المزيد من فرص العمل وتخفيف حِدة البطالة.

ثالثاً: تنويع الاقتصاد العراقي من خلال إيلاء القطاعات الاقتصادية الأخرى مزيداً من الاهتمام وعدم الاقتصار على القطاع النفطي لان النفط ثروة عامة ناضبة متذبذبة.

التعليقات