من اول الافكار التي اهتدى اليها الانسان ، وكانت قد لعبت دورا خطيرا في تطوير الحياة الانسانية ،هي فكرة المجتمع او التجمع ، كانت فكرة دفعته مرارا وتكرارا الى ارتكاب الاخطاء والحماقات بحق المجتمعات الانسانية ، من خلال محاولات السيطرة عليها ، وفي ذات الوقت كانت فكرة التجمع دافعا لمزيد من المحاولات التي تهدف الى تطوير الحياة الاجتماعية ، وارسائها على ركائز تضمن لها استقرارها ونموها ، في الوقت الراهن تبلورت فكرة التجمع او المجتمع ، واصبحت ميدانا للبحث والتجارب العشوائية النابعة من تيارات الفكر المعاصرة تارة ، وميدانا لتطبيقات بعض السياسيين ضيقي الافق تارة اخرى خصوصا الناضرين الى القريب الهادفين لاستحصال نفع عاجل من كل ما يصنعون فكان من جراء ذلك أن انهارت القواعد والمرتكزات العامة للأسس التي من المفترض ان يقوم عليها أي مجتمع من المجتمعات التي تهدف من خلال مسيرتها الى تحقيق غايات وتنفيذ أهداف وخطط اصلاحية على وجه الارض.
فكرة المجتمع تمتعت بأهمية بالغة في الفلسفة اليونانية القديمة وكانت ضمن اولى اهتمامات سقراط ، وارسطو ، وافلاطون ، لكن هذه الفكرة خرجت عن نطاق السيطرة آنذاك فلم يتمكن الفلاسفة من تنفيذ أحلامهم على وجه الارض ، لان طروحاتهم بالأصل كانت تعاني من مشكلة أساسية تمثلت بغياب " الضابطة المنطقية العقلائية " مما أدى الى تفكيك المجتمعات الاغريقية واليونانية ، بقي العلماء يولون اهمية بالغة لفكرة المجتمع بعد اليونان ، الى ان وصلت سلسلتهم الى الفارابي ومسكويه واخوان الصفا ، وابن خلدون لكن حدث أن تشعبت المرتكزات فغابت التجربة الاجتماعية عن الميدان وبقيت تتحرك الافكار الاجتماعية الى ان افردت فكرة المجتمع نفسها ضمن علم يختص بها وهو علم الاجتماع .
القرآن الكريم بوجوده الازلي وامتداده الزمكاني يحدد هذه الفكرة ويجعل منها غاية أساسية من غايات الوجود البشري على الارض ، قال تعالى : " وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم " اشترط القرآن بفكرة الجماعة او المجتمع ضرورة وجود الضابطة العقلائية السلوكية التي مرتكزها الاساس : التقوى والعمل الصالح ، لان التقوى والعمل الصالح ، عاملان يتحدد على أساس منهما طبيعة المجتمع وأهدافه وغاياته العامة التي يسعى لتحقيقها او تنفيذها من خلال المجتمع ، اقتصرت هذه الفكرة على الجانب النظري ولم ترتقي المجتمعات الى المرحلة المقررة من قبل الارادة الالهية الا ضمن مشروعين تمثلا بـ دولة الرسول الاكرم محمد "صلى الله عليه وآله وسلم" ، ودولة الامام علي بن ابي طالب "عليه السلام" وكانت الدولتين برنامج منظم لتطبيق الصيغة الاسلامية للحياة الانسانية على المجتمع في سبيل بناء الانسان المتكامل ، فقد فكرَ الرسول وكذلك الامام علي بن ابي طالب (ع) في واقع المجتمعات التي حكمها وبحثا عن افضل الطرق التي من شأنها ان تبرمج فكرة المجتمع وترتفع بها الى ذروة الرفاهية والتمدن والقوة والامن ...
ومادام عنوان مقالنا عن أصل فكرة الاجتماع او المجتمع وغايتها في نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام لابد من معرفة قرينتها .... فالفكرة مقرونة بالفرد ، ومقرونة بالحكم ايضا ، والضابطة لهذه المنظومة ضرورة مراعاة حركة الفرد والمجتمع والدولة ، فهذه الثلاثة في نهج البلاغة تمثل وسائل صناعة أي مجتمع من المجتمعات ، بل تمثل ضرورية لصناعة اي حالة من الحالات الاجتماعية السلبية او الايجابية ، يقع التسلسل المنطقي في اصل هذه الفكرة بشكل ترتيبي يبدأ من القاعدة وهي النفس البشرية التي تعتبر أصلا لكل حالة فردية او اجتماعية او حتى سياسية فمنظومة التفكير الفردي تتشكل منها ، ومنظومة التفكير الاجتماعي تتشكل منها ايضا ، فظلا عن منظومة التفكير والانتاج والتنضيد السياسي لمرحلة من المراحل ، فالنفس او الذات هي الاساس الاول الذي يعتمده الامام علي عليه السلام في رسم ملامح الفكرة الاجتماعية بقوله : النفس هي قلب وقطب جميع المباحث الحكمية ومحور جميع مسائل العلوم العقلية والنقلية وأساس جميع الخيرات والسعادات، ومعرفتها أشرف المعارف، وإذا ما تمت معرفة جنس هذه الجوهرة النفيسة فإنها تبدّل صورة الإنكار في مثل هذه المسائل الضرورية في النظام الرباني الأحسن إلى دولة الاقرار والاعتراف ، وفي نص آخر يقول الامام: النفس الإنسانية من شأنها أن تبلغ إلى درجة يكون جميع الموجودات أجزاء ذاتها وتكون قوتها سارية في الجميع ويكون وجودها غاية الكون والخليقة ، اذا ما سيطر نظامها المعرفي على الفرد الذي يصفه الامام علي بن ابي طالب : انه أشرف الموجودات وأعظم المخلوقات على حسب النوع هو الإنسان وبحسب الشخص فهو الفرد الكامل الّذي يكون كمال العالم الكوني وغاية الحركة الوجودية والإيجادية ، وبهذا تكون النفس البشرية بلغة اليوم نظام او برنامج لتوجيه الفرد توجيها معرفيا او فكريا نحو السلب او الايجاب الصالح والطالح ، والمجتمع غاية النفس البشرية ويسميه الامام علي بن ابي طالب (ع) غاية الغايات لتمام الموجودات الإمكانية، بناءً على ذلك فإنّ دوام مبادئ الغايات هو دليل على استمرار بقاء العلة الغائية. اذن فبقاء الإنسان الكامل الفرد هو بقاء للعالم أجمع، والمجتمع استحالة ان يتكون أو يتبلور من غير مجموعة هائلة من الافراد، ومنظومة الحكم ناتجة عن كل ذلك.
ديناميكية المجتمع وحركته وارتقائه الى مراحل متقدمة من التطور المعرفي والفكري والثقافي والسياسي متوقف على هذه المرتكزات ، في الحالة التي يتم بنائها بصورة صحيحة وسليمة ، فالنفس البشرية اس لابد للفرد منها فهي تسعى لتدعيمه بالقيم لكي يتمكن الفرد من استيعاب المتغيرات التي من شأنها أن تؤثر عليه ، وبهذا يتحول الفرد الى مرتكز سليم في الشكل الكلي للمجموعة او المجتمع ، والمجتمع السليم ذات الغايات والقيم والاهداف العظيمة هو مجتمع قادر على انتاج نظام سياسي يتجه بمجتمعه الى بر الامان ، والعكس من هذه السلسلة يعني بناء قنبلة موقوته لتدمير كل شيء وهنا تتضح الحكمة من مقولة ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، لان النفس الانسانية أس الاجتماع السليم في منظور امير المؤمنين ، والمجتمع يساعد النفس ويدعم وجود الفرد ايضا في عدم اكتسابه أي عنصر فكري قادم من البيئة بسبب حالة معينة من حالات التلوث المعرفي او الأيديولوجي ، ففي الحالة الاولى تتحقق الارادة الالهية وتتم عملية انتاج نظام معرفي له علاقة بغاية وجود الانسان على وجه الارض ، والحالة الثانية تٌحيل كل شيء في الوجود ركاما .