ان الحكومة لن تحرر مؤسساتها من الفساد إذا بقيت تتعامل بحذر مبالغ فيه مع كبار الفاسدين، فيما تصب جام غضبها على الصغار منهم، فصغار الفاسدين في دائرة الفساد هم أشبه بالجواسيس غير المهمين الذين يمكن التضحية بهم بسهولة، وإيجاد بدلاء لهم، لكن ذلك لن يقتلع الفساد من جذوره
نجح العراق في هزيمة تنظيم داعش عسكريا، وهو على وشك تحرير ارضه بالكامل، بعد ثلاث سنوات من الحرب المدمرة مع أعتى هجمة إرهابية لتنظيم متطرف شهدها العصر الحديث.
ولأن الحكومة العراقية بقيادة رئيس الوزراء حيدر العبادي أثبتت كفاءتها في حرب استعادة الأرض، فهذا يؤهلها لفتح حرب جديدة من نوع مختلف هدفها تحرير مؤسسات الدولة من الفاسدين، وهي حرب لا خيار امام العبادي الا خوضها، فداعش ما هي الا ولادة طبيعية خرجت من رحم الفساد الذي حول العراق من دولة كان ينبغي لها ان تسير في طريق الديمقراطية لتصبح أنموذجا لها في شرق أوسط يحكمه الاستبداد الى دولة فاشلة تعجز عن فرض سيادتها، وانفاذ قانونها، وتسودها الجريمة والفوضى بمختلف صورها وادواتها.
ان الحرب مع الفساد في العراق بدأت تُدق طبولها بوتيرة عالية، وتكاد تسمعها في مختلف المنابر السياسية والدينية المؤثرة، بل ان الجميع في ترقب وانتظار لإعلان ساعة الصفر فيها، وبدأ فصولها بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وليست القضية هنا قضية مبادئ وقيم بقدر ما هي قضية إنعاش لمؤسسات الدولة، وحماية المصالح الاستراتيجية العليا. ناهيك عن أن التخلص من الفساد صار مطلبا شعبيا ستشكل مكافحته مقياسا لجدارة حكومة العبادي وجديتها في خدمة مواطنيها.
مخاوف المتوقعة
مع تصاعد الحملة على الفساد سوف تكون ردة فعل الفاسدين هي محاولة خلط الأوراق وممارسة مختلف الطرق لأبعاد الخطر عنهم، لشل قدرة الحكومة ومنعها من تحقيق هدفها، ومنها: اطلاق حملة تسقيط واسعة النطاق على مستوى وسائل الاعلام بمختلف اشكالها، ولاسيما وسائل التواصل الاجتماعي بنشر الاشاعات المغرضة التي تتهم الحكومة او بعض أطرافها بالفساد، أو العمالة للخارج، او محاربة الأديان والمعتقدات، او الدعاية الانتخابية، او مصادرة الجهود والتضحيات... لتهييج الرأي العام العراقي، والهائه بمعارك جانبية بعيدا عن حربه الرئيسة مع الفساد. أو اللجوء الى تأجيج الصراع السياسي من خلال خلق أزمات من نوع ما بين المكونات العراقية على أسس دينية أو عرقية أو مذهبية وغيرها. والحرص على ابعاد المتصدين لملف الفساد من المسؤولين الحكوميين او النشطاء المدنيين بالاغتيال او التهديد أو الاقصاء من المنصب ومنحه لمقربين يعملون على غلق ملفاتهم المشبوهة.
فضلا عما تقدم، قد يتم استغلال المؤسسات الدستورية (التشريعية والقضائية) بطريقة أو أخرى لتعطيل القرار الحكومي. وكذلك الاستعانة بالوجود المسلح خارج سلطة الدولة لترهيب الحكومة. او تحريك بعض مراكز النفوذ في الخارج للضغط عليها والتأثير على قرارها السيادي.
وعند شعور رموز الفساد بخسارة الحرب، فسيكون الهروب من العراق أفضل الخيارات المتاحة للكثير منهم، للتخلص من الملاحقة القانونية في الداخل من جهة، والعيش بنعيم الثروات والمصالح الهائلة التي حصلوا عليها بطرق فاسدة، من جهة أخرى.
هذه الاساليب الخطيرة التي ستمارسها دوائر الفساد في العراق ليست محظ خيال، بل هي حقائق نابعة من مقدار السلطة والنفوذ التي تتمتع بها شبكاتهم، والتي تضخمت وتعقدت عبر أكثر من عقد من الزمن حتى صارت جزء من البنية المؤسساتية للدولة، لذا من الضروري جدا ان تعد الحكومة نفسها بشكل جيد لحربها القادمة، فالفشل غير مطروح على الطاولة ابدا، فأما استعادة العراق لشعبه واما تسليمه لمصير مجهول بيد الفاسدين.
ضرب مركز ثقل الفساد
طالما نظرنا الى المواجهة مع الفساد على انها حرب العراق القادمة، فيمكن ان نستعير من الحرب بعض قواعدها في هزيمته، ومنها قاعدة مركز الثقل الاستراتيجي، التي تركز على ان الانتصار في أي حرب يتطلب ضرب مركز ثقل العدو الاستراتيجي، فتدمير هذا المركز سيكون المفتاح لهزيمته ودحره. وبالنسبة للفساد في العراق، فان مركز ثقله هو كبار الفاسدين في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية(داخل السلطة أو خارجها)، فهؤلاء يتعاونون فيما بينهم بشكل أو آخر حتى عندما يختلفون سياسيا، ولديهم هيمنة ونفوذ على القرار الحكومي، ولا يمكن للعبادي ان ينجح في حربه معهم ما لم يتوجه الى ضربهم مباشرة بسرعة وقوة لا تسمح لهم باكتساب الوقت للمناورة، مستثمرا زخم الشعور بالانتصار على داعش في تعبئة الرأي العام الرسمي والشعبي ضدهم.
ان الحكومة لن تحرر مؤسساتها من الفساد إذا بقيت تتعامل بحذر مبالغ فيه مع كبار الفاسدين، فيما تصب جام غضبها على الصغار منهم، فصغار الفاسدين في دائرة الفساد هم أشبه بالجواسيس غير المهمين الذين يمكن التضحية بهم بسهولة، وإيجاد بدلاء لهم، لكن ذلك لن يقتلع الفساد من جذوره. لذا من الضروري أن توجه بوصلة الحرب مع الفساد نحو كبار الفاسدين بلا رحمة ولا تفاوض ولا خوف، لاسيما في هذا الوقت.
آليات مفيدة في استراتيجية محاربة الفساد
قد تكون الحرب مع الفساد هي آخر الحروب التي سيخوضها السيد العبادي كقائد اعلى للقرار التنفيذي في العراق، وهو ملزم بالإقدام عليها لاستكمال متطلبات تحقيق الاستقرار والأمن والتنمية لشعبه. وتحتاج أي استراتيجية توضع للقضاء على الفساد أن تكون متكاملة، ويمكن الوثوق بها، وقابلة للتطبيق، ولعله من الاليات المفيدة التي تحتاج اليها هذه الاستراتيجية لتنجز مهمتها، هي: ان لا يكون العبادي نفسه والدائرة القريبة المحيطة به جزء من شبكة الفساد؛ لأن كل قيادة تُقبل على حرب من نوع ما عليها ان تضمن فصل خنادقها عن خنادق اعدائها بشكل واضح، فتداخل الخنادق أمر مضر، ويخلق الارباك والفوضى، ولا يجلب النصر، هذا من جانب.
ومن جانب آخر، من المهم جدا تفعيل مؤسسات الرقابة الإدارية والمالية والقضائية، لأخذ دورها المتوقع منها في مثل هذه الظروف الحساسة، ولا يكون ذلك الا بتسليم ادارتها الى قيادات نزيهة وكفؤة وقوية تؤمن بالتوجه الحكومي في محاربة الفساد. وكذلك لابد من جعل الشعب شريكا للحكومة في حربها على الفساد، وهذا يتطلب تعزيز الثقة بين الطرفين من خلال إجراءات حكومية واضحة لا تسمح بسقوط الرأي العام في مصيدة الفاسدين من جهة، وترسيخ قناعته بان الحكومة تعمل لمصلحته، من جهة أخرى، وقد تكون الاستعانة بثقل ورمزية المؤسسات الدينية، وعلى رأسها المرجعية الدينية في النجف الاشرف واحدا من أقصر الطرق لكسب دعم الناس والتفافهم حول البرنامج الحكومي.
فضلا عما تقدم، فان جزء من السر في هزيمة الفساد، يكمن في بسط سلطة القانون، وهذا سيحتاج الى قوة ودعم الأجهزة الأمنية والعسكرية، لذا لا بد من تأكيد استقلالية وتماسك هذه الأجهزة، وضمان خضوعها المطلق لقرارات الحكومة.
اما تحييد تأثيرات النفوذ الخارجي الداعم لشبكات الفساد في العراق، فيحتاج الى سياسة خارجية أكثر نشاطا تستطيع كسب القرار الخارجي لمصلحة الحرب على الفساد، بطريقة مماثلة لما حصل في الحرب على داعش، والنجاح في ذلك سيكون دليلا على تعافي سياستنا الخارجية، وتحولها الى أداة فاعلة في تحقيق مصالحنا العليا.
أخيرا، من الضروري أن يدرك السيد العبادي أن عليه جعل حربه مع الفساد مفتوحة، ولا تتوقف عند حد محاربة الفساد المالي؛ لأن مهمة القضاء على الفساد لا تنحصر بحماية المال العام فقط، وانما تشمل ضمان كفاءة مؤسسات الدولة، واستجابتها الجيدة والسريعة لحاجات المواطنين، بعيدا عن البيروقراطية المقيتة المنتجة لثقافة الفساد، وابعاد المحسوبية والمنسوبية والولاءات الضيقة عن الإدارة، فمعظم الفساد المالي في العراق جاء كمحصلة نهائية للفساد في الإدارة، لذا لا بد من النظر اليه كمنظومة سيئة تحتاج الى حزمة إجراءات متكاملة للقضاء عليه؛ لأنه متى ما شعر أقطابه بتهديد جدي لمصالحهم في مجال ما سيتحولون بسهولة وذكاء الى مجال آخر، وواجب الحكومة هي عدم فسح المجال لهم للتمتع بحرية المناورة.
اضافةتعليق