أقرت الحكومة ممثلة بمجلس الوزراء ومن خلال لجنة متخصصة ومنذ فترة ليست بالقصيرة مسالة زيادة الاجور والرواتب لموظفي الدولة العراقية، وكما تبين من تصريحات السادة الوزراء المعنيون، إن الزيادة تستهدف جميع الموظفين الا ان هذه الزيادة تتوجه نحو اقرار حقوق الشهادة وسنوات الخدمة وموقع العمل والنفقات العائلية، ومن هنا فإننا إزاء قضية في غاية الاهمية الا وهي قضية زيادة الكتلة النقدية في السوق العراقية، وكما هو معروف ان هناك زيادات مضطردة في نسب التضخم في الاقتصاد العراقي قد حصلت في الأشهر الأخيرة، بالرغم من انخفاض او استقرار سعر الصرف للدينار العراقي وهو الأداة التي عولت عليها السياسة النقدية في الحد من تلك الظاهرة، الأمر الذي جعل من ارقام الرواتب والأجور لا تعني شيئا أمام ارتفاع أسعار السلع والخدمات وبالذات الاستهلاكية والغذائية فضلا عن زيادة اجور النقل، وكما هو متعارف عليه في النظرية الاقتصادية فان الاثر المضاعف قد بدا واضحا في الزيادات المتتالية في أسعار السلع والخدمات التي اعقبت زيادة أسعار المشتقات النفطية.
سياسة استقرار سعر الصرف هل هي الحل الوحيد؟
وعندما نناقش اليوم قضية رفع الأجور والرواتب المزمع تنفيذها فاننا لانطرح عقبات امام هذه الزيادة بل نتساءل كيف هي الاجراءات والخطط التي يجب ان تتخذ للحد من زيادة الاسعار المتوقعة حال حدوث زيادة الرواتب والاجور؟ المفهوم من مجمل السياسة الاقتصادية في العراق والتي اتبعت خلال السنوات الاربع الاخيرة هي ان الكرة في ملعب البنك المركزي العراقي باعتباره المسؤول عن السياسة النقدية فهو المسؤول اذن عن ضبط عملية التضخم، لكن الملفت للنظر ان الاسعار لم ترتبط بشكل كبير حاضرا بسعر الدولار (وهو احد أهم الأدوات التي استخدمها) مع العلم ان الميزة الايجابية التي حققها البنك المركزي العراقي خلال السنوات الأخيرة هي المحافظة على سعر صرف مستقر للدينار العراقي مقابل الدولار، لكن البنك المركزي لم يستخدم أدواته النقدية الأخرى كالسندات بشكل واسع اوغيرها من الادوات مثل سعر الفائدة وانما بقيت هذه الادوات رهينة بالظروف التي تمر بها البلاد، وبعد فاننا اذ نناقش قضية زيادة الاجور والرواتب فهي من ناحية تأتي لتلبي احتياجات الموظف الحكومي من خلال زيادة دخله الشهري، ومن ناحية ثانية فانها ستزيد من حمى ارتفاع الأسعار الذي يحصل في البلاد حاليا، ومع بدا التصريحات حول هذه الزيادة فان الكثير من اسعار السلع والخدمات ذات المساس بحياة المواطن قد بدات بالتحرك نحو درجات وآفاق أعلى من أي وقت مضى، وهنا يتبادر الى الذهن اذا استطاع الموظفون الحكوميون ان يواجهوا الزيادات المتوقعة في الاسعار من خلال زيادة رواتبهم، فما هو مصير الشرائح المجتمعية التي تعمل في خارج الاطار الحكومي؟ هناك الكثير من العوائل العراقية التي تعمل بالاجر اليومي الثابت تقريبا، والكثير أيضا منها يعتمد على توفر فرص العمل اليومية والتي بالكاد تتوفر في سوق العمل الذي يشهد منافسة حادة وبأجور متدنية لكثرة عرض العمالة، ناهيك عن الالاف من العاطلين عن العمل.
تحريك عجلة الإنتاج... مفتاح الحل
من هنا تاتي ضرورة ايجاد السبل الكفيلة لمواجهة الزيادات الجديدة في الاسعار امر في غاية الضرورة والأهمية، وذلك كي لا يقع الاقتصاد العراقي في فخ التضخم المتزايد وحينها لايصبح الحل ممكنا ويسيرا الا من خلال عمليات كبرى تكون عواقبها الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية خطيرة للغاية، فضلا عن ان التضخم سوف يدفع بالتأكيد إلى امتصاص هذه الزيادة في الاجور والرواتب ويصبح من الجلي والواضح والضروري أن يكون هناك خطة محكمة للسيطرة على الاسعار وترويضها حينها تكون الزيادة في الرواتب زيادة حقيقية وليست شكلية، وليس امام صانعي القرار وراسمي السياسة الاقتصادية في البلاد من حلول سوى أن تسلك الخيارات الاقتصادية الوطنية التي تتلائم وطبيعة المجتمع والاقتصاد المحليين، وهذه الخيارات في جلها يجب ان تصنع في المطبخ الاقتصادي العراقي بعيدا عن مصالح المؤسسات الاقتصادية الدولية وبما ينسجم ايضا مع طبيعة التحول الاقتصادي في العراق وبنفس تعطي الدور المتميز والبناء لهذا الاقتصاد في منظومة الاقتصاد العالمي، وهذا لا يتحقق إلا من خلال:
1. لابد من تحريك ماكنة الانتاج العراقية سواء في القطاع الحكومي او القطاع الخاص والتي تعاني من توقف تام نتيجة لاجتياح السوق المحلية من قبل البضائع الاجنبية بشكل واسع.
2. لابد من وضع خطط عاجلة وسريعة للنهوض بواقع القطاع الزراعي الذي يعاني من انهيار كبير في البنية التحتية مع توقف الدعم المحلي للإنتاج والمتمثل بتوفير البذور والاسمدة والمستلزمات الزراعية الأخرى بأسعار مناسبة.
3. لابد من النهوض بواقع الصناعة العراقية من خلال سياسة التحديث التكنولوجي لتخفيض تكاليف الوحدة الواحدة من الانتاج وبالتالي قدرة المؤسسات والمصانع والمشاريع الاقتصادية العراقية المنافسة في السوق المحلية واستمرار انتاجها ومن ثم قدرتها في استيعاب الاعداد الجديدة من العاطلين عن العمل.
4. لابد من توفير الحصانة والحماية اللازمة للإنتاج العراقي بكافة اشكاله والاخذ بنظر الاعتبار هذه المسالة عند البدء بمفاوضات الانضمام لمنظمة التجارة العالمية، لان معظم البلدان التي انضمت الى تلك المنظمة استطاعت ومن خلال الحماية التي وفرتها لسلعها ولسنوات طويلة ان تحقق ميزة نسبية لتلك السلع تستطيع بها مواجهة المنافسة المتحققة بعد دخولها منظمة التجارة العالمية من خلال اعتماد مبدا حرية التجارة، فما بالنا مع الاقتصاد العراقي الذي يعاني من انهيار شبه تام في البنية التنحتية مع تخلف كبير في منظومة الإنتاج الصناعي والزراعي والخدمي.
5. لابد من مواجهة الفساد بكل اشكاله كي نعيد الثقة بالاقتصاد العراقي وبالمنتج العراقي وبالتالي نشيع حالة التفاؤل التي يفترض ان تسود في عملية إعادة البناء والاعمار.
وبذلك ومن خلال تلك الخطوات يمكن القول أن عملية تحقيق الهدف الذي نسعى اليه وهو زيادة الدخل الحقيقي وليست زيادة الدخل النقدي هو عملية ممكنة إذ أن الأول يعني القوة الشرائية للدخل والثاني يعني هو كمية النقود المستلمة والفرق بين الاثنين واضح وبين وعلى مخططي السياستين المالية والنقدية ان يسعو جميعا لتحقيق ذلك الهدف خدمة للشعب العراقي وصيانة لاقتصاده.