في العراق الفساد يوازي الإرهاب بل في كثير من الأحيان المغذي له ، الجميع يعترف ويركن إلى هذا الامر حتى أصحاب القرار السياسي في البلد، وكلاهما ( الفساد ، الإرهاب ) خطران يهددان حاضر ومستقبل المجتمع والدولة ككيان ، الإرهاب واضح لعامة إفراد المجتمع في شكله ومضمونة وأهدافه لذلك نجد الجميع متوحد في حرب ضروس على الأرض في مواجهة والخلاص منه ، إما الفساد فإمرة مختلف ، المجتمع يعاني الانقسام في الرؤى والوسائل والأدوات اللازمة في القضاء عليه ، هذا الانقسام متأتي من طبيعة النظام السياسي وشكله وجوهرة وتلك التشريعات القوانين التي ترسى عليها وخاصة بعد عام 2003، فنجده تارة يختبئ وتارة أخرى يتجسد ضمنيا في كثير من المواقع والأساليب في إدارة الدولة مثل سوء استخدام واستغلال النفوذ الوظيفي من قبل كبار موظفي الدولة من صانعي القرار السياسي وما دونهم وسوء الإدارة العامة وتبادل المصالح الخاصة وشيوع الرشوة والسرقة والوساطة والاختلاس والتزوير والروتين والبيروقراطية والمحاباة واللامبالاة والابــتزاز والتلاعب والمنسوبية والكسب غير المشروع، كل هذه تندرج ضمن ما يعرف بالفساد المتعدد الإشكال والأنواع والتوصيفات في بلدنا اليوم.
جذور الفساد
يرجع الكثير جذور الفساد في الدولة العراقية الى بدايات مرحلة تشكيل الدولة العراقية الحديثة عام 1921 حيث انتشار الرشاوى والعلاقات في الدوائر الحكومية في وقتها .لكن الحجم الضئيل للهيكل الإداري ولقلة موارد الدولة المالية والاقتصادية وعوامل التخلف الكثيرة ساعدت على إخفائه وعدم ولوجه إلى السطح الجماهيري ، بعد تأميم النفط العراقي 1972 وتزايد إمكانيات العراق المالية، واتساع الجهاز الإداري وما تطلبه قوانين وتعليمات تنظم عملة وما صاحبه من تنمية متنوعة بدأت مؤشرات الفساد بالتصاعد الملحوظ منذ عام 1980، وأما السنوات التي تلت عام 1991 فقد رسمت خريطة واضحة لواقع الفساد الإداري شملت مؤسسات الدولة كافة، بما فيها المؤسسات ذات الأهمية الإستراتجية، حيث طال الوباء الخطير المؤسسة العسكرية والتربية و القضاء ...الخ... وقد حاول النظام السابق إنكار وجود هذا الفساد في البداية، ولكن اعترف تدريجياً بانتشاره ،معللاً أسبابه إلى الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق بعد غزو النظام المقبور للكويت عام 1991 ، بعد 9 / 4 / 2003 حيث انهارت مؤسسات الدولة والسلطة معاً , وحدث ماحدث من تخريب وسرقة لأموال الدولة وبشكل يوحي التأييد لهذه الممارسات أو عدم الاعتراض الفعلي عليها من قبل غالبية الشعب الذين اعتقدوا خطأ أنها ملك النظام القمعي وفي الواقع هي كانت ملكهم وملك كل الاجيال القادمة ، هذه الحالة أعطت أو جعلت كثير من الناس يتمادى في السرقة والاستحواذ على الأموال العامة ، ثم جاءت عملية تشكيل النظام السياسي على أسس ديمقراطية مثل مجلس الحكم النواة الأولى في بزوغها ومن ثم حكومة مؤقتة وأخرى دائمة وكم هائل من الوزارات والهيئات المستقلة... الخ على أساس المحاصصة (الطائفية - الحزبية)، وهي المرحلة الأسوأ والأكثر خطورة ليس في سوء الإدارة حسب، وإنما على إمكانية أعادة تشكيل وبناء العراق كدولة ذات وزن اقتصادي وسياسي وعسكري في المنطقة وكدولة وكيان موحد ، المحاصصة التي اتبعت بعد عام 2003 حطمت المبدأ الجوهري والأساسي الذي كان كل العراقيين يطمحون في تحققه وهو الإدارة الوطنية الناجحة المبنية على الكفاءة والمهنية في إدارة الدولة ، هذا لم يتحقق لان المحاصصة أتاحت للفاسدين فرصة نوعية في الرشوة والسرقة واستغلال النفوذ وكل أنواع الفساد وذلك بتجييرها القومية والطائفية كمبدأ بديل عن الكفاءة والمهنية في الحكم ، القوانين والتشريعات والضوابط الإدارية والسياسة والقانونية التي رست بعد عام 2003 كلها شرعة للمحاصصة وبالتالي أصبح المعيار الطائفي والقومي والحزبي هو الذي يحكم بعيدا عن الكفاءة والمهنــية .
بعض الاستراتيجيات في مكافحة الفساد
أولا - مكافحة الفساد يتطلب ضرب وإبادة الأسس التي سهلت رواجه وانتشاره وهي كثيرة ربما بعضها يحتاج إلى عقود من الزمن لكن البحث والحراك الجماهيري اليوم سائر على ما هو في متناول اليد والذي يمكن التأشير عليه بسهولة إلا وهو المحاصصة في إدارة البلد ، الخلاص منها هنا يأخذنا إلى ضرورة الخلاص من مشرعيها وعرابيها وهم أشخاص وجماعات قليلة من كل الأطياف ، فإلغاءها في تولي مناصب الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية ، وفتح المجال للشخصيات الوطنية المهنية الكفوءة التي تحرص على بقاء تأريخها نقياً دون أن يدنس بالسحت الحرام ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب ،فهنا يتحقق المقياس الوطني لمدى الجدية في تأسيس دولة حديثة تأخذ بقياسات عالمية في القيادة والإدارة مثل : التحصيل العلمي و المهني ، الخبرة والكفاءة المهنية ،الاختصاص ، السلوك الوظيفي ، الاجتماعي ، النزاهة، نوع المهارات المطلوب ..الخ..وتجري المنافسة بين المرشحين وفقاً لهذه الأسس .
ثانيا - هناك مبدأ أو قاعدة فقهية تقول ( أذا صلح الحاكم صلح المحكوم) فالحاكم أو المسؤول الصالح هو الذي يتبنى إصلاح من يقع تحت مسؤوليته ويؤخذ بمبدأ معالجة الفساد بدءاً من قمة الهرم السياسي والإداري نزولاً إلى القاعدة ، في العراق اليوم وللأسف القاعدة تطالب بإصلاح الهرم ورأس الهرم يراوغ في تنفيذ مطالب هذه القاعدة الجماهيرية في الإصلاح ومكافحة الفساد ولأن الفساد استشرى في مفاصل الدولة كافة فهنا يتحتم إن يكون الإصلاح شامل وعام وجوهري لا يقتصر على الشكليات. وأيضا التأكيد على الكثير من المؤسسات التي تعني بمكافحة الفساد ومنها هيئة النزاهة وذلك بالدفع بها إلى اعتماد كفاءات نزيهة وشجاعة في دوائر التفتيش والمراقبة وبالحرص الشديد على دقة وسرعة معالجة الحالات المخلة بالنزاهة ..وحسمها بعيداً عن الإرباك والتشهير الإعلامي فقط الغير الموضوعي وكذلك المؤسسات القضائية الأخرى التي لها علاقة بالتحقيق والبت في المتهمين في سرقة المال العام .
ثالثا ً: البحث عن أموال العراق التي هدرها النظام السابق وكذلك التي هدرت في ضل النظام السياسي الحالي والتي تقدر بمئات المليارات من الدولارات ، بعض هذه الأموال هرب إلى خارج العراق في حسابات مصرفية بأسماء شخصيات سياسية وبعضها أيضا استثمر ب في مشاريع اقتصادية وعمرانية وغيرها وإذا ما أخذنا الكثير من التقارير والتسريبات الإعلامية والسياسية الدولية تتحدث عن ذلك وتؤكد وجودها وهدرها ،الحاجة ملحة اليوم وفي ضل الضائقة المالية الاقتصادية التي يعاني منها العراق لأعادتها الى خزينة الدولة ومحاسبة الفاسدين الذين تسببوا في إخفائها وتهريبها ، وأيضا اتخاذ التدابير الأمنية والقانونية والإدارية لحماية المال العام أينما وجد في الدولة والمجتمع (المال السائب يشجع على السرقة) بوضع ضوابط صارمة لحمايته، كيفية تداوله، والتشديد على اعادة المسروق منه إلى الدولة .
رابعا: مكافحة الفساد والحفاظ على الثروة الوطنية وبناء دولة مؤسسات يحتاج إلى وجود شعب واعِي، شجاع، حريص على ثروته الوطنية ومحافظ عليها بشتى الوسائل والطرق، يؤشر على الفاسدين ويرفع صوته عالياً لمحاسبتهم وفقاً للقانون. الشعب العراقي لا يزال يمتلك هذه الخصائص رغم تعرضه لهزات عنيفة متتالية أفقدته الكثير من عنفوانه الوطني الذي طالما تميز به، ولكن الواقع يتطلب تفعيل دور هنا وفي هذه الظروف، الدور هنا لأصحاب التأثير في المسار الشعبي الجماهيري من كتاب وإعلاميين وصحفيين ووسائل إعلام وطنية مختلفة ومؤسسات مجتمع مدني ومؤسسات وشخصيات دينية ومؤسسات تعليمية من جامعات وغيرها ... الخ.
وفي النهاية الفساد في العراق داء مزمن وجد مع وجود ونشوء الدولة الحديثة فيه ولا يمكن عده من النوادر في عالم اليوم لكن استفحاله ووصوله إلى مرحلة انهيار أسس ومقومات الدولة العراقية من غياب سيادة القانون والعدالة الاجتماعية وانتشار ظاهرة الإرهاب وسيطرة الجماعات الإرهابية على كثير من المدن العراقية بسببه يعد من النوادر التي تستدعي من الجميع الوقوف عنده في البحث عن أسبابة وطرق واليات معالجة والخلاص منه.