التسقيط السياسي يعرف بـذلك السلوك السياسي المريض الذي تتبعه جماعات السلطة لتصفية الحسابات فيما بينها لتعود مرة أخرى للواجهة من اجل نيل ثقة المواطن وبالتحديد قبيل موسم الانتخابات لتجني ثماره عند صناديق الاقتراع. كما ان التسقيط له علاقة وثيقة بالدعاية السياسية التي هي عبارة عن فن مزيف يفتقر إلى الحقائق والوقائع، الغرض الأساسي منه التأثير على عقول الناس وسلوكهم العام بما ويتناسب مع مصالح ورغبات هذه الجماعة أو تلك ، إذن التسقيط السياسي يحمل وجهتين احدهما تحمل جانب من المصداقية فيما يبث ويروج من خلاله ، إما الوجهة الأخرى فهي تفتقر إلى المصداقية وبالتالي يصبح دعاية سياسية بما يحمله من حقائق وأخبار رخيصة وكاذبة .
أدوات التسقيط السياسي غالبا ما تستهدف دغدغة مشاعر الجمهور المستهدف وبالتالي هي تحاول التناغم مع عواطفه واهتماماته واستمالتها إلى اتجاه معين ، وهذا ما ذكره الفيلسوف الفرنسي "جوستاف لوبون" ( 1841- 1931) صاحب كتاب (سيكولوجية الجماهير) الذي يذكر فيه الخصائص الأساسية للفرد المنخرط في الجمهور وهي " تلاشي الشخصية الواعية ، هيمنة الشخصية اللاواعية، توجه الجميع ضمن نفس الخط بواسطة التحريض والعدوى للعواطف و الأفكار ، الميل لتحويل الأفكار المحرض عليها الى فعل و ممارسة مباشرة ، و هكذا لا يعود الفرد هو نفسه و إنما يصبح إنسان آلي ما عادت إرادته بقادرة على ان تقوده" .
في العراق اليوم ومع اقتراب الاستحقاق الانتخابي والذي يفصلنا عنه اقل العام تقريبا وهو1/1/2017 وهو انتخابات مجالس المحافظات ،هذه الفترة الزمنية استجدت لنا اليوم استعدادات مبكرة من قبل الكتل والأحزاب والجماعات السياسية ولا نقول الكل بل الأغلب نقصد هنا ، هذه الاستعدادات وكالعادة عاش الجميع مثيلاتها في السابق وهي اليوم امتداد لها ، استعدادات لم تكن كتلك التي تعيشها الدول الديمقراطية في العالم أو على اقل التقدير دولة بسيطة الممارسة للحياة الديمقراطية في تداول السلطة ، مؤشرات هذه الاستعدادات كثيرة منها ما هو جلي للعيان ومعلن وأخر خفي تدور كواليسه في الغرف المغلقة ، المعلن منه نشهده في التصريحات والحوارات والمزايدات السياسية والتي اغلبها تبرزها لنا وسائل الإعلام وهي في منحى تصاعدي والتي أضحى المتابعون والمراقبون اليوم يحددون أهدافها الانتخابية ، أيضا وسائل التواصل الاجتماعي ( الفيس بوك ، التليكرام ، الواتساب ، تويتر) التي أصبحت اللاعب بل المحرك الرئيسي الذي حطم كل المنافسين من وسائل الإعلام الأخرى في الوصول إلى كل مواطن ودون عناء وتكلفة ، هذه الوسائل في التواصل الالكترونية تعج اليوم بتلك الفيديوهات ذات الجودة العالية في الإخراج والتصميم وكذلك الصور المدبلجة والمشوهة والكتابات والإخبار وغيرها تحمل وتجسد وتضم في طياتها جانب التسقيط السياسي وما زاد الطين بله ان مادة التسقيط أصبحت اللغة والمائدة الشهية في هذا الوسائل المتاحة في الشارع والبيت والعمل وغيرها ، هذه الوسائل الالكترونية يبدوا إن التسقيط السياسي مركز أهدافه من خلالها وموجه إلى كافة الأوساط وخصوصا الاجتماعية كونها المستهدفة أولا وأخيرا منه وذلك من اجل تعبئتها مبكرا أو حرف وإعادة توجيه ميولها الانتخابية ، التركيز على وسائل التواصل الاجتماعي في التسقيط السياسي في العراق له أسباب ومبررات عدة ينطلق منها القائمون عليه وهي :-
1- وسائل التواصل الاجتماعي هي الأكثر انتشارا في المجتمع ومحط تناول الغالبية الساحقة فيه والأكثر مشاهدة ومتابعة على مدار الساعة وخاصة الفيس بوك وتويتر.
2- التسقيط السياسي من خلال هذه الوسائل غير مكلف للقائمين والمستفيدين منه كونها بعيده إلى حدا بعيد من سطوة الملاحقة القانونية في حال ثبت عدم مصداقيتها بسب كثرتها، وأيضا ما ينشر فيها لا يتطلب بالضرورة الأدلة والإثباتات والوثائق ، وكذلك يمكن للقائمين عليها التمويه والإخفاء لأسمائهم وعناوينهم وغيرها من العناوين .
3- إمكانية تكرار مادة التسقيط السياسي من خلال هذه الوسائل ولأكثر من مرة في اليوم والشهر وبالتالي إمكانية ترسيخها بطريقة اللاشعور من لدن المتلقي، وهذا يصعب تحقيقه في الوسائل الإعلامية الأخرى كالتلفاز والصحف وغيرها.
4- جمهور وسائل التواصل الاجتماعي تشكل الفئات المجتمعية البسيطة الغالبية العظمى من جمهوره فيه وبالتالي هذه الفئات يمكن إن تكون هدف سهل لهذه الأساليب من التسقيط والدعايات عكس جمهور النخبة الذي يتابع غالبا التقارير المالية والاقتصادية من خلال وسائل الإعلام والقراءات.
وسائل التواصل هنا ومن خلال ما تقدم خلقت فرصة غير قابلة لترك استثمارها من الجماعات السياسية الباحثة عن التجديد والتمسك في السلطة، لذلك نراها اليوم تعج بالتسقيط السياسي الممنهج في العراق، الملاحظ إن بعض ما يطرح فيها هو حقيقة إلا انه يمثل وقائع وممارسات فات عليها الزمن والسؤال هنا: لماذا لم تذكر سابقا أي وقتها لماذا هذه الأيام يروج لها وهي في تزايد؟ وهنا تتجلى الحقيقية الانتخابية من اجل كل ذلك وليس حقيقية التشهير بالفساد والفاسدين ، أيضا التسقيط السياسي نتيجة تؤدي إلى دخول المجتمع بمكوناته وطوائفه وانتماءاته في دوامة خلافات وتناقضات وأفعال وردود أفعال وهذا ما حدث في مجتمعنا العراق وخاصة في فترات ذروت الاستحقاقات الانتخابية ، وهذا ما يتخوف المراقبون اليوم والمتابعون منه ، الشارع العراقي في هذه الأيام يعيش بداية رواج وصيرورة ظاهرة التسقيط السياسي ذات النوايا والأبعاد الانتخابية ، وهي مبكرة في توقيتاتها ، كما يمكن إن يؤشر على بعض الأسباب التي ساعدت في هذه الأيام على رواج وصيرورة هذه الظاهرة وهي :-
1- تؤشر هذه الظاهرة على عمق الخلافات الموجودة من اجل المصالح والمنافع السياسية بين هذه الجماعات السياسية، وكذلك ضعف وقصور القوانين التي تنظم وتحدد مسارات وأسس وضوابط العمل السياسي في التجربة الديمقراطية في العراق، وأيضا ضعف الإجراءات القضائية في ذلك.
2- تقويض مساحات الإرهاب بعد تحرير الرمادي يؤشر على انتهاء 90% من خطر تنظيم داعش على العراق وحصر التنظيم في مساحات بعيدة عن العاصمة والعد التنازلي لمرحلة احتضاره في العراق يقرأه البعض بداية التقصي والاستفسار والاستجواب المجتمعي والسياسي والقانوني للأسباب الداخلية التي أدت الى دخول واستفحال دور تنظيم داعش للعراق في السابق.
3- الاستحقاق الانتخابي لمجالس المحافظات في الأشهر القادمة ربما يطيح بجماعات سياسية في السلطة لصالح أخرى وبالتالي تم سبق هذه الاطاحات بهذه الحرب التسقيطية من اجل خلط الأوراق على المواطن وتعكير اتجاهات وبوصلات الرأي العام.
4 احداث دخول تنظيم داعش الإجرامي للعراق وغيرها أفرزت رؤيا ربما تختلف عن سابقتها لدى المواطن في عمل وبرامج وتفكير الجماعات الماسكة بالسلطة، هذه الحملة والبرامج التسقيطية ربما تستهدف إرباك وتعكير هذه الرؤيا وأعادتها الى المربع الأول وهذا ما يدخل في سيناريوهات ما بعد داعش التي يترقبها الكثيرون.
وفي النهاية يمكن ارجاع السنين العجاف التي يعيشها العراق في الوقت الحاضر والتحديات والمفاجئات التي حملتها وأرهقت الوطن والمواطن سياسيا واقتصاديا واجتماعيا الى تولي نخب وجماعات لم تكن بحجم المواقع التي شغلتها في إدارة الدولة العراقية، وهي اليوم تحاول بوسائل شتى اعادة تجديد نفسها للمشهد وبوسائل عديدة ومنها التسقيط السياسي.