الازمة الاقتصادية الراهنة والاصلاح المطلوب في العراق

يتوقع ان يدخل الاقتصاد العراقي مرحلة ركود عميق مع بداية العام المقبل خصوصا مع التدهور المستمر لأسعار النفط الخام واخفاق الحكومة في تنويع مصادر ايرادات الموازنة من جهة وضغط النفقات الحكومية من جهة اخرى. التحديات الصعبة التي تواجه الاقتصاد العراقي تفرض عليه التكيف مع شحة الموارد النفطية وتفعيل القطاعات الاقتصادية البديلة كالصناعة والزراعة والسياحة ليس فقط لتمويل نفقات الموازنة وانما ايضا لامتصاص البطالة وتشغيل الطاقات الانتاجية المعطلة والحد من الاعتماد الكلي على الاستيرادات في تغطية الحاجة المحلية من السلع. وتحاول هذه الورقة مناقشة المشهد الاقتصادي الراهن في العراق وتحديد أبرز السياسات المطلوبة للخروج من المأزق المالي الحالي ودفع عجلة التنمية والاستقرار الاقتصادي في البلد. المحور الاول: المشهد الاقتصادي الراهن المشهد الاقتصادي لا يقل تعقيدا عن المشهد السياسي في العراق وفي هذا السياق يمكن الاشارة الى أبرز ملامح تدهور اقتصاد البلد وطبيعة التحديات التي تواجه الاصلاح الاقتصادي: 1- الهبوط الحاد والمستمر لأسعار النفط في الاسواق العالمية: تشير توقعات منظمة اوبك الاخيرة الى استمرار التدهور في اسعار النفط لعدة سنوات نظرا لتباطؤ نمو الاقتصاد العالمي من جهة والزيادة المستمرة في انتاج النفط الخام من داخل وخارج اوبك من جهة اخرى، ولن يتعافى السعر قبل نهاية العقد ليصل على أفضل تقدير الى 80 دولار للبرميل عام 2020 بحسب تقرير المنظمة. 2- الحرب الشرسة مع داعش وتكاليفها العسكرية والمدنية: يخوض العراق حربا ضروس مع عصابات داعش الارهابية في حرب دخلت عامها الثاني، وبحسب مصادر في اللجنة المالية البرلمانية فان تكلفة الحرب الدائرة تتجاوز 10 مليون دولار يوميا، ناهيك عن تكاليف عقود التسليح وتكاليف اعانة المهجرين وايوائهم واعادة اعمار المناطق المحررة، كل ذلك بحاجة الى تمويل مفتوح لا موازنة تقشفية. 3- ضعف البنية التحتية وتدهور بيئة الاعمال القادرة على تحفيز القطاع الخاص: لم تنجح الحكومة خلال أكثر من عقد في تحقيق الحد الادنى من تحسين البنية التحتية اللازمة لانطلاق القطاع الخاص، اذ لا يزال ملف الطاقة الكهربائية يشكل تحديا امام فرص البلد في التقدم والاستقرار، اذ تفلح الموازنات الانفجارية للسنوات السابقة في توفير الاكتفاء الذاتي من الطاقة الكهربائية، وتحسين مستوى الطرق وادامة شبكات الماء والمجاري في البلد. 4- المحاصصة الطائفية ومزاحمة التنكوقراط في ادارة الملف الاقتصادي والخدمي: ويلاحظ تطور ظاهرة المحاصصة السياسية والطائفية بشكل خطير لتصل الى المناصب الدنيا في السلم الاداري، وقد انعكس سوء ادارة الملف الاقتصادي بشكل واضح في اداء الحكومات السابقة والحكومة الحالية. اذ زاد تركز قطاع النفط في نسبة الناتج المحلي الاجمالي وانزلقت معظم القطاعات الاقتصادية في ركود مزمن وتبخرت المليارات من الموارد النفطية في مشاريع وهمية. 5- تفاقم ظاهرة البطالة خصوصا بين الخريجين وارتفاع معدلات الفقر: وبحسب اخر احصاءات وزارة التخطيط فان معدلات البطالة في البلد تجاوزت 30% مؤخرا في بلد يعد من اغنى بلدان العالم نفطيا ورافق ذلك ارتفاع نسبة الفقر الى 25% مما ينذر بحدوث كارثة انسانية خصوصا مع دخول العراق الهبة الديمغرافية. 6- الفساد المالي والاداري وهيمنة مافيات السياسة على موارد البلد: فقد انصهرت مئات المليارات من دولارات النفط في مشاريع وهمية وفي نفقات حكومية مكرسة لتغطية متطلبات الطبقة السياسية الحاكمة، ولم يتحقق اي منجز تنموي على مستوى التعليم او الصحة او الخدمات العامة. 7- الترهل الحكومي وضخامة الجهاز الاداري وانخفاض انتاجيته: افصحت عدة دراسات عن انخفاض انتاجية الموظف الحكومي وانتشار البطالة المقنعة في كافة الحلقات الادارية التابعة للوزارات والمؤسسات الحكومية في العراق، تزامن ذلك مع هبوط مستوى الخدمة المقدمة من لدن مؤسسات الحكومة. 8- الخلاف المزمن بين المركز والاقليم حول ايرادات النفط: ويلاحظ ان التوافق السياسي مؤخرا لم ينجح في نزع فتيل الازمة بين المركز والاقليم حول ايرادات النفط، فلا زال الاقليم مصرا على حقه في تصدير نفطه الى الخارج وفي ذات الوقت يطالب بحصته الكاملة في الموازنة الفدرالية. 9- تآكل احتياطي البنك المركزي من الدولار: هبط احتياطي البنك المركزي الى دون 60 مليار دولار مؤخرا بعد ان تجاوز عتبة 80 مليار دولار عام 2014، ويعزى ذلك الى فائض الطلب على الدولار بسبب زيادة حجم الاستيراد والتهريب وغسيل الاموال مقابل هبوط تدفق الدولار الى البلد بسبب انخفاض اسعار النفط العالمية. 10-ازمة النازحين وتكاليف اعالتهم واعادة اعمار المناطق المحررة: ان اعداد النازحين في تزايد مستمر بسبب استمرار عمليات تحرير المناطق المغتصبة من لدن تنظيم داعش الارهابي، وقد خصصت الحكومة مبالغ طائلة لتوفير السكن والمخيمات وضرورات المعيشة لهذه العوائل فضلا على تكاليف اعادة اعمار المناطق المحررة والمقدرة بمليارات الدولارات نظرا لحجم الدمار المذهل الذي لحق بهذه المناطق. 11-اغراق الاسواق العراقية بمختلف المنتجات المستوردة: يلاحظ تحول العراق لسوق يستوعب معظم السلع الغذائية والصناعية المنتجة في دول الجوار والقادمة من اسيا، نظرا لتوقف الانتاج المحلي وانفلات الاستيراد وضعف الرقابة. 12-الاقتراض الحكومي بفوائد ضخمة: في ظل عدم قدرة الحكومة ضغط النفقات الى مستوى مقبول والتكييف مع اسعار النفط بدأت وزارة المالية بالترويج لسندات حكومية دولية وبأسعار فائدة عالية لأجل تغطية النفقات وسد العجز المالي الحكومي، ومن المتوقع ان يؤدي ذلك في النهاية الى عجز العراق عن تسديد ديونه ودخوله برامج جدولة الديون المشروطة بتطبيق وصفات صندوق النقد خصوصا مع ضعف الطاقة الاستيعابية للمشاريع الاستثمارية المزمع الاقراض لأجلها. وقد افصحت تجربة السنوات السابقة عن عدم قدرة الحكومة على تنفيذ المشاريع الاستثمارية رغم توفر السيولة اللازمة، مرة بسبب الفساد الذي يعتري معظم الحلقات الادارية بدءا من منح العطاء ولغاية استلام المشروع ومرة اخرى بسبب ضعف الجانب المنفذ على تسليم المشروع وفق الجداول الزمنية وعدم كفاءة معظم الشركات المنفذة لمثل هذه المشاريع. هذا يعني بان المشكلة لا تتمثل بشحة الموارد المالية وانما سوء ادارة وتنفيذ المشاريع الاستثمارية في البلد، وان الاقتراض لن يغير من هذا الواقع، وانما فقط سيكبل العراق بالتزامات جديدة. المحور الثاني: سياسات الاصلاح المطلوبة للأسف اقتصاديات البلدان المتخلفة تلجأ دوما الى الاصلاح في اوقات الازمات ولا تفكر كثيرا بالوقاية من هذه الازمات اوقات الرخاء واليسر المالي.. نظرا لان الملف والقرار الاقتصادي يكون في الغالب بيد الطبقة السياسية الحاكمة لا بيد خبراء الاقتصاد، وهذا حال الاقتصاد العراقي بالضبط. وقبل الاشارة الى سياسات الاصلاح المطلوبة لابد من التأكيد بان نجاح اي من الاصلاحات الاقتصادية يعتمد على ارادة وجدية الاحزاب السياسية في البلد، لأنها تمثل الحكومة بمختلف مؤسساتها، وهذا يتطلب التضحية بالمصالح الحزبية لصالح مساعدة العراق في الخروج من محنته الحالية، ومن أبرز الحلول المطروحة في هذا السياق: 1- ترشيق النفقات: من أبرز اسباب الازمة الحالية الافراط في النفقات العامة خلال السنوات السابقة بسبب ارتفاع اسعار النفط وغياب الرقابة، وكان الاجدى اقتصاديا انشاء صندوق ثروة سيادي اسوة بدول الخليج استعداد للصدمات النفطية التي تتعرض لها كافة البلدان النفطية. وللآن الحكومة غير جادة في برنامجها الاصلاحي المتعلق بترشيق النفقات الحكومية، فمعظم الاجراءات التي تم الاعلان عنها مؤخرا كانت خجولة وشكلية ولن تغير من واقع تضخم النفقات في البلد. 2- تنويع الايرادات الحكومية: تفصح التجربة بان الحكومة غير قادرة على تنويع ايرادات الموازنة لا من الضرائب ولا من شركات القطاع العام ولا عبر الدوائر الحكومية وذلك لضعف سيادة القانون وعدم قدرة الحكومة المركزية على تطبيق القانون النافذ على الاقليم مما يدفع محافظات الوسط والجنوب الى عدم الانصياع الى القوانين والتشريعات الحكومية الخاصة بالضرائب والتعرفة الجمركية ما لم يلتزم بها الاقليم اولا، وقد تكررت هذه الحالة عام 2015 لعدة مرات. 3- تشجيع القطاع الخاص: هناك جهود تبذل لأجل تحفيز انطلاق القطاع الخاص لما له من دور محوري في استيعاب الايدي العاملة وتحريك كافة القطاعات الاقتصادية الراكدة، وقد أعلن مجلس الوزراء لأكثر من مرة سعيه على تذليل كافة العقبات التي تعيق انطلاق القطاع الخاص واخذ دور الريادي في تحقيق التنمية وامتصاص الايدي العاملة وتنويع الاقتصاد العراقي، ولكن بدون بنية تحتية مناسبة ووضع أمنى مستقر وتشريعات ضريبية ملائمة وحماية جمركية فعالة فان هذه الاجراءات لن تكون سوى خطابات انشائية بعيدة عن الواقع العراقي. 4- ان تكون موازنة 2016 موازنة برامج لا موازنة بنود: احد ابرز اسباب تعثر الاقتصاد العراقي خلال السنوات السابقة غياب البرنامج الاقتصادي عن ابواب النفقات والايرادات الحكومية التي تضمنتها موازنات الاعوام السابقة، لذا من الضروري ان تتضمن موازنة 2016 برنامج اقتصادي يحاكي الازمة الاقتصادية في البلد ويؤسس لنمط جديد في ادارة الملف الاقتصادي يجنح الى تنويع الموارد وتحفيز القطاعات الاقتصادية الزراعية والصناعية والسياحية ويقلل بشكل تدريجي من احادية الاقتصاد العراقي واتكاله المزمن على المورد النفطي. 5- تحفيز القطاع الصناعي يمتلك العراق عدد كبير من المصانع والمنشات العامة التي توقفت بشكل كلي بعد احتلال العراق عام 2003 ولازالت تشكل عبء على الدولة بسبب صرف رواتب واجور موظفيها بدون مقابل يذكر، وإذا ما تم بيع وتأجير هذه الممتلكات الى القطاع الخاص او لشركات اجنبية يمكن ان توفر موارد مالية جيدة وتخفف عن كاهل الحكومة، كما يمكن للحكومة الدخول في شراكات مع القطاع الخاص لأجل استغلال خبرة وموارد الاخير في ادارة هذا القطاع بنجاح. 6- اعادة الحياة للقطاع الزراعي: للقطاع الزراعي دور مهم في استيعاب الايدي العاملة من جهة وتحقيق الامن الغذائي للبلد من جهة اخرى ويمكن للحكومة تحفيز هذا القطاع عبر معالجة ملف الطاقة وشحة المياه والاستيراد المنفلت للمنتجات الزراعية وتوفير قروض ميسرة لتشجيع هذا القطاع على الانطلاق من جديد نظرا لتوفر الطلب المحلي اللازم لاستيعاب مختلف المنتجات الزراعية من حيث الكم والنوع. 7- عدم الانخراط في برامج القروض الدولية لم تكن معظم تجارب البلدان النامية في الاقتراض مشجعة وانتهت في نهاية المطاف الى جدولة الديون وبيع القطاع العام والثروة الوطنية للشركات الاجنبية، ويعتقد بان هناك مؤامرة للاستيلاء على النفط العراقي من قبل الشركات العملاقة خصوصا بعد ما عانته من صعوبة مع المفاوض العراقي. لذا يجب الحذر من الاقتراض الدولي وبفوائد عالية خشية من السقوط في فخ المديونية. 8- وضع نظام ضريبي عادل يستهدف الاوعية الضريبية الغزيرة فقط مع تطبيق نظام ضريبي جمركي يطال كافة السلع الفاخرة والسيارات الفارهة. مع وضع مادة في قانون الموازنة الجديد تلزم الاقليم على تنفيذ القوانين الضريبية النافذة مقابل استلام حصة الاقليم من الموازنة. 9- الاستعانة بمؤسسات تدقيق ورقابة دولية بعيدة عن الاحزاب السياسية لأجل كشف ملفات الفساد وتنظيم عمليات صرف النفقات ومنح العقود بشكل شفاف. 10-اعادة تقييم الدينار العراقي: ينفق البنك المركزي 5 مليارات دولار شهريا في الدفاع عن سعر صرف (123000مقابل 100$) هذا يعني مع وجود احتياطي بمقدار 50 مليار فان صمود الدينار مقابل الدولار سيستمر في أفضل الاحوال الى منتصف العام القادم. خصوصا مع شحة ايرادات النفط وذهابها الى شركات النفط العاملة في العراق وتمويل عمليات شراء الاسلحة الثقيلة والخفيفة والطائرات. ما يحتم على الحكومة اعادة تقييم الدينار العراقي بشكل معقول ومكافحة الفساد المالي والسياسي الذي يعتري مزاد بيع العملة الاجنبية منذ سنوات. 11-اصلاح الجهاز المصرفي وسن قوانين رادعة للإصلاح الجهاز المصرفي في البلد وتحويل المصارف الاهلية الى جسور للتنمية والتمويل لا مكاتب لغسيل الاموال وتهريب الدولار. 12-ابعاد المناصب الاقتصادية العليا في البلد عن المحاصصة والمحسوبية ومن أبرزها البنك المركزي العراقي ووزارة المالية ووزارة التخطيط والهيئة العليا للاستثمار، وان لم يكن بالإمكان ذلك على مستوى الوزراء فلا باس ان يكون ذلك على مستوى المستشارين والمدراء العاميين. 13-التنسيق الكامل مع مؤسسات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في دعم واسناد عمل كافة الوزارات من خلال التعاون المشترك لأجل اضفاء الجانب العلمي في ادارة مؤسسات الدولة ورفدها بأحدث ما وصل اليه العلم والتكنلوجيا.
التعليقات