يشهد العراق اليوم أحداثا ومتغيرات خطيرة و متسارعة أولها : المظاهرات التي أشعلت لهيب الشارع العراقي ، وثانيها : تلك الحرب التي طال أمدها على داعش وتشترك في إيقاد نيرانها أيديولوجيا داخلية بدعم وإسناد من دول عديدة إقليمية ودولية لها مصلحة لا متناهية في إدامة زخم العنف في المنطقة عموما والعراق على وجه التحديد.
مطالب المتظاهرين أخذت تتصاعد وتيرتها بالتدريج ، وبين مؤيد ومعارض لها تتداخل أيديولوجيات وعقائد سياسية عديدة ، بل ترتبط أحيانا بمشاكل باتت تطفوا على السطح ، مؤشرة بتحول قواعد اللعبة في المنطقة من لعبة عسكرية ، الى لعبة سياسية بامتياز ( إذ انه ومباشرة بعد الاتفاق النووي الإيراني تغيرت قواعد اللعبة وكأن إيران تنافس الولايات المتحدة الأمريكية ) والتنافس هنا قائم على قضية غاية في الأهمية وهي تشكل الوعي السياسي الجديد لمرحلة ما بعد داعش .
ومن هذا المنطلق ربما القضاء على داعش بدأت نهايته سابقا وبالتحديد منذ أن بدأت تتوالى انتصارات الحشد الشعبي ، لكن النصر حليف من سيكون سؤال ساهم في تأخير كل شيء بل وأعاد عقارب الساعة الى الوراء ؟ ، ويبدو ان هذا التساؤل الإستراتيجي تسبب في تأخير إعلان نهاية داعش بل وأحدث صراعا سياسيا بدأت تطفوا الى السطح معالمه بين الإسلاميين الجدد المتمثلين ببعض الفصائل الموالية الى طهران مباشرة والتي بقيت تتمتع ببعض المصداقية بسبب موقفها الجهادي ، وبين التيار العلماني المتحرر الداعي الى تشكيل نظام سياسي جديد تختلف تجربته المتوقعة عن تجربة الأحزاب السياسية الإسلامية التي حكمت العراق منذ العام 2003 الى يومنا هذا.
يمتد أفق هذا التيار الفكري الى خطة بعيدة المدى منبعها الولايات المتحدة الأمريكية وهي خطة جديدة وضمن أهم محاور برنامجها الشامل لفرض قيادة أمريكية جديدة في المنطقة تذوب وتتداخل ضمن نظريتها الجديدة كل الانتماءات الدينية والقومية والعرقية ، جاء كل ذلك سعيا من الولايات المتحدة الأمريكية لهزيمة إيران في العراق وسحب البساط من تحت أقدام الأحزاب الإسلامية التي تعتبر أجنحة إيران الفاعلة في العراق ، خصوصا وان الولايات المتحدة الأمريكية باتت تمرر حملاتها ضد التمييز والطائفية لفرض التيار العلماني المقترح لدعمه وإسناده ، ليجابه التيار الإسلامي القديم و الجديد ، مجابهة سياسية منطلقها صناعة الوعي السياسي الجديد.
عودة الى ذي بدء ... المؤيدون للمظاهرات يعتقدون اعتقادا راسخا ان السياسيين الماسكين بزمام السلطة بالأمس واليوم عبثوا بمقدرات البلاد ، ونهبوا خيراته ، وكانوا عوامل مساعدة في تمدد الإرهاب ليلتهم ثلث مساحة البلد ، وواقع الحال يؤشر على ذلك ، وتدعم ذلك الرؤية الجماهيرية التي انبثقت من معاناة تأريخها دام 45 عاما من الاستبداد والاستهتار بمقدرات البلد ، بل ويؤكده في اغلب الأحيان الدارسين والمراقبين والمحللين والمختصين بالشأن العراقي الداخلي .
أما المعارضين فهم على صنفين:
الأول: يعترض طريق الإصلاح بل ويرفض حزمة الاصلاحات جملة وتفصيلا معتقدا ان الإصلاحات ستهدد كيان مافيات الفساد التي شكلها وكانت تمثل شريكا له في تحطيم قدرة البلاد وتأخير عجلة التنمية وتكريس التخلف والتراجع والفقر وتسببت في نشر الإرهاب والخراب والدمار ، وواقع الحال والمؤشرات ترسخ هذا المأخذ الفكري ، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الضغط السياسي الذي ربما مارسته ولاتزال تمارسه مافيات الفساد من خلال ضغطها على رأس الدولة لمنعه من إنتاج فكر إصلاحي يستهدف بناء الدولة بناءا حقيقا ، بحيث يمر هذا الفكر على الفاسدين بقوانين قاسية تسهم في تأديب أي سياسي يساهم في إرباك المسارات التنموية الشاملة للبلد ، ولا يزال هذا الفكر الإصلاحي حلما يجامل به السياسي الطموح المهشم للشعب ، إذ لم نلمس أي خطوة تنفيذية جريئة تشفي غليل من كان ولا يزال ضحية للنظام السياسي الفاسد .
الثاني: يعتقد هذا الفريق ان الإصلاح الداخلي ضرورة قصوى لكن ليس هذا هو الوقت المناسب للبدء بحملة جماهيرية ضد الفساد خصوصا قضية التظاهر ففي ضل الحرب التي يشنها العراقيين جميعا على الإرهابيين جميعا يعني التظاهر شرعنه لوجود قوى وان كانت إرهابية على الساحة ، فيتحول الجاني الى مجني عليه ، وهذا يعني تسليم البلد تسليما فوريا الى داعش .
تمثل المرجعية في هذا الوضع نقطة توازن في ضل هذه المتغيرات ، وربما سوف يحملها الشعب مسؤولية الإصلاحات الجديدة خصوصا في ظل مرض البرود الإصلاحي الذي بدأت أعراضه تصيب دعاة الإصلاح الذين نالوا تأيد الشعب العراقي ابتداءاً وعلى رأس هؤلاء رئيس الوزراء حيدر العبادي ، الذي بات يعيش بين ثلاث مطارق الأولى الوضع الأمني المتأزم جدا ، والثاني المتظاهرين والضغط الجماهيري الذي يطالب بمزيد من الإصلاحات الواقعية ، والثالث الجيوش الصغيرة التابعة لرؤوس الفساد والتي بدأت تشل حركة حيدر العبادي في حربه هذه ، وبقيت المرجعية المنفذ الوحيد لإدارة هذه المتغيرات الخطيرة بسبب سطوتها على الشارع العراقي أولا ، بفعل ما اكتسبته من مصداقية في تشكيل قوة رادعة لداعش ونقصد هنا الحشد الشعبي ، ولهيبتها أمام الفاسدين من كبار المسؤولين في الدولة ، والاهم قدرتها على فرض أي برنامج إصلاحي في البلد وتهدئة الجماهير الغاضبة الذي ربما تتحول حركتهم الى عسكرية بسبب التباطؤ الحكومي في تنفيذ إصلاحات ترضي الشارع العراقي وترد الحيف الذي عانى منه على مدى ثلاثة عشر عاما ، والاهم من كل ذلك ان الجماهير بشكل تلقائي سيرمون الكرة في ملعب المرجعية وسيخول المرجعية لتبني التغيير الجذري في البلد وهنا ستكون المرجعية أمام اختبار صعب وتفويض جماهيري مليوني للتغيير السياسي والإصلاح الشامل بسبب التسويف الحكومي لمطالب الجماهير ، والتي باتت تمثل نقطة تحول في تأريخ العراق السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والنصر لمن يحسن التعامل مع كل هذه المتغيرات بمنتهى الدقة والحذر بسبب دقة الوضع والعوامل والمتغيرات المرتبطة به .