يعد العراق واحدا من البلدان المهمة في الشرق الأوسط التي تحتضن الكثير من الأقليات الدينية والاثنية والقومية منذ آلاف السنين، وهم من أبناء السكان الأصيلين لبلاد لوادي الرافدين (كالمسيحيين: كلدان، اشوريين، ارمن، سريان، والأيزيدية، والصابئة المندائيين، والشبك والتركمان، ويمتدّ حضورهم في هذه البلاد لمئات السنين قبل انتشار الإسلام، وينتشرون في شمال ووسط وجنوب العراق، وغالبيتهم الآن في محافظة نينوى وكركوك وبعض محافظات وسط وجنوب العراق حيث يعيش غالبيتهم هناك اليوم.
أن الدستور العراقي في مواده (2-3-4-41-47) ضمن حقوق الأقليات وأسهم بتمثيلهم في مجلس النواب، ومفاصل العملية السياسيّة وجميع أبناء الشعب مُتساوون بالحقوق، ويعملون في مؤسسات الدولة كافة، وأن عدوَّ أي مكون هو عدوٌّ للعراق كله، وأن أبناء العراق ومنهم أبناء الأقليات يقفون صفاً واحدا تحت لواء القوات العراقية في وجه داعش، ويحققون انتصارات كبيرة دفاعاً عن العراق، بالإنابة عن دول العالم.
عندما تغير الواقع في العراق بالاحتلال الأمريكي في 9 نيسان 2003 ، وإنشاء حكم جديد أصبح لأول مرة للأقليات صوت مسموع، وأصبح هناك ممثلين للأقليات في مجلس الحكم الذي أنشأته القوات الأمريكية والمتحالفة معها في إدارة شؤون البلاد عام 2004 – 2005 حيث كان هناك ممثل للتركمان وأخر للمسيحيين، وعند صياغة الدستور أقرت مجموعة حقوق ممتازة للأقليات وتم تثبيت اسمهم في الدستور وخاصة بالنسبة للمسيحيين والأيزيدية والصابئة حيث تم الإقرار بهذه الأديان الثلاثة رسميا لأول في تاريخ العراق، وانشأ ديوان خاص برعاية شؤونهم وهي المرة الأولى يحدث شيء من هذا القبيل سمي بديوان أوقاف الأديان غير المسلمة ومن ثم إلى ديوان أوقاف المسيحيين والأيزيدية والصابئة، ثم كانت الانتخابات وما اقره الدستور أيضا في مسألة منح مقاعد للأقليات وفق نظام الكوتا، رغم منحهم الكوتا إلا انه هناك اعتراض بخصوص عدد مقاعد الإيزيدية والشبك إذ تم منحهم مقعد واحد فقط رغم إن نفوس الإيزيدية في عام 2005 كان أكثر من خمسمائة ألف نسمة والشبك أكثر من مائتا ألف نسمة أي إن الإيزيدية كانوا يستحقون خمس إلى ست مقاعد والشبك ثلاثة مقاعد، إلا إن الأحزاب الكردية كانت العائق أمام هذا الأمر لان أصواتهم قد منحت لهذه الأحزاب في الانتخابات.
أن حضور الأقليّات في المشهد العراقي شهد موجات كبيرة من الحملات والهجمات والتغيرات الجذريّة في الموقع الجغرافية، وفي الممارسة، ضدّهم بالدرجة الأساس، فيما يتعلّق بمحاولات أو حملات طمس الهويّة والتشويه المتعمّد وغير المتعمّد، أو الإهمال في الاهتمام بهم لأنهم كانوا في الغالب غير مقبولين من قبل البعض، وعلى الأخص من بعض المكونات في مناطق سكناهم، وفي عدّة مراحل تاريخيّة، ليصل بهم الوضع في الوقت الحالي ليشهد البلاد موجات نزوح مستمرّة بالآلاف، وموجات هجرة لترك البلاد دون توقّف منذ بدايات التسعينات من القرن الماضي لتشهد الآن موجات نزوح وهجرة جماعية ومستمرّة ألحقت ضررا كبيرا في وجودهم وموقعهم وتغير الطابع الديموغرافي لمناطقهم وخاصة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003.
يبقى البعد الأخر لتفتت خريطة الأقليات ومواجهتهم الموت مؤخرا بدخول ( داعش ) للمنطقة في حزيران عام 2014، ومواجهتهم التهميش والإقصاء والتميز يشير إلى عراق خالي من التعددية مما يعني فقدانهم للهوية الخاصة في ظل عدم وجود أسس صحيحة لبناء الهوية الوطنية، ففي آب 2014 هاجم تنظيم " داعش" سنجار المنطقة التي يشكل فيها الايزيديون أكثرية سكانية في عموم العراق، وكان الهدف القضاء على الوجود الإيزيدية كمجموعة بشرية، حيث تم قتلهم بالآلاف وخطف نسائهم و أطفالهم و شيوخهم، فقد كان يسكن في سنجار حوالي 450000 يزيدي، اليوم وبالرغم من تحرير المنطقة بالجهود المشتركة ، إلا إن أكثرية الايزيديين لا يريدون العودة إلى مناطق سكناهم الأصلية نتيجة الخراب الشامل و خوفهم من تكرار الكارثة التي حدثت لهم وفقدان الثقة بالمنظومة الدفاعية لكردستان العراق، مازال أكثرية الايزيديين يعيشون في المخيمات في كردستان العراق أو مقاطعة "الجزيرة" في شمال شرق سوريا أو في تركيا.
كذلك قام الإرهابيون المتطرفون في كلا من العراق وسوريا بقتل وتهجير الآلاف من المسيحيين، ومهاجمة المناطق الكردية في أجزاء كردستان العراق المختلفة، لقد كان عدد المسيحيين في العراق حوالي ( 1.5 ) مليون قبل الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وكانوا يمثلون خمسة في المائة من مجموع السكان، ثاني أكبر المجموعات الدينية في العراق بعد المسلمين، ويعترف الدستور العراقي بأربع عشرة طائفة مسيحية مسموح التعبد بها، كما أن لهم قانون خاصا للأحوال الشخصية، بعض منهم يتحدث العربية والبعض يتحدث السريانية، ويتمركز غالبية المسيحيين في المدن الشمالية من العراق مثل الموصل وأربيل وكركوك، وعدد منهم يتواجد في بغداد بابل والبصرة، وقد كان المسيحيون ومازالوا الحلقة الأضعف في النسيج العراقي، وكانوا عرضة للهجمات المباشرة و المضايقات المختلفة بعد وأثناء الحرب الطائفية 2006-2008، وهجوم عصابات داعش 2014، أدى ذلك إلى هروبهم الجماعي إلى خارج البلاد، أما الصابئة المندائيون فبقي منهم في العراق فقط حوالي (5000 ) شخص، وكان عددهم لا يقل عن ( 30000) قبل العام 2003.
أما الشبك فأنهم يتحدثون اللهجة الشبكية المقاربة من اللهجة الكورانية، ويدينون بالدين الإسلامي سواء سنة أو شيعة، ينتشرون في مدينة الموصل والقرى المحيطة بها وفي 72 قرية في سهل نينوى، وعددهم حوالي ( 100000 ) شخص، نحو 70 في المائة منهم من الشيعة والباقي من السنة،، يملكون حركة سياسية تسمى الهيئة الاستشارية للشبك، وقد قام تنظيم داعش بعمليات واعتداء قاسية جدا ضد الشبك الشيعة، خصوصا من قتل ونهب للأموال والمنازل وتفجير أضرحتهم، فقد أقدم التنظيم على قتل المئات منهم وتهجير الآخرين، وهم متواجدين في محافظات وسط وجنوب العراق حاليا.
والأقلية التركمانية إحدى ثالث الأقليات العرقية في العراق، ومستاءة من عدم منحها حقوقا سياسية، يتحدثون اللغة التركمانية وهي أحد اللغات التركية، يتمركز التركمان في كركوك وبعض مناطق شمال العراق؛ مما جعل لهم احتكاكا مباشرا بالأكراد، وتميزت العلاقة بينهم بأنها غير جيدة، ويقدر عدد التركمان بحوالي ( 1.5 ) مليون نسمة، ويشن تنظيم الدولة عمليات تهجير قسرية للتركمان من مناطقهم، وهو ما تم ملاحظته بوضوح في الصيف الماضي من تهجير التركمان من الموصل والمناطق المحيطة بها وجنوب كركوك، وأخرها ضرب منطقهم بالسلاح الكيماوي وخاصة في منطقة تازة.
أن الآفاق المستقبلية لواقع الأقليّات في العراق بشكل عام لا يشير إلى تقدم ملموس وراسخ، فقد استبشر أبناء الأقليّات خيرا بسقوط النظام البائد، وان زمن التهميش والإقصاء والإساءة إلى مبادئهم الدينية سينتهي، ولكن اكتشفوا أن تلك المبادئ وذلك الإقصاء قد اخذ صورا أخرى تتمثل في الإقرار عن مصيرهم نيابة عنهم، ثم أخيرا قيام المجموعات الإرهابية بمحاولة إبادتهم واستعبادهم، ولا توجد إلى الآن أية خطط وسياسات واضحة في كيفية التعامل مع التعددية الدينية والقومية، كما إن الواقع المستقبلي للأقليّات في الجانب الآخر أو على ضوء أفاق قريبة المدى يشوبه المخاطر على ضوء هجرة الآلاف من المسيحيين والأيزيدية تحديدا، إذ أصبحت الأقليات مجرد ساحة لجمع الأصوات للانتخابات بالخديعة والمراوغة السياسية، لا يتم النظر كثيرا إلى مستقبل هؤلاء وكيفية كسبهم بالطريقة الصحيحة ولا إلى مصالحهم وكيفية تضمينها مع مصالح الأحزاب التي لديها رؤية مستقبلية طويلة الأمد وخاصة تلك الأحزاب التي تمتلك رؤى وتطلعات ليبرالية وتحررية تتوافق مع تطلعات الأقليات.
إلى جانب هذا فان الأوضاع الاقتصادية كانت منهارة، وتأثرت كثيرا بالقطيعة التي حصلت بين بغداد واربيل نتيجة خلافات سياسة على إدارة الموارد وإدارة المناطق المتنازع عليها وفق الدستور والبند 140، وكانت الأقليات الضحية الأكبر لتلك القطيعة أيضا والتي لا زالت مستمرة لحد ألان ، ثم تأثرها بالازدواجية الإدارية وغيرها الكثير من الأمور نتيجة عدم استقرار الأوضاع، أضف إلى ذلك فان أوضاع مناطق الأقليات تميزت بسمة أخرى هي التي تتعلق بشق الصفوف، وإنشاء أحزاب وحركات موالية للأحزاب الكبيرة، وكل حزب سياسي يدعم مواليه بطريقة تهدف بالدرجة الأولى تجرده من انتمائه للمنطقة وللمجموع، فظهرت طبقة من المحسوبين الذين أصبحوا يشكلون حائطا كبيرا وعائقا أمام عدم وصول المعلومات الدقيقة عن أحوال الأقليات إلى السلطات العليا، خاصة وان الأكراد هم الذين يتولون مسؤولية إدارة تلك المناطق على الغالب ، وكذلك عدم وصول المعلومات حول مشاكلهم والمشاكل التي نشبت من سيطرة مسؤولي الأحزاب الكردية و تفضيل مصالحهم الشخصية على مصالح الوطن والغالبية من البسطاء.
مع انه لم تجر دراسات ومسوحات علمية دقيقة حول الآثار الكاملة لما تركته عملية التغير التي حصلت في العراق على الأقليات الدينية، ورغم إن الكثير من التقارير قد نشرت هنا وهناك، ورغم المتابعات الكثيرة للمؤسسات المعنية الدولية والمحلية، ألا أنها لم تخرج برؤية واضحة وصريحة للأفاق المستقبلية للأقليات الدينية، ولكنها جميعا اتفقت وتتفق أنها ألحقت ضررا كبيرا بهم في مجال تراجع أسس العيش المشترك، صعوبة قبول الأخر المختلف ، ومن ثم انتشار التطرف الديني الحق بهم مخاوف من عدم وجود أسس أو خطط لمواجهتها مما يعني الحد من تواجد الأقليات ألا في مناطق تواجدهم الأصلية أو تقوقعهم في مدن وبلدات بعيدة عن التطرف.
لكن وفقا للمتابعة والتدقيق المستمر فان الأفاق المستقبلية للأقليات تندرج في العراق ضمن خطط يقررها الكبار قبلما يقررونها هم، وأصبحوا ضحية صراعات طائفية واستراتيجيات دولية ستلحق بهم ضررا كبيرا في المستقبل القريب، فرغم المساحة الآمنة الظاهرة التي تتوفر لهم في إقليم كردستان، ورغم بعض التشريعات التي أصدرها الإقليم، مثل قانون ضمان حقوق المكونات في إقليم كردستان ( قيد المناقشة والتصديق من قبل البرلمان الكردي ) أو بعض القوانين التميزية لصالح الأقليات ( بناء الدور السكنية للمسيحيين)، أو تشريع قوانين (لدعم وصول الصابئة للإقليم ) أو قانون الأحوال الشخصية للايز يدية قيد المصادقة، أو المبادرات المدنية لدعم الصابئة ( دعم الجمعيات الثقافية لهم )، إلا الجانب الأخر يتمثل بخلو بعض المدن العراقية من التنوع الاقلياتي، مثل تراجع أعداد المسيحيين في البصرة، وخلو الموصل من المسيحيين والكاكائية والايزيدية والشبك، لكن الأمر الأهم الذي يتعلق بالمستقبل يتمثل بالدرجة الأساس في موضوعة الأفاق البعيدة في كيفية مواجهة ما تركته الجماعات المسلحة والمتطرفة في غرب وشمال العراق عليهم، والتي تندرج أيضا ضمن المستقبل غير المنظور للعراق القادم والذي يصعب التكهن ألان به.
إن الواقع المرير للأقليات في العراق والمتمثل بان 90% منهم نازحون ومهاجرون الى بلدان العالم ينذر بوقوع كوارث إنسانية وخسارة حضارية كبيرة لتراث وتاريخ العراق، وينذر بانقراض بعض الأقليات من العراق كما انه يشير إلى رؤية سوداوية من قبل الأقليات أنفسهم.فالوضع الحالي الذي يفرض على الأقليات إتباع نهج جديد للحياة في بعض المدن والبلدات نتيجة انتشار التطرف يؤشر إلى واقع يصعب التكهن بتأثيراته المستقبلية على الأجيال القادمة.
إن الرؤية المستقبلية الأبرز تكمن في كيفية مواجهة موضوع العودة بروح وطنية بعيدة عن الانتماءات الضيقة، والبدء بمشاريع المصالحة بوجود خطط إستراتيجية بهذا الشأن، ومنها:
1- يجب تخصيص موازنة خاصة لتنمية مناطق الأقليّات لإنهاء التدهور الاقتصادي المستمر.
2- البعد المستقبلي الأبرز يتمثل باستعداد بغداد واربيل في منح الحكم الذاتي واسع النطاق للأقليّات محمي بالقوانين والتشريعات المدنية ودعم مالي مستمر، مثل إنشاء كيان مستقر (محافظة) في سهل نينوى وسنجار يتبع إداريا بارتباط قوي بالحكومة المركزية، وتوفير الإرادة الحقيقية والتخطيط الاستراتيجي البعيد المدى، لأن الدعم الذي كان الأكراد يقومون به لم يكن يخصص بالشكل الصحيح ولا بالطريقة ولا عبر الأشخاص الصحيحين، بل كان لإغراض السيطرة على المناطق وضمها للإقليم.
3- التأكيد على إنصاف أبناء الأقليات في المحاكم وخاصة ما يتعلق بأسلمة القاصرين، إذ لا يزال في حال اسلمة امرأة من المسيحيين أو الإيزيدية إن يلحق بها أبنائها على الدين الإسلامي شاءوا أم رفضوا وكذلك انتقال كل الممتلكات المسجلة باسمها إلى الرجل الذي تزوجها وأسلمها.
4- فصل الدين عن السياسة وتشريع قوانين مدنية يتم من فيها مراعاة حقوق الأقليات، التأكيد على دور رجال الدين المسلمين والمراجع الدينية بتوجيه الدعوات للتعامل بعدالة وإنصاف مع الأقليات وقبول التعامل معهم كأديان مختلفة.
5- إعداد مناهج دراسية عن تاريخ وتراث واديان الأقليات والإشارة إلى المشتركات فيما بينهم.
6- زيادة نسبة مشاركة الأقليات في المناصب والمؤسسات الرسمية والتشريعية والمحاكم.
7- تغير القوانين التي تمس الأقليات وخاصة التي أقرت في زمن النظام ألبعثي السابق.
8- التأكيد على المؤسسات التشريعية في الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم على إن تحوي أصحاب الخبرات والأكفاء من أبناء الأقليات.
9- زيادة مشاركة أبناء الأقليات في مؤسسات وزارة الداخلية والسلك الدبلوماسي، وإعطاء دور لأبناء الأقليات في إدارة الدولة العراقية وعلى اعلي المستويات، لان جدية وإخلاص أبناء الأقليات للوطن هو على اعلي المستويات، وقد أخذت العديد من الدول بهذه النظرية من خلال تقلد أبناء الأقليات لمناصب عليا في الدولة وإدارتها بكل جدارة وثقة. مع تأكيد الدولة على نهجها في بناء دولة مدنية ومحاربة انتشار التطرف الديني وخاصة في مناطق تواجد الأقليات والتأكيد على دور وسائل الإعلام في التعاطي بمهنية مع قضايا الأقليات والمساهمة بالتعريف بها الشكل الصحيح.
ليست الثقة وحدها انهارت بل البنية التحتية ايضا، العلاقات بين المكونات، والأفاق المستقبلية أصبحت ضيقة الأفق، ولم يعد هناك أمل قريب في الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لأنه لا الدولة – الحكومة العراقية ولا حكومة إقليم كردستان لديها خطة راسخة إلى ألان في كيفية التعاطي مع التعددية الدينية والقومية والاثنية وحقوق الأقليات، وليس لديها شيء مصرح به أو تعمل عليه بالشكل المطلوب، إن خارطة الأقليّات ستبقى مفتتة لفترة طويلة رغم أن الحماية والتحرك الدولي للعراق يبعث على شيء من الاطمئنان، إلا أن الوقائع على الأرض يشوبها الكثير من المخاوف.