لا شك بأن لطهران وواشنطن تأثير كبير جداً على الحكومة العراقية، والدولة العراقية بعد العام 2003، ولكلا الإدارتين رؤى مختلفة في العراق، وهذا ما ادخل الحكومة العراقية في خيارات صعبة لتوفيق بين الاثنين؛ بسبب العداء التاريخي بينهم واختلاف التوجهات والمشاريع السياسية والاستراتيجية للطرفين، وبسبب أيضا أن العراق كان بلداً معادياً لكلاً من إيران وواشنطن، على الرغم من تنوع دواعي خلاف العراق معهما ؛ لكون عراق ما قبل 2003 يمثل التحدي الأكبر في المنطقة للجمهورية الإيرانية، لاسيما وأن العراق بلد مجاور لها، فضلاً عن الاختلاف السياسي والاحتقان الطائفي الذي امتد بعد الحرب العراقية الإيرانية وتداعياتها. كذلك الحال بالنسبة للولايات المتحدة والإدارات الأمريكية السابقة التي كانت ترى في العراق بأنه يمثل جزء من دول محور الشر في المنطقة، وتعده التهديد الأكبر على مصالحها وحلفائها العرب، فضلاً عن اختلاف الرؤية الأمريكية مع النظام السياسي العراقي قبل عام 2003 لاسيما بعد احتلال الكويت،والسياسة القمعية والديكتاتورية التي كانت تحكم النظام السياسي العراقي قبل ذلك العام. هذا العداء واختلاف الرؤى السياسية والاستراتيجية بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران كانت له انعكاسات وتداعيات على الدولة العراقية برمتها منذ العام 2003 وحتى يومنا هذا، وعلى ما يبدو أن هذا التأثير سيستمر؛ بسبب غياب المشروع الوطني الحقيقي للقوى السياسية العراقية في بناء الدولة، وفشلها المتكرر في إيجاد ذلك المشروع، وتزايد الانقسامات السياسية الداخلية، والضعف الذي تعاني منه تلك القوى في مواجهة الضغوط والتأثيرات الإقليمية والدولية، لاسيما ضغوط واشنطن وطهران والضغوط الإقليمية من الدول العربية. لأن الإرادة الإقليمية والدولية في العراق عادة ما تصدم فيما بينها؛ بسبب اختلاف الرؤى بين تلك الإرادات، واختلاف المشاريع والأهداف السياسية والاستراتيجية، وهذا ما جعل الدولة العراقية ساحة صراع بين تلك الإرادات. ويمكن حصر ذلك الصراع من خلال تصارع ثلاث إرادات دولية وإقليمية وهي الإرادة "الأمريكية والعربية والإرادة الإيرانية".
إيران التي تريد أن تحافظ على وحدة العراق دون تجزئة، بحكم شيعي اسلامي أو ما يسمى "الإسلام السياسي"، زاد من حالة التوتر الداخلي واصطدم بعقبات كبيرة؛ بسبب رفض القوى السياسية السنية، والإرادة الإقليمية العربية التي واجهت ذلك بمشروع عربي-سني، وربما متطرف بدعمها للجماعات الإرهابية المتطرفة في العراق، وايضاً معارضة القوى السياسية العراقية ذات التوجهات الليبرالية، فضلاَ عن اختلاف الرؤية الأمريكية والغربية، التي تريد عراق ديموقراطي تعددي يضم جميع المكونات بعيداً عن الصراع الطائفي،وهذا سيزيد من حالة الصراع الداخلي بأجندة خارجية وعدم الاستقرار. فحالة الصراع الطائفي وعدم الاستقرار السياسي والأمني، وتدهور الاقتصاد العراقي، وتفكك البنية الاجتماعية العراقية، هي نتيجة طبيعة لتصارع تلك الإرادات الدولية والإقليمية في ظل غياب الإرادة الوطنية والإرادة السياسية الداخلية للقوى السياسية العراقية، الذي تسبب بغياب تام للمشروع الوطني العراقي بعيداً عن الطائفية والحزبية لوضع الأسس الصحيحة لعملية بناء الدولة العراقية.
المظاهرات الشعبية الأخيرة التي عمت محافظات العراق "الوسط والجنوب"، الداعية إلى إصلاح الحكم في العراق ومكافحة الفساد، هي مطالبة فعلية بتغيير نمط الحكم في العراق الذي وجد ما بعد 2003 بعد تجربة 12 عام من الفشل السياسي في بناء الدولة العراقية بنمط أكثر حداثوي وربما علماني، وأبعاد صورة الإسلام السياسي الذي فشل في إدارة الدولة، أو إيجاد صورة للإسلام السياسي المحدث والمعاصر الذي رفعت لواءه الولايات المتحدة في مشروعها للشرق الأوسط،-على الرغم من فشلها بذلك-، أو إعادة صياغة مفاهيم الإسلام الليبرالي. ولو أن هناك صعوبات كبيرة وتحديات أمام هذا النمط. إلا أنه من الممكن أن تفرز الانتخابات العراقية القادمة هذا النمط لاسيما في ظل النفور الشعبي من القوى السياسية الحالية، وهذا بالتأكيد لا يعجب إيران كثيراً؛ لان ذلك سيؤدي إلى تقلبات في الطبقة السياسية والتفكير السياسي والاستراتيجي لديها وعدم توافق الرؤى. ولهذا فالدعم الغربي للسيد العبادي وحكومته هو دعم لهذا النمط، وهذا الدعم سيزداد في حالة تحرره من هيمنة حزب الدعوة.
إيران التي أيدت الإصلاحات الحكومية الأخيرة، ولو بامتعاض داخلي، أو على مضض، مشددة في الوقت نفسة على توحيد الصف العراقي لمواجهة تنظم "داعش"، مؤكدة على "ضرورة أن يتخذ المسؤولين والفصائل السياسية في العراق موقفا من تصريحات بعض المسؤولين الغربيين حول تقسيم العراق".هي تدرك جيدا طبيعة الاحتجاجات الداخلية ومخاطرها في تغير مسار العملية السياسية والتغير التصاعدي الذي يؤدي ربما إلى فشلها في العراق؛ ولذلك تحاول أن تلفت انتباه الشعب العراقي والحكومة إلى الخطر الحقيقي المتمثل بتنظيم "داعش"، أما السبب الحقيقي وراء تلك التصريحات التي تظهر بين فترة وأخرى من بعض الشخصيات الأمريكية، فتمثل الحقيقة الواقعية للسياسة الأمريكية، التي تريد أن تنذر القوى السياسية والحكومة العراقية، بأن الخطر الحقيقي هو خطر داخلي متمثلاً بالفشل السياسي للقوى السياسية العراقية وحكوماتها، وفشلها في ايجاد حكومة وطنية جامعة للكل، وفشل مشاريعها السياسية، فواقع الأمر العراق اليوم مقسم بشكل غير رسمي؛ وهذا يعود إلى العجز السياسي للقوى السياسية العراقية في إدارة الدولة، التي لا تريد أن تقر بفشلها بإنكار تلك التصريحات، وأيضا هو فشل سياسي لإيران في دعم حكومة عراقية موحدة وليس دولة أحزاب أو فصائل مسلحة، ولهذا ربما يكون اجتياح تنظيم "داعش" لبعض المحافظات العراقية في صيف العام الماضي هو رسالة مبطنة إلى إيران أن بإمكان العرب السنة أن يتعاونوا مع التنظيمات المتطرفة أذا ما تعرضوا إلى الإقصاء أو إلى تهديد من قبل فصائل شيعية مدعومة من إيران أو غير ذلك.وبالمجمل هذا الفشل يعد ايضا فشل للولايات المتحدة الأمريكية في العراق منذ احتلاله ولحد هذه اللحظة بسبب فشل إستراتيجيتها في العراق، وهو بنفس الوقت فشل ذريع للقوى السياسية العراقية التي غيبت أرادتها الوطنية أمام الإرادة الدولية والإقليمية، وعجزها عن الموائمة بين تلك الإرادات وكسب تأييدها. ولهذا ربما تكون حزمة الإصلاحات التي تقوم بها الحكومة العراقية لتحقيق مطالب المتظاهرين، هي الورقة الأخيرة للقوى السياسية والحكومة العراقية في إثبات إرادتها في بناء الدولة، وهذه الإصلاحات قد ترجح الرؤية الأمريكية إذا ما أردفت تلك الإصلاحات بإصلاحات دستورية أخرى، أو تعديل الدستور، وحظر الفصائل المسلحة خارج أطار الدولة والعمل على بناء مؤسسة عسكرية صحيحة بعيدة عن الطائفية والحزبية الولاءات الضيقة.
ولهذا لابد أن تكون الإصلاحات الحكومية متوافقة مع الرأي العام العراقي بعيداً عن التأثيرات الخارجية والإرادات الدولية والإقليمية السلبية، بما ينسجم مع المطالب الحقيقية للمتظاهرين وتشخيص الخلل الحقيقي ومعالجته بصورة سليمة بعيدة عن الحزبية والطائفية؛ لأن ذلك هو جزء من تصحيح منظومة الدولة العراقية، وعلى إيران أن تعيد رؤيتها في دعم الحكومة العراقية والقوى السياسية العراقية وتشجع تلك القوى على أيجاد مشروع عراقي جامع لكل العراقيين بمختلف طوائفهم ومكوناتهم، وتوحيد الجبهة السياسية على الأقل الشيعية برؤى وطنية ومشروع دولة حقيقي بعيداً عن المسميات لإنجاح أنموذج الإسلام السياسي الذي تدعمه بعيداً عن الطائفية، كذلك يجب على إيران توحيد الدعم العسكري لقوات الحشد الشعبي في مواجهته لتنظيم "داعش" عن طريق الحكومة العراقية ومن خلال وزارتي الداخلية والدفاع وبرؤية مؤسساتية لتوحيد وحدات الحشد الشعبي ككتلة واحدة بعيداً عن الانتماءات الحزبية والتشكيلات العسكرية، فإذا ما وحدت الجبهة السياسية والعسكرية والعمل على دعم الحكومة العراقية بشكل رسمي بالتأكيد ستتوافق الرؤية الأمريكية مع هذا الدعم وتلك الإصلاحات في إدارة الدولة العراقية، وهذا بحاجة إلى نضج سياسي للقوى السياسية العراقية بالابتعاد عن سلبيات المراحل السابقة، والعمل بجدية وإصرار كبير على وضع مشروع دولة حقيقي قائم على أساس المواطنة وحكومة تكنوقراط؛ لأن فشل الحكومة العراقية في هذه الإصلاحات هو فشل للقوى السياسية العراقية، وهو فشل لمشروع الإسلام السياسي، وهذا سيترتب علية نتيجة كارثية وتداعيات خطيرة على كيان الدولة العراقية؛ لذلك على القوى السياسية العراقية أن تدرك مخاطر وتداعيات المرحلة وتدعم تلك الإصلاحات الحكومية وتعمل على إنجاح الحكومة الحالية بعيداً عن مشاريعها الحزبية والفئوية، وأن تضع مصلحة البلد والشعب فوق كل اعتبار. كل هذا من الممكن أن يوحد ولو بعض الشيء الرؤى الدولية والإقليمية في العراق لاسيما بعد الاتفاق الأمريكي الإيراني، وبالتالي ستكون هناك رؤية دولية متقاربة في دعم العراق، أذا ما وجدت حكومة عراقية موحدة تضم جميع مكونات الشعب العراقي وبرؤية وطنية بعيداً عن كل المسميات، لتبعث الحكومة العراقية بذلك رسائل الاطمئنان للعالم الخارجي بتلك الإصلاحات وعدم استهدافها لأي مكون أو طائفة أو ترجيح إرادة دولية أو إقليمية معينة بذلك على أخرى. والسؤال الذي يبقى مطروحاً، هل القوى السياسية العراقية قادرة على إثبات نفسها داخلياً بإنجاح تلك الإصلاحات؟ وهل هي قادرة على خلق الموائمة بين الإرادة " الإقليمية والدولية" لدعم تلك الإصلاحات خارجياً؟.