الحشد الشعبي: قنبلة موقوتة أم قوة ردع حاسمة؟

لم تكن الظروف الطبيعية هي التي أوجدت قوات الحشد الشعبي في العراق، بل إن الانهيار الكارثي للقوى الأمنية والعسكرية أمام تنظيم داعش الإرهابي وتهديد الأخير لسيادة ووحدة الدولة وحياة شعبها، بعد أحداث الموصل في حزيران عام 2014 ، كل ذلك دفع السيد السيستاني بصفته المرجع الديني الأعلى للشيعة في النجف إلى إعلان ما يسمى بفتوى الجهاد الكفائي للدفاع عن العراق من قبل كل قادر على حمل السلاح وتسمح ظروفه بذلك.

لقد كان تأثير هذه الفتوى يشبه السحر في الوسط الشعبي العراقي، إذ تدافع الرجال من مختلف الأعمار بمئات ألاف، وأحيانا بأبسط التجهيزات العسكرية للانضمام إلى هذه التشكيلات العقائدية، كما تسابقت القوى السياسية على اختلاف عناوينها، بشكل معلن وخفي، لاستثمار هذا الاندفاع  الشعبي من اجل تكوين تشكيلات عسكرية تابعة لها أو تضخيم تشكيلاتها السابقة تحت مظلة الحشد الشعبي. لذا لا غرابة أن تتعدد تلك التشكيلات وتتمايز قوتها ونفوذها حسب قوة ونفوذ الجهة التي تنتسب إليها والدعم الحكومي والخارجي الذي تتلقاه، فظهرت داخل الحشد نفسه مسميات عديدة ناجمة عن ذلك، وقد ذهب البعض إلى تصنيفها مرة بالحشد العراقي والحشد الإيراني، ومرة أخرى بالحشد السيستاني وحشد الخامنئي، فضلا عن تصنيفات أخرى مرتبطة بالمكونات العراقية كحشد أبناء العشائر السنية، والحشد المسيحي وغير ذلك.

وبصرف النظر عن التصنيفات والتسميات، والتي هي متوقعة تماما، في ظل ظروف وطريقة ظهور الحشد الشعبي، إلا أن هذه القوات أثبتت بعد تنظيم نفسها، وتطوير تسليحها، وتحديد أهدافها (هزيمة الإرهاب وحماية وحدة العراق) أنها قوات قتالية صعبة المراس مستعدة إلى تقديم تضحيات كبيرة من اجل تحقيق النصر، وأنها الند العقائدي الذي لا غنى عنه لمقاومة ودحر داعش وأخواتها من التنظيمات الإرهابية، وكان وجودها في صلب القوات القتالية العراقية مهما جدا لاستعادة هذه القوات حماستها القتالية ، وقدرتها على مسك زمام المبادرة من جديد، لتستعيد بطريقة ملحمية مذهلة جميع الأراضي التي سقطت بيد التنظيم الإرهابي وصولا إلى هزيمته النهائية، وتحويله من تهديد عسكري مباشر إلى مجرد تهديد أمني مسيطر عليه لا يقوى على الظهور على سطح الأرض.

إن هزيمة داعش وتحول العراق من مرحلة الحرب إلى مرحلة ترسيخ السلام اقتضت ولا زالت إعادة النظر بمجمل القوات القتالية العراقية – عديدا وتسليحا وتشكيلات- ومنها الحشد الشعبي، لذا وجدنا أن الحكومة العراقية منذ عهد رئيس الوزراء العراقي السابق السيد حيدر العبادي إلى رئيس الوزراء الحالي السيد عادل عبد المهدي قد تواترت خطاباتها على ضرورة إعادة تنظيم الحشد الشعبي تحت الإمرة الفعلية للقائد العام للقوات المسلحة، وكان أخرها الأمر الديواني رقم (237)  في الأول من يوليو- تموز 2019 والصادر من مكتب رئيس الوزراء نفسه، وحاول فيه تنظيم وجود الحشد في جسم القوات القتالية العراقية من خلال: إعادة تموضعها خارج المدن، وضبط مراتبها، وتشكيلاتها، وإنهاء مكاتبها الاقتصادية. إلا أن الأمر لم يتطرق إلى ضمها مباشرة إلى وزارة الدفاع العراقية، بل أبقى لها نوعا من الخصوصية  تحت ما يسمى بهيئة الحشد الشعبي. 

هذا المسعى الحكومي، على الرغم من التحديات التي تعترضه فانه يسير في الاتجاه الصحيح، وقد تحتاج الحكومة إلى زمن طويل لتحقيق أهدافه المرسومة له، والزمن ربما هو الشيء الوحيد الذي لا يعمل لصالح الحكومة، فبعد موجة التفجيرات الأخيرة، التي طالت عددا من مخازن أسلحة الحشد كمعسكر الصقر في بغداد وقاعدة بلد في صلاح الدين، وغيرها، برز إلى السطح واقع أن تشكيلات الحشد غير ملتزمة بتوجه قيادي واحد، بل وتتناقض المواقف فيما بينها داخل هيئة الحشد الشعبي نفسها، ولعل المثال الأبرز في ذلك هو التناقض الواضح بين بيان أبو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي الصادر في 21 أب 2019 ، وبيان فالح الفياض رئيس الهيئة والصادر في نفس اليوم، حتى أن البيان الأخير أشار صراحة في الفقرة الرابعة منه إلى " أن ما نسب إلى نائب رئيس الهيئة ...لا يمثل الموقف الرسمي للحشد الشعبي"  فيما يتعلق بتحديد الجهات المسؤولة عن هذه التفجيرات.

وان إصدار المرجع الديني المقيم في إيران السيد كاظم الحائري يوم الجمعة الموافق 22 أب الجاري لفتوى صريحة بإخراج القوات الأمريكية من العراق بالقوة سواء كانت موجودة لغرض التدريب والمشورة أو لمكافحة الإرهاب، ومعبرا عن استعداده لحمل السلاح إلى جانب ما سماه صفوف المقاومة والدفاع لمحاربة واشنطن، ومحملا الأخيرة مسؤولية التفجيرات التي طالت مخازن الحشد، كل ذلك سيزيد الطين بلة كما يقال، لما سيتركه من انقسام في المواقف داخل تشكيلات الحشد، إن لم يكن انفلاتها، بين مؤيد ومتحفظ ومعارض، وقد تقف الحكومة العراقية عاجزة عن اتخاذ موقف حازم لحسم الموضوع، مما يدلل على غياب سلطتها التامة على كل أو بعض هذه التشكيلات، وهذا قد يعزز من شأن المعلومات التي تتحدث عن وجود مناطق جغرافية محددة في العراق مغلقة تماما أمام سيطرة وسيادة حكومة بغداد لمصلحة فصائل معينة في الحشد، ومن لا تكون له السيادة على الأرض لا تكون له القدرة على اتخاذ القرارات السيادية بشأنها.

وهذا الواقع التنظيمي للحشد والوضع الحكومي العراقي قد يدفع، وربما حدث ذلك فعلا، إلى استغلال اسم الحشد وبعض التشكيلات المنطوية تحته لتحقيق أجندات خارجية، بهدف توريطه في مواقف غير محسوبة العواقب ناجمة عن الصراع الإقليمي والدولي على الساحة العراقية، وسينتج عن ذلك إضعاف لحكومة بغداد وتمزيق لوحدة القيادة والسيطرة داخل تشكيلاتها القتالية، بل ربما يجري تشويه صورته من خلال عده مليشيات طائفية هدفها تحقيق مصالح الطائفة الشيعية على حساب طوائف ومكونات العراق الأخرى، وهذا ما جرى ويجري تسويقه من قبل عدد من الدوائر السياسية والإعلامية داخل العراق وخارجه.

وهذه المخاطر التي تواجه الحشد والدولة في العراق ليست مخاطر محتملة، بل هي مخاطر حقيقية يجري الإعداد لها بدقة من بعض الأطراف  من جهة، وتتورط فيها بعض القوى داخل الحشد عن قصد أو جهل من جهة أخرى. ومقتضى الحال، وما يتطلبه التفكير الاستراتيجي الصائب هو أن الحشد كما ولد لحماية الدولة العراقية من خطر التفكك والانهيار أثناء الحرب، لابد أن يكون أداة فاعلة في بنائها وزيادة فرصها في التقدم والتنمية وسيادة القانون في وقت السلم، وهذا لا يتحقق إلا بجعل وجوده متناغما ومتكاملا تماما مع الأجهزة الأمنية والعسكرية العراقية الأخرى، وان يخضع معها لمنظومة قيادة وسيطرة واحدة، وتكون الأولوية لديه هي حماية وتحقيق مصالح العراق العليا بصرف النظر عن مصالح أية دولة أخرى، وان تنتفي عنه أية صبغة طائفية، فكما وجد من اجل العراق، فليمثل ويحمي العراق والعراقيين بجميع مكوناتهم وانتماءاتهم.

خلاصة القول: إن الحشد الشعبي هو قوة ردع عراقية حاسمة وفاعلة لا يمكن التفريط بها أو إهمالها، ولكن إذا لم تلتفت قياداته إلى المخاطر الإستراتيجية المحدقة بها، وتتعامل معها بحكمة وذكاء لمنع توريط نفسها في مواقف فردية غير محسوبة العواقب، فلا يوجد ما يمنع تحوله إلى قنبلة موقوتة سيقود انفجارها إلى زعزعة وحدة واستقرار العراق لوقت طويل.

التعليقات