شهدت العاصمة بغداد وعدد من المحافظات في الوسط والجنوب يوم امس الاول الجمعة 7 اب 2015، تظاهرات كبيرة وسلمية شارك فيها الاف المتظاهرين ، وحملت مطالب عديده ابتداءً بالمطالبة بتحسين الخدمات وخاصة الكهرباء التي يعاني منها العراق منذ عقود مضت، كذلك المطالبة بمحاربة الفساد المالي والاداري الذي اصبح ظاهرة شائعة في العراق، حتى صنف العراق بالدولة رقم واحد بالفساد المالي قبل الصومال وافغانستان، وشملت المطالب القيام بإصلاحات سياسية من خلال تحويل نظام الحكم من برلماني الى رئاسي، وتقليص عدد المناصب سواء كانت رئاسية او وزارية وبرلمانية في الدولة ، ومحاسبة كل المسؤولين المقصرين والفاسدين ومنذ عام 2003.
ان سوء الادارة والخدمات في العراق، والمطالبة بإصلاحها لم تكن وليدة الساعة بل هي عملية تراكمية امتدت منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 الى الان، اذ كان تعامل حكومات العهد الملكي والاحتلال البريطاني مع المطالب هو نفي الشخصيات السياسية واسقاط الجنسية العراقية عنهم، ثم استمرت المطالب في عهد الانظمة الجمهورية المتعاقبة منذ عام 1958 الى عام 2003، وكان رد السلطات هو اعتقال المطالبين بالإصلاح السياسي، وكانت اسوء فترة هي الحكم البعثي في العراق، اذ تعرض الالاف العراقيين للاعتقال والاعدام على يد النظام، والى هجرة الملايين من علماء الدين والمثقفين والاحرار وعامة الناس الى خارج العراق، اذ كان تعامل الانظمة مع الشعب هو باستخدام قوانين الطوارئ والاحكام العرفية، اذ كانت انتفاضة عام 1991 ضد النظام البائد والتي انطلقت في ارجاء العراق هي خير دليل على المطالبة بالإصلاح السياسي وتوفير سبل العيش للعراقيين، كذلك يجب ان لا ننسى ان للولايات المتحدة الامريكية دور في تردي الخدمات في العراق منذ عام 1991، اذ قيام قواتها الجوية بضرب المواطنين والبنى التحتية ومحطات توليد الطاقة الكهرباء ومصافي المياه، بحجة وجود قواعد للنظام بها، ادى الى تدميرها بالكامل، اذ ان قواعد القانون الدولي والامم المتحدة تمنع اثناء الحروب استهداف المنشآت الحيوية ذات المساس المباشر بحياة المواطن، اضافة الى الحصار المفروض على العراق تحت الفصل السابق الذي لم يسمح باستيراد اي مواد مهمة خشية من استغلالها لأغراض عسكرية، فقد كانت سياسة النفط مقابل الغذاء هي السائدة فقط، يضاف اليه اخطاء الاحتلال الامريكي بعد 2003، وان كان الاحتلال منح العراقيين الحرية بإسقاطه النظام الدكتاتوري القمعي، الا انه مهد الطريق لنظام المحاصصة الطائفية في العراق على اساس قومي وطائفي، اضافة الى مسؤوليته كفوة احتلال عن حماية الشعب وتوفير الخدمات لهم، لهذا يعتقد الكثير ان امريكا تتحمل جزء كبير من تدهور الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في العراق، وهي مسؤولة مسؤولية كاملة عما لحق بالعراق من دمار وخراب، وان للعراق الحق بالمطالبة بتعويضات حرب جراء الحصار والاحتلال لان حجج الحصار والاحتلال لم تكن واقعية، إذ لا وجود لأي نشاط نووي في العراق، ولم يتم كشف اي سلاح محرم دوليا بعد الاحتلال.
ولكن نعود هنا الى اصل الموضوع وهو اسباب هذه المظاهرات، والى اين يتجه العراق بعد هذه المظاهرات؟ وهل ان كل الكتل السياسية سوف تستجيب لهذه المطالب؟ .
ان دعم المرجعية الدينية الرشيدة مطالب المتظاهرين في خطبة الجمعة من كربلاء المقدسة، ودعوتها السيد رئيس الوزراء (حيدر العبادي) الى ان يكون اكثر جرأة وشجاعة في حربه ضد الفساد، وان يشير علنا الى السياسيين الذين يقفون في طريق الاصلاحات، ومساندتها للقيام بالإصلاحات الاساسية، يعد توجه غير مسبوق في التاريخ السياسي التقليدي للمرجعية الدينية في مساندتها مطالب الشعب العراقي لمحاربة الفساد وتوفير الخدمات.
واللافت للنظر ايضا ان بعد خطبة الجمعة وتأييد المرجعية لهذه المطالب، انطلق العديد من رؤساء الكتل السياسية والوزراء والبرلمانيين في تأييد مطالب المتظاهرين ، واكدت السلطة التشريعية متمثلة برئيسها ان التظاهر حق مكفول للعراقيين بموجب الدستور ، وان الاستجابة لمطالب المتظاهرين ستأخذ على محمل الجد من اجل ايجاد حلول لما يعانيه العراقيون، وأكد رئيس مجلس النواب العراقي تخصيص جلسة المجلس المقبلة الاسبوع المقبل لمناقشة مطالب المتظاهرين ووضع سقوف زمنية لتحقيقها، وان الحكومة لن تتردد في مسائلة اي مسؤول سرق او بدد ثروت الشعب، كما ان رئيس المجلس الاعلى ( السيد عمار الحكيم) اعلن انه سوف يضع وزراء كتلته ونوابهم تحت تصرف رئيس الوزراء في خطوة يتخذها، كما ان العديد من الكتل اعلنت انها مع مطالب المرجعية والمتظاهرين، واصلاحات رئيس الوزراء .
لقد كانت هذه المظاهرات معبر حقيقي عن الشارع العراقي، والمطالبة بالإصلاح السياسي وبشكل فوري هو مطلب لابد منه في وضع العراق الحالي، لأنه مفتاح لكل المطالب الاخرى، وخاصة اصلاح نظام الحكم من برلماني الى رئاسي، فقد اكد العديد من المتابعين للشأن العراقي انه ومنذ 2003 ولحد الان لم يشهد العراق اي تطور سواء على مستوى المؤسسات السياسية، او على مستوى الخدمات وتحسين الحالة المعيشية للبلاد، وان الديمقراطية القادمة من الغرب والنظام البرلماني لم يوفر للعراقيين على مدى اكثر من ثلاثة عشر سنة سوى الانتخابات، وحريات محدودة لم ترقى الى ما كان يصبوا اليه المواطن العراقي من هذا التغيير، وهذه المساوئ عديدة منها:
1- ان الحكومات المتعاقبة بعد عام 2003 الى الان لم توفر للشعب اي نوع من الخدمات التي هي مطلب العراقيين الاول 2003، فعلى الرغم من الاموال التي كانت تجبى من بيع النفط والمساعدات الدولية والتي تقدر بمئات المليارات من الدولارات لم يحصل الشعب الا على النزر اليسير والباقي كانت تذهب اغلبها الى جيوب المسؤولين الكبار عن طريق شركات وحملات اعمار وهمية، فلم يلمس المواطن اي تحسن في خدمات الكهرباء –ا لتي كانت السبب الرئيسي للمظاهرات- التي قدر الإنفاق عليها بأكثر من ستون مليار دينار، كما ان شبكة المواصلات لا زالت تعاني من الاهمال، ونقص في امداد المياه الصالح للشرب، وعدم توفر وضائف لمئات الالاف من الشباب العراقي واغلبهم يحملون شهادات عليا، اذ ان ميزانية عام 2014، وحدها كانت بحدود (150) مليار دولار، والتي لم يتم اقرارها من قبل البرلمان، حتى احداث الموصل، ولم يعرف اين صرفت لحد الان.
2- انتشار مظاهر الفساد المالي والاداري في كل مفاصل الدولة والى اعلى المستويات، التي وصلت الى ارقام ومستويات غير مسبوقة في تاريخ العراق حتى ان منظمة الشفافية الدولية التابعة للأمم المتحدة عدت العراق من اسوء الدول في الفساد المالي والاداري في العالم، فقد بدأت الحكومة ومجلس النواب بإقرار امتيازات لأعضائهم وبشكل كبير جدا، سواء من خلال الرواتب الضخمة والمخصصات الاخرى، ثم القيام بعمليات اعمار صرفت عليها المليارات من الدولارات اغلبها لم يحقق اهدافه، ورغم اتهام عدد كبير من المسؤولين العراقيين بالرشوة والفساد المالي والاداري وتشكيل لجان تحقيقية عديدة، الا انها لم تصل الى اي نتيجة تذكر ولم يتم محاسبة اي مسؤول، وقد ظهرت عدد من التحليلات التي أكدت إن تمدد داعش في العراق واحتلاله محافظات نينوى والانبار وأجزاء من ديالى وصلاح الدين وكركوك كان سببه الفساد المالي المستشري في المؤسسة العسكرية، مثل ما يسمى (بالجنود الفضائيين)، وبيع المناصب لأشخاص غير اكفاء، وغيرها ادت الى نتيجة مأساوية في العراق، من دمار وسلب للأموال ، وقتل وسبي الالاف، وتهجير الملايين.
3- ظاهرت التشبث بالمناصب وباي وسيلة كانت، وفي بعض الاحيان اللجوء الى طرق عديدة منها اقحام الدين في الانتخابات، ومنها اثارة النعرات الطائفية بين الشعب لكسب الاصوات في الانتخابات، كذلك استخدام الاموال العامة في الحملات الانتخابية ، وهذا ما اكده العديد من المراقبين من ان اغلب المسؤولين استغلوا المناصب لأغراض شخصية، ولمصلحة كتلهم واحزابهم السياسية.
4- ادت طريقة الحكم المتبعة منذ 2003 - المحاصصة السياسية- واشراك الكل في الحكم، والتي اصبحت الانتخابات بسببها ليس ذات قيمة، ولم يشهد العراق اي تطور سواء على مستوى المؤسسات السياسية، واصبح النظام البرلماني مشكلة بعد كان يعد الحل لمشاكل العراق، فلم تشكل حكومة على اساس نتائج الانتخابات منذ اعم 2005، رغم حصول بعض الكتل على الاغلبية التي تؤلها لتشكيل حكومة اغلبية سياسية، وهذا هو اهم شيء في النظام البرلماني، اذ اصبح رئيس الوزراء عبارة عن رئيس شركة مساهمة لا اكثر ولا اقل، وهو جاهدا يحاول ارضاء الشركاء بالتنازلات، كذلك عدم قدرته على محاسبة اي وزير او مسؤول بسبب المحاصصة المقيتة، اضافة الى مطالبة كل الكتل الفائزة في الانتخابات بالمناصب وهذا ما دعا إلى توسيع عدد الوزارات التي اصبحت اكثر من اربعين وزارة، ووكلائهم والمدراء العامين، وهذا ما اصاب مؤسسات الدولة بالترهل الاداري، كذلك زيادة الانفاق على وزارات ومؤسسات بالاسم فقد دون عمل يذكر، واخر نتائج النظام البرلماني في العراق، هو مطالبة بعض المحافظات بتشكيل وحدات حرس وطني خاصة بها عوضا عن الجيش لحمايتها من الارهاب، اذ ان بعد 10 حزيران 2014، كيف اصبح حال الجيش العراقي، ولولا دعوة المرجعية العراقيين كافة للجهاد الكفائي للوقوف بوجه الإرهاب الداعشي لكانت هناك نتائج مأساوية في العراق.
5- ادى تطبيق النظام البرلماني في العراق على اسس غير صحيحة الى المحاصصة الطائفية والقومية ، وقاد التناحر بين الكتل السياسية الى حدوث ازمات مجتمعية بين مكونات الشعب العراقي، وعزل المحافظات والمدن بعضها عن البعض وكأنها الحل المثالي لها، فقد وصلت الطائفية الى حدود لم يشهدها العراق منذ عقود، وقادت الى احداث مأساوية منها قيام عصابات داعش وبعض أفراد العشائر في المنطقة الغربية بأعمال ارهابية على اسس طائفية راح ضحيتها الالاف من العراقيين من مختلف الفئات، وتهجير الملايين منهم، وهذه الاعمال هي انعكاس للواقع السياسي القائم على حكم المحاصصة الطائفية والقومية.
6- ان هبوط اسعار النفط وعدم الاستفادة من الوفرة المالية للسنوات السابقة بسبب الفساد المالي والاداري ادت الى تدهور الاقتصاد العراقي وتأثيره على الحياة المعيشية للمواطن ، وبصرف النظر عن اسباب هذه الهبوط فان نتائجه بالغة الضرر على العراق ذي الاقتصاد الأحادي باعتماده شبه الكامل على سلعة واحدة هي انتاج النفط وبيعه، وبهذا بدأت الحكومة تتجه للإجراءات تقشفية، والمطالبة الى تقليص رواتب الموظفين، بينما سبب الأزمة المالية هو سوء الادارة المالية للعراق ورواتب وامتيازات المسؤولين الضخمة، وعمليات الاعمار والابناء بدون رقابة من الدولة.
لقد وصل الامر الى حد لا يمكن السكوت عليه، من تخبط سياسي وسوء خدمات ومستوى معاشي متردي وفساد مستشري، ادى الى حدوث انتفاضة عامة في كل انحاء العراق، والذي يقول انها مطالب الشيعة فقط فهو غير مدرك للأمر، وان هذه المظاهرات سوف تستمر لأنها نابعة من صميم الشعب، ومطالبها شعبية خالصة وليس مطالب كتل لأغراض انتخابية، وهذه المظاهرات هي امتداد لمظاهرات عام 2011، في ساحة التحرير والتي رفعت ذات المطالب، كما ان الكرد ايضا خرجوا بعدة مظاهرات في عامي 2012-2013 ، اخرها مظاهرات يوم 12/8/2015 في السليمانية واربيل للمطالبة بالخدمات، كما ان معارضة اغلب الاكراد للولاية الثالثة لرئيس الاقليم واجراء اصلاحات سياسية تقع ضمن مطالب الإصلاح الحالية، وخروج مظاهرات يوم الجمعة (14 آب) في كركوك تطالب بالإصلاح وخروج الفاسدين من مجلس المحافظة وامتدت المظاهرات إلى بعقوبة والخالص تطالب بالإصلاحات والخدمات، لذلك هذه المطالب هي مطالب كل العراقيين بدون استثناء، وما يصدر من اصوات من بعض السياسيين من ان هذه المطالب خاصة بالمحافظات الجنوبية والوسطى فقط هي تصريحات من اجل ايقاف عجلة الاصلاح، ومنع كشف مظاهر الفساد في كتلهم واحزابهم، خاصة وان اغلبهم كان له دور في تمدد الإرهاب للعراق.
هنا ينطلق الاعتقاد بان العراق مقبل على تغييرات شاملة في نظام الحكم الذي اسس منذ عام 2003، منطلقا من سلبيات النظام الحالي التي تراكمت على مدى عدة سنوات، ان المطالبة بالنظام الرئاسي مطلب واسع جدا، ولم يقف عند حد بعض التيارات العراقية التي طالبت به ، بل اصبح احد مطالب المتظاهرين الرئيسية، خاصة اذ انشأ على اسس ديمقراطية صحيحة وبعيده عن المحاصصة الحالية، لقد انطلقت المطالبة بالنظام الرئاسي قبل هذه التظاهرات ومنذ عدة سنوات، ومن بعض السياسيين العراقيين في الحكومة الحالية، كما ان دعم وتأييد المرجعية الدينية الرشيدة لمطالب المتظاهرين هو دعم لهذا المطلب، وهو في نفس الوقت سوف يجعل اغلب الكتل السياسية تتسابق لحمل هذه المطالب وتطبيقها، لان المرجعية الدينية ومنذ 2003 اصبحت هي نبض الشارع والمحرك الرئيسي له، ان العيب ليس في النظام البرلماني، وانما في تطبيق هذا النظام ومدى ملائمته للواقع العراقي، ان الوضع في العراق معقد من الناحية الاجتماعية والسياسية، ولو رجعنا إلى تاريخ العراق السياسي منذ 1921 إلى 2003، لوجدنا أن الحكم فيه كان نظام ملكي ثم رئاسي، وهما حكم شخص واحد على قمة الهرم السياسي، وهو ما يجنب البلاد الصراع القومي والطائفي على السلطة، مثلما نراه الآن، فالكل يريد أن يحكم ولو على تقسيم العراق، وهذا ما نراه الان من شبه استقلال للأكراد، ومطالبة السنة بالأقاليم، لذلك نعتقد ان النظام الرئاسي وخاصة ان اغلب دول الشرق الأوسط تأخذ به، هو النظام الذي يلبي طموح الناس من جهة، ويحفظ للبلد سياته ووحدته من جهة اخرى، ان النظرية التي يجب ان نتبعها هي ان لكل دولة نظام سياسي يتلاءم مع التركيبة الاجتماعية للبلاد، ولا يمكن ان يفرض نظام سياسي على شعب ما وهو بعيد عن واقع وتركيبة ذلك الشعب، ان الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003، على الرغم من انه ازاح عن الشعب النظام الدكتاتوري البعثي، الا انه لم يؤسس لنظام سياسي جديد يتلاءم مع الواقع السياسي الاجتماعي للعراقيين، بل زاد الاحتلال من تمزيق الشعب على اساس طائفي وقومي وبدعم من بعض السياسيين العراقيين الذين ارادوا استلام المناصب وتقسيم المناصب بينهم، دون النظر الى مصلحة الشعب والبلاد العليا.
ختاما، ان انطلاق هذه المظاهرات وبشكل عفوي يمثل دليلا على فشل نظام الحكم في العراق وفشل منظومته الأمنية بشكل عميق جدا، وعدم قدرته على توفير احتياجات الناس، وتوفير الامن لهم، لهذا ان اقتران المطالب بالتغيير السياسي مع المطالبة بتوفير الخدمات ووسائل العيش لهو الحل الامثل والجذري لواقع البلاد، وان اي اصلاح جزئي في البلاد او تقديم خدمات بشكل مؤقت بدون اصلاح سياسي شامل ولو على مراحل، هو اجراء لن يكتب له النجاح في المستقبل.