صراع الهويات وأثره على بناء الدولة العراقية

شغلت مسألة الصراع على الهويات في العراق حيزاً مهماً من اهتمامات الكثير من النخب الثقافية والأكاديمية ، وشرائح واسعة من المجتمع العراقي، منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام1920م والي اليوم والذي اتخذ أشكالاً متعددة ، فالصراع نقصد به هنا هو ما بين الهويات الفرعية كالعربية مع الكردية وكذلك المذهبية بين الطوائف الدينية والذي اثر ولازال يؤثر على الهوية الجامعة والعليا للمجتمع وهي "الهوية الوطنية للدولة" ، برزت الصورة الجلية لهذا الصراع وبعمق بعد التغير الذي حدث عام 2003. أسباب كثيرة عمقت الصراع على الهويات في المجتمع العراقي وأثرت على هوية الدولة، تمثلت في التهميش والاضطهاد الذي وقع على طائفة معينة دون أخرى ،وكذلك قومية على حساب الأخرى، من قبل ما يعرف بالمجتمع السياسي أو أنظمة الحكم التي تعاقبت على حكم هذا البلد، فمنذ أيام حكم الدولة العثمانية للعراق والهوية الوطنية العراقية تعاني التمزق بفعل الموقع الجغرافي للعراق الذي كان يمثل منطقة الفصل بين القوى، أو الإمبراطوريات المتنافسة آنذاك (العثمانية والفارسية) فكان وقتها ولازال أيضا يمثل ساحة التنافس الحقيقي بين تلك القوتين لذلك كل ما كان موجودا من ثقافات يرسخ في الانحياز أما إلى الدولة العثمانية أو للدولة الفارسية ، والانتماء للمواطنة في ذلك الوقت كان العامل الديني هو المحدد الرئيس له لان كل من الإمبراطوريتين المجاورتين للعراق اعتمدتا على أسس ومصوغات دينية تنطلق كل منها في إخضاع الآخرين لهيمنتهما ، وبحكم سطوة الحكم العثماني على العراق آنذاك ، الدولة ولأسباب قومية وطائفية لم تترك للمكونات العراقية المتمثلة في (الشيعة والسنة والأكراد ) مجال في الحكم والإدارة ،وبذلك ترك ومنذ ذلك التأريخ غياب الشعور بالمواطنة وهوية الانتماء للدولة فالمكون الشيعي تم التعامل معه على أسس طائفية وانه ظهير للدولة الفارسية وعدم الأخذ بالاعتماد على حجمه السكاني بالنسبة لإقليم العراق، لذلك تجذرت الهوية والثقافة الدينية لديه، وأصبحت الهوية الأسمى في كل تعاملاته وتفاعلاته مع الدولة العثمانية وما تبعها من أنظمة حكم ، فالمكون السني بالرغم من التقارب المذهبي بينه وبين الهوية الدينية للدولة العثمانية أيضا، وقد تم التعامل معه على انه حليف غير موثوق به وتم إبعاده أيضا مما حدا به التوجه نحو الهوية القومية ، ولكون الكرد تم التعامل معهم أيضا قوميا، وهذه حقائق تأكدها كتب التأريخ ووقائع الإحداث التي لازلنا نعيش ترسباتها اليوم ، فعند انتهاء حكم العثمانيين ومع بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة حدث ما لا يختلف كثيراً عن السابق ولازال إلى الان ولكن بصورة أخرى، وهي تسخير الهوية الوطنية العليا للدولة في خدمت الهويات الفرعية والأمثلة على ذلك كثيرة، فمع قيام النظام الملكي في بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة والمعهود بثلاثيته المتمثلة في(العائلة المالكة والضباط العثمانيين مثل نوري سعيد والانتداب البريطاني)سخرت هوية المواطنة والدولة بخدمة الهويات الطائفية حيث أُبعد المكون الشيعي عن ممارسة أي دور في إدارة الدولة والمؤسسات العراقية آنذاك، إلا ما ندر ، وبعده جاءت فترة الجمهوريات التي منذ عام 1958 إلى عام 2003 وظفت أيضا هوية المواطنة والدولة بخدمة الهويات الطائفية والقومية ، اليوم وبعد عملية التغيير ونتيجة للتشرذم في هوية الدولة من قبل الأنظمة السالفة أصبح المواطن العراقي يبحث عن هويته القومية والمذهبية ليجعل منها ظلا يستظل به بعد فقد الأمل بهوية المواطنة والدولة، وهذا ليس عيبا فيه، بل العيب كما اشرنا بالمجتمع السياسي الذي عمق هذا الشعور والولاء لدى الموطنين بالهويات الفرعية ونسيانهم وبالكاد عدم إيمانهم بالهوية الوطنية التي لم يلمسوا منها طيلة العقود غير العناوين والشعارات . صراع الهويات بعد عام 2003 . امتازت هذه الفترة في التصارع بين الهويات الفرعية للقوميات والطوائف في هذا البلد على إدارة الدولة ، فالثقافة السياسية لأسياد هذه الطوائف وبحكم ضياع المفهوم الوطني والمواطنة لهويتهم لم يكن أمامهما إلا مفهوم الهويات الفرعية لفرض بعض المكاسب والمناصب والمواقع القيادية في إدارة الدولة وبالتوازي والتقاسم مع أسياد الطوائف والقوميات الأخرى ، كما أن قلة الوعي والإدراك وترسبات أنظمة الحكم السابقة كان له الأثر على المواطن العراقي في هذا المكون أو ذاك الذي عانى من هويته الفرعية التي بسببها عاش الغربة في وطنه والإذلال بسببها وأشعرته الأنظمة بأفضلية الأجنبي عليه ، لذلك عندما تهاوت تلك الأنظمة وخصوصا النظام الصدامي تمسك الكثير من العراقيين بهوياتهم الخاصة بسبب ما عانوه من ظلم واضطهاد بسبب ذلك، وأصبحت قدسيتها لديهم تعلو قدسيّات كل الهويات ، وما عمق من تمسك المواطن العراقي بهويته الخاصة على حساب هوية المواطن، والدولة هي تلك الآلة الإعلامية الغربية والإقليمية فتارة تراها تنعت مكون يشكل 70% من سكان العراق بالصفوي وتشعره بالتبعية وتعزز الانتماء الطائفي والديني لديه على حساب الانتماء للوطن وكأن الهوية الوطنية العراقية تحددت بعد تهجير حولي 70% من سكانه، وهذا هو تدمير العراق كما يريده الغرب والإقليم.. وممّا تقدم نستطيع أن نوجز مقومات صراع الهويات في العراق وهي :- 1- أنظمة الحكم الأجنبية التي تعاقبه على حكم العراق وخصوصا العثمانية والبريطانية . 2- أنظمة الحكم من داخل العراق والتي اتخذت من القومية والطائفية تبريراً في حكمها والحفاظ علية وممارسة التميز والتعسف باسمها على حساب الآخرين من القوميات والمذاهب الأخرى . 3- الموقع الجغرافي المحوري للعراق وإحاطته بقوى إقليمية متنافسة في الصراع والنفوذ على المنطقة . 4- افتقار الدولة العراقية منذ تأسيسها والى وقت قريب إلى الشخصيات والرموز ذات المناهج والأفكار الوطنية الصرفة في بناء الدولة وسيادة المواطنة فيها وعلوها مع احتفاظهم بهوياتهم الخاصة قومية أو مذهبية كانت . 5- غياب الوعي والإدراك لدى المواطن العراقي بأهمية المواطنة وأولوية هوية الدولة ومؤسساتها على الهويات الأخرى . أهم الآثار التي تركها صراع الهويات على بناء الدولة العراقية. 1- وقوع البلاد في دوامة الصراع الطائفي العرقي والقومي دون أي رابح فيه بل الكل نال نصيب الخسارة على السواء . 2- ضعف هيبة الدولة بسبب التدخلات الإقليمية والدولية لحساب قومية على أخرى وكذلك ديانة على حساب أخرى وطائفة على حساب أخرى . 3- تأخر مسيرة البلاد الاقتصادية والعلمية والثقافية وانشغال مكوناتها في ما بينها وسيادة التعصب الأعمى في التعبئة القومية والطائفية والدينية وأثار هذا التعصب باقية في النفوس لوقت طويل . 4- غياب الثقافات الوطنية الجامعة لهوية الدولة والابتعاد عنها وتشويه ومحاربة متبنيها. 5- استخدام القومية والدين والطائفة كوسيلة لوصل السلطة في ظل نظام ديمقراطي من المفترض أن تستخدم المهنية والكفاءة الإدارية والقانونية والثقافية العابرة لتلك الثقافات في الوصول للسلطة . أمام كل هذا الالتفاف حول الهويات القومية والدينية والطائفية في العراق والصراع فيما بينها والابتعاد في المقابل عن الهوية الوطنية أصبحت الحاجة ملحة اليوم في التفكير بالحاضر والمستقبل في ضرورة تجسير الهوة بين هذه الهويات لخلق الهوية الوطنية، وهذا بحاجة إلى جهد يتحمل عاتقه كل أفراد المجتمع وخاصة النخب السياسية والأكاديمية والدينية والثقافية ، فبناء الدولة في عالم اليوم يختلف عن سابقاتها في الماضي ، تتمثل هذه المقومات في بناء مواطنة يقف جميع أفراد المجتمع داخلها على خط واحد متساوين في الحقوق والواجبات ويطرح البعض من الدراسيين مفهوم دولة المؤسسات لمعالجة صراع الهويات الأزلي في العراق وهي التي تقوم على حياد الدولة بمؤسساتها تجاه المواطنين وما يحملونه من هويات خاص بهم ، وهنا لا احد فوق القانون ، والفرص ستكون متاحة للجميع بغض النظر عن العرق والطائفة والثقافة . فيما يذهب البعض إلى طرح مفهوم دولة الإنسان لتحقيق الاستقرار المجتمعي في العراق الذي يتميز بتنوع تركيبته العرقية والطائفية والقومية ، فهنا إنسانية المواطن تكون المدخل لحفظ حقوقه وواجباته بصرف النظر عن قوميته وعرقه ومذهبه .
التعليقات