تمثل دعوة اوجلان فرصة طيبة للكرد أنفسهم، ولحكومات وشعوب المنطقة لفتح صفحة جديدة من الامن والاستقرار والسلام، وهي تأتي في ظل ظرف حساس للغاية، مما يقتضي اقتناصها والاستفادة منها الى اقصى حد، ومن الخطأ تجاهلها او اهمالها او إساءة التعامل معها، لا سيما ان البدائل الأخرى غير آمنة وعواقبها مجهولة، فهل يمكن استثمار هذه الفرصة وعدم اضاعتها؟ هذا السؤال سوف تجيب عنه تطورات الاحداث في الأشهر والسنوات القادمة
في خطوة ترقبها الكثير من المتابعين في الأسابيع الاخيرة، اصدر عبد الله اوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني (PKK) يوم الخميس الموافق 25 فبراير 2025 من سجنه في تركيا بيانا اعلن فيه عن مبادرة مهمة لترك منهج العنف المسلح في الدفاع عن حقوق الكرد، وتبني الديمقراطية كخيار بديل مفضل للوصول الى هذه الحقوق، اذ جاء في البيان " ان احترام الهويات، والتعبير الحر عن الذات، والتنظيم الذاتي الديمقراطي لكل شريحة من شرائح المجتمع على أساس هياكلها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الخاصة، لا يمكن أن يتحقق الا من خلال وجود مجتمع ديمقراطي وفضاء سياسي"، وأضاف " ان القرن الثاني للجمهورية (التركية) لا يمكن ان يتحقق ويضمن الاستمرارية الدائمة والاخوية الا اذا توج بالديمقراطية"، وبعد ان حّمل اوجلان نفسه " المسؤولية التاريخية" عن قراره دعى جميع المجموعات الكردية الى " القاء أسلحتها"، كما دعى حزب العمال الكردستاني (PKK) الى حل نفسه.
ان دعوة اوجلان الى السلام وتكريس الديمقراطية والاخوة التركية- الكردية جاءت تتويجا لسنوات طويلة من العمل الدؤوب الذي اشرف عليه الرئيس التركي اردوغان من خلال رئيس استخباراته السابق ووزير خارجيته الحالي هاكان فيدان، والتي استعان خلالها بوسيط محلي هو حزب " المساواة وديمقراطية الشعوب" التركي، ووسيط خارجي هو " الحزب الديمقراطي الكردستاني" العراقي، في محاولة منه لتثبيت نفوذه اكثر في حكم تركيا، وجعل السلام التركي-الكردي ارثا تاريخيا له بعد عقود طويلة من العنف المسلح بين الحكومات التركية المتعاقبة والمعارضة الكردية المسلحة، والذي كبد الطرفين خسائر فادحة.
كما يضع البيان -حسب اعتقاد اوجلان- حدا للنزعة القومية الكردية المتطرفة الرامية الى توحيد الكرد في الشرق الأوسط تحت مظلة دولة قومية واحدة، حيث حركت هذه الدولة الحلم اغلب القوى القومية الكردية في الدول التي تواجد الكرد فيها، فتحملت في سبيلها الكثير من التضحيات، فضلا عن مواجهة صعوبات جمة في الاندماج مع الهويات الأخرى التي تتشارك العيش معها، لذا اعتبر اوجلان هكذا نزعة تجسيدا " للانحرافات القومية المتطرفة" التي " تفشل في الإجابة على علم الاجتماع التاريخي للمجتمع".
وعليه، تعطي دعوة اوجلان الامل بإيجاد فرصة مناسبة لتحقيق الاستقرار والسلام في تركيا وعموم الشرق الأوسط؛ فالمسألة الكردية كانت -ولا زالت- سببا مهما من أسباب الصراع المحلي والاقليمي، ولذا توالت ردود الأفعال الإيجابية: الإقليمية والدولية المرحبة بها، وهي بلا شك تكتسب هذه الأهمية في حال نجحت في معالجة هذه المسألة، وتمكنت من الاستجابة بشكل صحيح لطموحات الكرد وحاجاتهم الإنسانية، ولكن هذا النجاح يقترن بشروط عديدة منها: مقدار استجابة القوى الكردية عموما، والقوى المرتبطة بحزب العمال الكردستاني لهذه الدعوة، ومدى استعدادها لإلقاء سلاحها، وتبني الخيار الديمقراطي كخيار حاسم للارتباط بالدول التي يتواجد الكرد فيها، فضلا عن عدم تكرار أخطاء الحكومات والمجتمعات في التعامل مع الكرد كقومية مغايرة، وهوية ثقافية لها خصوصيتها وحقوقها، إضافة الى امتناع القوى الإقليمية والدولية من استغلال الكرد والتدخل في شؤونهم لتحقيق مصالحها واجنداتها المختلفة...
ولحد كتابة هذه السطور يبدو أن هناك صعوبة في توفير هذه الشروط المهمة، فبعد اعلان اوجلان لمبادرته، اعتبر مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية "قسد" ان دعوة اوجلان لحل حزب العمال، والقاء السلاح تتعلق بحزب العمال في تركيا، ولا علاقة لها بسوريا. وبنفس الطريقة ردت جماعة حزب العمال الكردستاني في جبل قنديل في العراق، مما يعني عدم الاستجابة للدعوة، وهذا مؤشر غير مبشر يدل على انقسام القوى الكردية واتخاذها مسارات منفصلة لتحقيق أهدافها.
إضافة الى ما تقدم، يعني نجاح دعوة اوجلان زيادة النفوذ التركي في المنطقة، وهذا الامر اذا توافق مع مصالح بعض القوى الإقليمية والدولية، فهو لا يتوافق مع مصالح قوى أخرى تعتقد ان تمدد انقرة يجري على حسابها، لاسيما طهران التي ترى ان ظروف حرب غزة، وتداعيات الاحداث في لبنان وسوريا قلصت نفوذها وتأثيرها الإقليمي، مما قد يحفزها على تشجيع بعض القوى الكردية على عدم الاستجابة لدعوة اوجلان من اجل الاحتفاظ بقوة تأثيرها، والامساك بأوراق تفاوضية يمكن ان تلعبها في الوقت والمكان المناسبين للحفاظ على مصالحها ومواجهة التمدد التركي في الشرق الأوسط بشكل عام، وفي سوريا بشكل خاص.
كذلك يتطلب الذهاب وراء الخيار الديمقراطي وجود قيادات ومؤسسات ديمقراطية، فضلا عن وجود منظومة قيم ديمقراطية على المستويين الحكومي والشعبي، وتوفر هذا الشرط في البيئة الشرق أوسطية الحالية يُعد امرا مشكوكا فيه. وإذا عرفنا ان الديمقراطية ليست مجرد اعلان نوايا، بل هي تجسيد حي لبناء مؤسسي وقيمي ديمقراطي، كما هي عقلية حكم تحرك أفكار وسلوك الناس، عندها نفهم تماما ان الدعوة الى الديمقراطية في حل مشاكل المجتمعات، وتلبية حاجاتها المختلفة لن يُكتب لها النجاح بدون وجود ديمقراطيين حقيقيين يتبنون هذه الدعوة ويتحملون اعبائها ونتائجها الى النهاية.
أخيرا، تمثل دعوة اوجلان فرصة طيبة للكرد أنفسهم، ولحكومات وشعوب المنطقة لفتح صفحة جديدة من الامن والاستقرار والسلام، وهي تأتي في ظل ظرف حساس للغاية، مما يقتضي اقتناصها والاستفادة منها الى اقصى حد، ومن الخطأ تجاهلها او اهمالها او إساءة التعامل معها، لا سيما ان البدائل الأخرى غير آمنة وعواقبها مجهولة، فهل يمكن استثمار هذه الفرصة وعدم اضاعتها؟ هذا السؤال سوف تجيب عنه تطورات الاحداث في الأشهر والسنوات القادمة.
اضافةتعليق