يتردد مفهوم التهجين كثيراً في الأوساط الاكاديمية للعلوم السياسية لوصف الظواهر السياسية التي قد تمزج بين نوعين او اكثر من الأنظمة او السلوكيات او الخواص السياسية ، ولعل السلطوية الهجينة او الأنظمة المختلطة او الهجينة احدى تلك المفاهيم التي لاقت رواجاً دراماتيكياً وعملياتياً غير عادي لاسيما بعد الحرب الباردة والتي طورت من ميكانيزماتها حتى اللحظة مثل تركيا وماليزيا ، وروسيا ، ودول أخرى من أوروبا الشرقية في فترات زمنية مختلفة مثل أوكرانيا وكرواتيا وصربيا ورومانيا وبلغاريا وأذربيجان وأرمينيا والبانيا ، وفي اميركا اللاتينية مثل المكسيك وفنزويلا ، وفي افريقيا مثل الكاميرون وغانا وكينيا ، وكذلك أنظمة الحكم العربية من بينها النماذج الأميرية والملكية لدول الخليج والأردن ، ودول المغرب العربي، وسوريا ، فقد جسدت حالة ستاتيكية مزدوجة مبررة بين التمويه الايديولوجي والتحدي الثقافي-القيمي المباغت للماهية الديمقراطية كطريقة حكم بأبعاد مؤسساتية بوهيمية ، إذ مثلت الأنماط المهجنة انسلاخية شكلانية عن هياكل السلطوية التقليدية ، لكنها ما برحت ان حافظت على ارتهانها المكبوت بالاستبدادية العنيدة ، ورغم تنويع ديناميكياتها السياسية وبناء قواعد دستورية تبنت نصا لا سلوكا المبادئ الديمقراطية ، الا ان الواقع السياسي كان صداه اعلى من المحاذير الحقوقية والبنيوية التي ضمّنتها اللوائح والقوانين .
اذ تعمد الانظمة السلطوية الهجينة الى توفير فضاءات كاذبة من الحرية والمساواة تنزع لنفي المعرفة السياسية وترسيخ التجهيل السياسي عبر السماح بالتعدديات السياسية والتلاعب بمدياتها التمثيلية واقصاء المعارضة الحقيقية بخلق معارضة موالية للتعتيم على الانتهاكات الحقوقية وزرع خارطة ذهنية شعبية مساندة أو مستكينة، فضلاً عن اجراء الانتخابات الدورية المسيطر على مخرجاتها في الكواليس السياسية التي تهدف بالأساس لتفريط الفهم العام بمواهي المشاركة السياسية ، وتمييع غاياتها في التغيير لإطالة العمر السياسي للأنظمة الحاكمة وتنفيذ الاغتيالات السياسية للخصوم المحتملين أو غير المرغوب بهم ، مما يعزز الاستمرارية والبقاء السلطوي لتمكين التغلغل الاستباقي بشكل اعمق لاحتواء رد الفعل الشعبي بمختلف مستوياته ومن ثم اضعاف الجانب التصعيدي فيه واستهلاك حالة الرفض وكبح ارادته على المقاومة أو تحجيم امكانيته الابتكارية في خلق ثقافة سياسية حية مستقلة عن ثقافة السلطة .
وقد استند تناسخ السلطوية الهجينة على نظم اجتماعية ابوية في كثير من البلدان لاسيما العربية ، لتكون المعادل التحفيزي الدائم الذي يغذي ظروف تجديد السلطوية الهجينة ويعزز من امكانيات بقائها ، اذ استغلت تلك الانظمة جيدا القواعد الاجتماعية بصورتها المفككة المنثنية على ذواتها والقابلة للارتداد نحو مرجعياتها التقليدية إذا ما استشعرت أي تهديد لكيانها واستثمارها سياسيا على حساب الوحدة الوطنية ، مما يعني عدم جاهزية مجتمعاتها للان لاستيعاب وتقبل تطوير قيمها التعددية وانجاح استثمارها اجتماعياً لمواجهة الاستغلال السلطوي لكينونتها الوجودية والسياسية الى مراحل متقدمة ومنتجة ، ولعل عدم اكتناز المجتمعات العربية لإرادة اجتماعية واعية وواعدة جعلها مشلولة دائما امام استثنائية تمدد السلطوية واستفحال سيطرتها الذهنية واختلاف ادواتها القمعية ، فحالات الانفصام المجتمعي بمكنوناته الطبقية والطائفية اتاح صعود النخب ذات النفس والتوجه المعادي للديمقراطية ، وان تمترسها كان نتيجة لعدم وجود قوى سياسية معادلة لها بالقوة، او وجود قوى غير تقدمية تعمل بصيغ توافقية مساوماتية تكتفي بالحصول على المناصب وتدويرها لصالحها وبذلك يكون التغيير من وجهة نظر زبائنية قاصرة ، او لربما هو اليأس او الفتور الاجتماعي وعدم ايمان وثقة الكيانات الاجتماعية بأولوية وجودها وكيفية تعريفها لنفسها او ادراكها لذلك الوجود امام تلازمية الخوف المحبوكة بالهاجس الامني والخوف من الانسياق إلى دوائر الفوضى ، مما ادى الى تمتين جذور السلطوية وتنوع انماطها .
ان هيمنة ميثولوجيا السلطوية الهجينة المستحكمة بالتبريرات الديمقراطية اثثت لبنى طبقية انتزعت نفوذها من بين النخب واثرت على وعي الجماهير وسلوكها بطرح نفسها كقوة ثقافية موازية ولاغية للكينونة الاجتماعية بمعادلة الجذر الاجتماعي العتيد بالتجذر السياسي المتسلط ، وتوليف فكرة المنقذ نحو خلق زعاموية جديدة تبرر تمركز السلطة بيديها للتحول من الاقصاء السياسي إلى الاستعصاء السلطوي، وان محمولاتها العقائدية غير المستقرة التي تختزنها غير قابلة للتعامل بنفس الصيغ السلوكية مع كافة الانماط الاجتماعية الا نمطيتها المشدودة نحوها ، والحرص على عمليات اعادة الإنتاج الذاتي في مختلف مواقع الصراع ، وزج عناصر خطابية تشفيرية موهومة تجديدية للهيمنة ضمن عمليات تراكمية تحريفية للعملية الديمقراطية ، تكثف توزيع عناصرها داخل علاقات السيطرة لتحصين المناصب العليا بميكانيزمات تحويلية اقناعية تمسك بزمام عمليات التغيير واحتوائها بتخليق مقاومات سلطوية مركبة ضد التغيير الثقافي والاجتماعي ومن ثم السياسي فتطرح نموذجاً مجازياً مضللاً لواقع مصطنع ومؤقت .
ان الحفاظ على التطورية الكامنة والمهيأة لمواجهة اي طارئ مَكّن الأنظمة الهجينة من التعامل بمرونة والتكيف بسهولة اذا ما فشلت في استيعاب اي نوع من الأزمات التي تهدد وجودها ، الا انها تظل عاجزة عن السيطرة على عمليات الهدم والتجديد في خلايا الجسد الاجتماعي التي تزداد بزيادة الفاعلية الاجتماعية والولادة المستمرة لأجيالها، وتثير هواجس القلق من امكانية اسهام ذلك في خلق حراك اجتماعي يتطور الى حراك سياسي ينخر الطبقات السميكة التي رسختها السلطوية في التربة الثقافية للمجتمع، وبما ان نمو مثل هكذا حراكات ليس من السهولة السيطرة عليه او ضبطه ، فإنه سيجسد حالة من عدم الاستقرار تنبئ بإمكانية ولادة قوى سياسية فاعلة تنتهج التغيير ، فالتناقضات الداخلية التي تحملها السلطوية الهجينة قد تؤدي الى تآكلها من الداخل ومن ثم تقويض قوتها والتهيئة لفنائها ، لاسيما وانها لا تعبر عن مرحلة انتقالية الى الديمقراطية ، فقد تتشكل من جديد حتى بعد الانتقال الديمقراطي رغم الانفتاح السياسي المؤقت المعتمد على شكلانيات لا وقائع ، لذا تعمد الانظمة الهجينة الى تطوير اجهزتها الامنية واستعمال القوة المفرطة في سبيل المحافظة على وجودها لتكون الديمقراطية نفسها اداة للقمع السياسي ، معبرة عن ديناميكية متخلخلة موجهة وانتقائية لا يتكشف حضورها الحقيقي الا عند الشعور بوجود خطر التغيير .
الا ان مشاكل التغيير الاجتماعي وما يصاحبها من تحولات كبرى تفتقر بنيويا وسلوكيا الى القدرة على البحث او تحديد اهدافها او التنبؤ بها لاسيما في مجتمعاتنا ، فتعيش حالة الصدمة لأنها لم تكن مهيأة لمثل هكذا صدف استثنائية وتظل حبيسة المتوقع واللا متوقع ، ولأن ذروة السلطوية وامتداد حكمها وحالة الاستقرار كميزة قابلة للمقارنة بأفضليتها ازاء حالة الاضطراب التي من الممكن ان تولدها الانتقالات من الحكم ، فإن المجتمعات قد تبرر لا شعورياً المحافظة على بقاء السلطوية بنفس آلياتها وسياساتها، فتتمسك بالماضي وحالتها الحاضرة لتلافي إمكانية الشعور بالندم على الحالة المحتملة لما بعد الانتقال وتغيير الحكم التي بالكاد قد تخوض غمار التجربة رغم مغرياتها الكثيرة ويستثنى من ذلك حالات التدخل الخارجي والتغيير القسري، فيستكينوا على حالتهم التقليدية بانغلاقية اذهانهم وافكارهم الطوعية على مقتضياتها ، وقد يرفضون الحرية ليس لأنها حرية بل خوفا من تبعات اطلاق عنانها بين فئات المجتمع والخوف وعدم القدرة على التكهن بمستقبلها ، لذا تنقسم المواقف ازاء النظام السياسي بين مدافعين عنه وبين مناضلين نحو اصلاحه او تحويله وهذا محل استثمار ثمين بالنسبة للأنظمة الهجينة في كل الاحوال.
وعليه ليس من الممكن الجزم بأن السلطوية الهجينة مرحلة انتقالية نحو الديمقراطية بقدر ما هي مرحلة أمننة بقاء واستحواذ ، فقد يكون هذا النوع من السلطوية اخطر من نموذجها التقليدي الشمولي او الديكتاتوري، كونها تتمترس خلف ظلال الديمقراطية المفخخة وتغذي وجودها التعسفي بالمناورة الناعمة بين الترغيب اللاعقلاني والترهيب القسري بتحييد النخب اولا ثم تحييد الجماهير واستقطابها الانتقائي ، فتكون قيمة البقاء بشرعنة الخيارات السياسية السلطوية وتبريراتها بمساومة الحريات السياسية مقابل مستويات متباينة من الرفاهية الاجتماعية والاقتصادية من منطلق ان المواطنين العاديين في المجتمعات المغلقة غالباً ما يبحثون عن الملموس في السياسات اكثر من المحسوس رغم تدني ثقتهم بالسياسات الآنية احياناً مع رفض الأنظمة الهجينة الدائم بتعريف نفسها كسلطة مؤقتة.