عدم تمكن حكومة الإطار التنسيقي برئاسة السيد محمد شياع السوداني من تقديم شيء على مستوى الإصلاح السياسي، ولاسيما في مكافحة الفساد وحصر السلام بيد الدولة والحد من التدخلات الخارجية، فضلًا عن مستوى وطبيعة الخدمات العامة، ربما تعطي الفرصة للتيار الصدري وأنصاره بكسر عزلتهم السياسية والنزول إلى الشارع، متخذين من فشل الحكومة ذريعة لذلك. لهذا فأن كل التقديرات والمؤشرات، تشير إلى أن التحركات الصدرية الأخيرة على المستويين (القيادة والقاعدة الجماهيرية) تمثل بوابة العودة السياسية للتيار الصدري
إنَّ الحديث عن العزلة السياسية للتيار الصدري، يرتبط بمواقف زعيمه الديني السيد مقتدى الصدر، إذ يشكل الأخير أداة التحكم الرئيسة في كل قرارات ومفاصل التيار الصدري ونشاطه السياسي والديني وسلوكه الاجتماعي، ولا يمكن الحديث عن نشاط التيار الصدري وتحركات قاعدته الجماهيرية بمعزل عن مواقف وأصولية السيد الصدر، ولا يمكن فك الارتباط بأي صورة من الصور بين سلوك التيار الصدري بمختلف الاتجاهات عن مواقف زعيمهم. إذ يتميز التيار الصدري عن كل القوى والاحزاب السياسية العراقية (الإسلامية والعلمانية) بمركزية على مستوى القيادة والطاعة والسلوك؛ وهذا ما جعل منه "على مدار العقدين الماضيين" رقم سياسي من الصعب جدًا تجاوزه، من دون رغبة ورضى التيار او إرادة السياسية أو اعتزاله السياسي. على الصعيد الشخصي، يتميز السيد الصدر بأنه السياسي الذي لا يمارس السياسة، ولا يطمع بمغانمها، بقدر ما يطمح لنتائجها، حتى وأن جاءت عكس مصالحه السياسية أو عكس رغبات التيار الصدري السياسية. ولعل انسحابه الأخيرة من مخاضاة تشكيل الحكومة وتركها إلى منافسه التقليدي (قوى الإطار التنسيقي)، خير دليل على ذلك، أو غيرها من الانسحابات والاعتزالات السياسية التي اتخذها السيد الصدر طيلة العشرين عام الماضية. فالسيد الصدر كان بإمكانه أن يكون الزعيم السياسي الشيعي الأوحد في العراق بعد عام 2003، إذا ما قرر ترك أصوليته الدينية والمرجعية، والتفرغ إلى الأمور السياسية وممارستها بشكل بعيد عن انتماءه المذهبي والديني والعائلي، والتعاطي معها بمنطق سياسي – براغماتي، أو كما نعرفها بالمفهوم التقليدي "بإنها فن الممكن" أو كما توصف شعبيًا بأنها "لعبةٌ قذرة". فعلى سبيل المثال ماذا لو قرر السيد الصدر التخلي عن أصوليته الدينية وثوابته الوطنية، سواء فيما يتعلق بالعلاقة المذهبية مع إيران، أو مواقفه السياسية اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية "في مسألة تشكيل الحكومة والتدخل في الشأن الداخلي العراقي" أو في مواقفه اتجاه إسرائيل وموضوع التطبيع، أو غيرها من المواضيع التي تتعلق بالحداثة الغربية أو ما تسمى بحرية التعبير وحقوق الإنسان كالمثلية الجنسية، أو ما يتعلق بموضوع حرق القرآن الكريم؟ هل سنشاهد العزلة السياسية التي اتخذها السيد الصدر طيلة العشرين عام الماضية كما هي عليه اليوم، وهل سيكون هناك فيتو إقليمي – دولي على تولي التيار الصدري رئاسة الوزراء وتشكيل الحكومة العراقية؟
إنَّ الحديث عن عزلة التيار الصدري وتاريخ اعتزاله السياسي بعد عام 2003، يعود بنا إلى اول اعتزال اتخذه السيد الصدر في مارس/آذار 2013 حين لوّح الصدر أنذاك بالانسحاب من الحكومة ومجلس النواب الذي وصفه حينها بـ"الهزيل"، أبان حكومة السيد المالكي الثانية، وقال باننا "سنناقش الانسحاب من الحكومة بل حتى من البرلمان الهزيل"؛ وذلك احتجاجًا على السلوك الحكومي والنيابي للسلطتين (التنفيذية والتشريعية)، إذ وصف حينها الصدر البقاء في الحكومة بـ"المضر والمعين على الإثم والعدوان"، وقد أعلن بعد 5 أشهر اعتزاله الرسمي عن السياسة، وبالتحديد في الرابع من أغسطس/آب 2013. لكنه وبعد نحو شهر من ذلك عاد للمشهد السياسي تاركًا المقاطعة ببيان قال فيه "رغم أني أميل حاليًا للاعتزال والعزلة عن المجتمع، إلا أني لم أستطع أن أقف ساكتًا أمام هذه الجموع الطيبة المؤمنة السائرة لأبيها الصدر". وبعد عام من أول اعتزال، أعلن زعيم التيار في منتصف فبراير/شباط 2014 الانسحاب مجددًا من العمل السياسي وحل التيار وإغلاق مكاتبه السياسية، مستثنيًا بعض المؤسسات التطوعية والإعلامية التابعة له. وقال حينها، إنه قرر الاعتزال "حفاظًا على سمعة آل الصدر ومن منطلق إنهاء كل المفاسد التي وقعت أو التي من المحتمل أن تقع تحت عنوانها". وأضاف أن "إنهاء معاناة الشعب والخروج من فكاك السياسة والسياسيين" تستلزم الانسحاب من السياسة. وأعلن وقتها إغلاق جميع المكاتب التابعة للتيار وملحقاتها "على كافة الأصعدة الدينية والاجتماعية والسياسية وغيرها". إلا أن هذا الاعتزال لم يدم طويلا، حتى شارك التيار الصدري في الانتخابات البرلمانية وفاز بنحو 34 مقعدا باسم "كتلة الأحرار". وفي 20 أبريل/نيسان 2016 قرّر الصدر تجميد كتلة "الأحرار" التابعة لتياره في البرلمان، محذرًا من تحول مسار الاعتصامات التي ينفذها أنصاره إلى "وجه آخر" في حال منعها من القوات الأمنية، إلا أنه في أكتوبر/تشرين الأول 2016 أنهى الصدر مقاطعته لاجتماعات التحالف الوطني (أكبر كتلة بالبرلمان) حينها، وقدمت كتلة "الأحرار" مطالب لتنفيذها لضمان عودتهم إلى الاجتماعات من جديد. وفي الرابع من أكتوبر/تشرين الأول 2018 جدّد زعيم التيار الصدري عزمه على الانسحاب من الحياة السياسية والتزم بعدم تقديم تحالف "سائرون" الداعم له أي مرشح للحكومة العراقية. وقال الصدر في بيان "أوعزنا بعدم ترشيح أي وزير لأي وزارة من جهتنا مهما كان".
وفي ديسمبر/كانون الأول 2019، جاء الاعتزال السادس عندما أعلن مكتبه الخاص أنه "وجه بإغلاق كل المؤسسات التابعة للخط الصدري لمدة عام كامل" مستثنيا من ذلك مرقد والده وشقيقيه ومكتبه الخاص. وتبع تلك الإجراءات إغلاق صفحتي محمد صالح العراقي المعروف بـ “وزير الصدر" على تويتر وفيسبوك. وفي 15 يوليو/تموز 2021 أعلن الصدر للمرة السابعة انسحابه من العملية السياسية في العراق والامتناع عن ترشح تياره للانتخابات. وبعد 3 أشهر من إعلان الانسحاب، عاد تياره للترشح مجددًا في الانتخابات البرلمانية محققا نتائج عالية، وفاز بالمركز الاول بحصوله على 73 مقعدًا من أصل 329 مقعد. وبعد فشل الصدر في تشكيل الحكومة وفق ما اسماه بالأغلبية الوطنية، وتدخل المحكمة الاتحادية بشأن المادة الخاصة بانتخاب رئيس جمهورية، أعلن الصدر في 15 يونيو/حزيران 2022 انسحابه من العملية السياسة للمرة الثامنة "احتجاجا على الفساد"، وقال إنه قرر الانسحاب من العملية السياسية وعدم المشاركة في أي انتخابات مقبلة حتى لا يشترك مع الساسة الفاسدين". وفي 29 أغسطس/آب 2022، أعلن السيد مقتدى الصدر اخر اعتزال له عن العمل السياسي بعد ما سُميَّ بأحداث المنطقة الخضراء، قبل أن يقترح في مبادرة جديدة، تنحي جميع الأحزاب السياسية لوضع حد للأزمة في العراق. إذ قرر السيد الصدر "الاعتزال النهائي" هذه المرة، وعدم التدخل في الشؤون السياسية بشكل نهائي وإغلاق المؤسسات التابعة له، باستثناء "المرقد الشريف" و"المتحف الشريف" و"هيئة تراث آل الصدر". وهو الاعتزال الذي ما يزال قائم حتى الآن.
إنَّ المتتبع لكل حالات الاعتزال الصدرية، يجد اغلبها مرادفة أو مصحوبة لحركات احتجاج، سواء كانت كردة فعل على السلوك والاداء الحكومي والتشريعي، أو للتعويض عن اعتزالهم السياسي، فطالما مثلت الاحتجاجات الصدرية الحدث الأبرز والاكثر شراسة ضد كل الحكومات السابقة منذ عام 2015 وحتى الآن، فأن الاحتجاجات الحالية لا تختلف عن سابقتها، بغض النظر عن غايتها سواء كانت دينية أم سياسية "كاحتجاجاتهم على حرق القرآن الكريم وحرق السفارة السويدية في بغداد" أو خدمية "مطالبة بالخدمات العامة". فهي على الاغلب ليس إشارة لعودة الصدريين للعملية السياسية، بقدر ما هي بمثابة شحن للهمم، ولاسيما بعد حالة اليأس التي أصابتهم من انسحاب نوابهم من البرلمان العراقي وغيابهم من مشهد تشكيل الحكومة العراقية الحالية. فهل تشكل الاحتجاجات الحالية عودة التيار الصدري إلى العمل السياسي؟
ربما لم تكن الاحتجاجات الصدرية الحالية المؤشر الوحيد على عودة الصدريين للعمل السياسي، بل هناك مؤشرات سابقة، كان أبرزها "عهد الدم"، الذي طالب به زعيم التيار أنصاره في 29 أبريل (نيسان) الماضي، بتوقيع "عهد" يتضمن البراءة من اصحاب القضية. وكذلك خطبة امام مسجد الكوفة هادي الدنيناوي، الذي قال فيها إن: "الطبقة العليا السياسية التهت بسن القوانين التي تخدم مصالحها الحزبية والفئوية والشخصية... ونحن نعتقد أن سبب هذا كله هو (سكون الحليم) وليس سكوته فـ (آل الصدر) لا يسكتون واحذروا غضبة الحليم إذا غضب". فضلًا عن ذلك، فأن قرب موعد الانتخابات المحلية، قد يكون مؤشر لعودة التيار الصدري للعمل السياسي والدخول في الانتخابات من اجل الحفاظ على طاقة انصارهم من اليأس السياسي "على أقل تقدير"، فالانتخابات والاحتجاجات الحالية، تشكل بوابة مهمة لشحن طاقاتهم بعد حالتي اليأس التي اصابتهم من المقاطعة السياسية الاخيرة والانسحاب من البرلمان. وبغض النظر عن طبيعة العودة وتاريخها، سواء كانت قبل الانتخابات المحلية أو بعدها، فأن السيد الصدر ربما يكون قد أعطى، او يريد أن يعطي الحرية والوقت الكافيين للحكومة الحالية، إذا ما كانت تريد النجاح من عدمه. ولعل عدم تمكن حكومة الإطار التنسيقي برئاسة السيد محمد شياع السوداني من تقديم شيء على مستوى الإصلاح السياسي، ولاسيما في مكافحة الفساد وحصر السلام بيد الدولة والحد من التدخلات الخارجية، فضلًا عن مستوى وطبيعة الخدمات العامة، ربما تعطي الفرصة للتيار الصدري وأنصاره بكسر عزلتهم السياسية والنزول إلى الشارع، متخذين من فشل الحكومة ذريعة لذلك. لهذا فأن كل التقديرات والمؤشرات، تشير إلى أن التحركات الصدرية الأخيرة على المستويين (القيادة والقاعدة الجماهيرية) تمثل بوابة العودة السياسية للتيار الصدري.
اضافةتعليق