يمثل سانت ليغو طوق النجاة بالنسبة لقوى الإطار التنسيقي التي فقدت ثقة بعض جماهيرها، على الرغم من المال السياسي والسلاح والسلطة والإعلام، وغيرها من الادوات التي تمتلكها ومكنتها من ترسيخ نفوذها طيلة العقدين الماضيين؛ لهذا نراها تراجعت كثيراً عن مطالبها السياسية ومرجعيتها الإسلامية، أزاء كل تطور من شأنه يهدد نفوذها السياسي
تعود آلية أو طريقة قانون "سانت ليغو" التي اعتمدتها القوى السياسية في القانون الانتخابي التي ستجري بموجبه الانتخابات المحلية والتشريعية القادمة إلى عالم الرياضيات الفرنسي أندريه سانت ليغو، وهي احدى الآليات المعروفة في توزيع المقاعد للقوائم الانتخابية على الاحزاب السياسية المشاركة في الانتخابات، بهدف توزيع الأصوات على المقاعد الانتخابية في الدوائر متعددة المقاعد، وهي آلية تهدف إلى تقليل العيوب الناجمة عن عدم التماثل في الأصوات وعدد المقاعد. إذ تعتمد صيغة سانت ليغو الاساسية في توزيع المقاعد على حاصل قسمة عدد الأصوات للقائمة الانتخابية على الأرقام الفردية 1، 3، 5، 7، ويكون عدد هذه الأعداد الفردية وفق عدد المقاعد البرلمانية المخصصة لهذه الدائرة الانتخابية. أما آلية "سانت ليغو" المعدلة في العراق فهي صورة معدلة للآلية الاساسية، وتعتمد على تقسيم أصوات القوائم الانتخابية في الدائرة الانتخابية الواحدة على القاسم الانتخابي 7. 1أو 3، 5، 9، مع شرط أن يكون عدد هذه الأرقام الفردية مساويًا لعدد المقاعد البرلمانية، ثم يتم اختيار الأرقام الأكبر الناتجة عن حاصل القسمة لجميع القوائم لتكون بذلك المقاعد البرلمانية للكتل السياسية. والتعديل الأخير الذي اعتمدته القوى السياسية التقليدية واصرت على تمريره في مجلس النواب واعتماده في الانتخابات القادمة، هي صيغة (7,1) على الرغم من جملة الاعتراضات الكبيرة التي رافقت عملية تشريع القانون، سواء تلك التي كانت من داخل مجلس النواب، من قبل بعض النواب المستقلين، أو من جمهور الحركات الناشئة والمنبثقة من حراك تشرين، وخارج مجلس النواب، من قبل الجهات غير السياسية الفاعلة في المشهد السياسي العراقي، كالمرجعية الدينية في النجف الاشرف، التي حثت وطالبت القوى السياسية في السنوات السابقة بشكل متكرر على تشريع قانون انتخابي عادل ومنصف، يضمن حق الجميع في الوصول إلى قبة البرلمان، فضلاً عن موقف التيار الصدري من القانون الانتخابي الحالي. إنَّ العناد السياسي من قبل الإطار التنسيقي في تشريع قانون انتخابي لا يقل أهمية عن موضوع التصويت الدستور أو غيرها من الأمور الفاصلة في عمر العملية السياسية العراقية على مدار العقدين الماضيين، وتقف خلف تشريعه الكثير من الأمور التي لا تتلائم والعملية الديمقراطية أو النظام الديمقراطي.
نعم ربما تكون الطبيعة الديموغرافية والجغرافية لرفض قانون سانت ليغو الانتخابي في اغلبه أو بالمجمل، رفض من بيئة واحدة أو من مكون واحد، على الرغم من الاعتراضات البسيطة التي سجلتها حركة التغيير السياسية الكردية المناوئة لسلطة الحزبين الكرديين (اليكتي والبارتي)، لكن بالمجمل طبيعة الرفض (السياسي والشعبي) كانت منبثقة من البيئة الشيعية، سواء كان من قبل الاحزاب الناشئة او التقليدية، كالتيار الصدري، أو من قبل المرجعية الدينية في السنوات السابقة، ولعل هذا ما يفسر طريقة تعاطي القوى السياسية العراقية مع كل القضايا المصيرية. فالقوى السياسية السنية والكردية قوى براغماتية – انتهازية، تتعامل بطريقة المقايضة الاقتصادية مع القوى السياسية الشيعية، ولعل تحالفها مع التيار الصدري في تحالف (أنقاذ وطن) لم يكن تحالفاً حقيقياً، وربما ارادت من خلاله الوصول إلى ما حصلت عليه اليوم من مكتسبات وتنازلات من قبل قوى الإطار التنسيقي، التي قد لا تحصل عليها في حال بقائها متحالفة مع السيد الصدر أو التيار الصدري، وأن محاصرتها لقوى الإطار التنسيقي من خلال التيار الصدري كان الهدف الاساس من ذلك، ولاسيما مع صلابة وأصولية ومواقف السيد الصدر (المحلية والإقليمية والدولية)؛ لهذا فأن المواقف السياسية الشعبية والجماهيرية (الكردية والسنية) قد لا تكون معنية في القضايا التصحيحية لواقع العملية السياسية ولا يعول عليها في إصلاح النظام السياسي العراقي؛ لكون الاول يفكر بإضعاف سلطة المركز والانفصال ومن مصلحته ان يبقي السلطة المركزية ضعيفة ومشتتة، والثاني غائب تماماً عن المشهد السياسي والاجتماعي، وقد تم اختزاله بالمواقف الحزبية فقط، المنقسمة بين نفوذ تحالف (السيادة) الذي يتشاطره رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي وخميس الخنجر. وإنَّ صراع القوى السياسية والاجتماعية والدينية وغيرها من القوة الاخرى في البيئة الشيعية، مع قوى الإطار التنسيقي، لا يمكن اعتباره صراع نفوذ ومصالح، بقدر ما هو صراع تصحيحي لإدارة الدولة وتقويم للنظام السياسي من خلال الآليات الديمقراطية والدستورية، وأن إصرار الإطار التنسيقي على انتهاج سياسة الاقصاء والتهميش لكل القوى التي لا تضاهيه في المال والسلاح، وابقاءه على قانون انتخابي سيئ، تقف خلفه جملة اعتبارات: يأتي في مقدمتها فرضية صعود المستقلين وتشتيتهم للقرار أو الموقف التشريعي الشيعي المشترك بين القوى التقليدية (التيار والإطار) كتلك المواقف الحاسمة التي يتشاركها الإسلام السياسي الشيعي على مدى العقديين الماضيين، فالقانون الانتخابي الذي يتيح امكانية صعود المستقلين بشكل سلس، بموازاة الرفض الشعبي لأغلب القوى السياسية التقليدية، سيضعها في دائرة الاقلية التشريعية، وهذا ما تعتبره القوى الشيعية الاخرى، تفتيت واضعاف للموقف السياسي الشيعي، الذي يضعف في الاخير المصلحة السياسية الشيعية العليا، وربما هذا ما يفسر صمت الفواعل الدينية على تشريع قانون سانت ليغو الحالي.
كذلك يكرس اعتماد نظام "سانت ليغو" بالاعتماد على القاسم الانتخابي 7.1 هيمنة زعامات السلطة التقليدية "سلطة الإسلام السياسي الشيعي" ويجعلها متحكمة أكثر بالقوائم، الذي يعتمد على توزيع الأصوات داخل القائمة الانتخابية، وليس على الفائز الأعلى، كما يعتمد القانون أن المحافظة هي دائرة انتخابية واحدة، ويلغي عدالة المنافسة في الانتخابات، وستبقى الكتل التقليدية هي المهيمنة، وهي صاحبة الحظ الأوفر للدخول مجدداً إلى قبة البرلمان بشكل دوري، وهذا ما تريده بعض الفواعل الشيعية في القرار السياسي العراقي، ولاسيما بعد تجربة صعود المستقلين وتشتتهم داخل قبة البرلمان. فالقانون الجديد جاء رداً على القانون الانتخابي لعام 2020 ذي الدوائر المتعددة الذي أفقد الزعامات السياسية رمزيتها وسلطتها على النواب وعلى كتلها السياسية. فضلاً عن ذلك فقانون الدوائر المتعددة يطيح بالدكتاتورية الجديدة لزعماء الكتل السياسية؛ الأمر الذي ينشط اداء السلطة التشريعية ويضعها على الطريق الصحيح، لتكون معبرة عن رغبة وإرادة الناخب العراقي بطريقة ديمقراطية حقيقية بعيداً عن سلطة ورغبات وأوهام زعماء الكتل السياسية، التي حرفت اداء السلطة التشريعية ودورها الرقابي، كذلك في ظل هذا القانون، فأن صعود المرشح البديل عن النائب الذي تسلم منصب تنفيذي يكون من صلاحية زعيم الكتلة القائمة السياسية، عكس الانتخاب الفردي، وهذا ما يقلل من حرية الناخبين ويزيد من حرية الاحزاب السياسية، ويقلل من الالتزام الاخلاقي والاحراج السياسي للناخبين اتجاه النائب، وذلك بحكم طبيعة الانتخاب بالقائمة والدائرة الواحدة.
لهذا يمثل سانت ليغو طوق النجاة بالنسبة لقوى الإطار التنسيقي التي فقدت ثقة بعض جماهيرها، على الرغم من المال السياسي والسلاح والسلطة والإعلام، وغيرها من الادوات التي تمتلكها ومكنتها من ترسيخ نفوذها طيلة العقدين الماضيين؛ لهذا نراها تراجعت كثيراً عن مطالبها السياسية ومرجعيتها الإسلامية، أزاء كل تطور من شأنه يهدد نفوذها السياسي.
اضافةتعليق