أن الحسين عليه السلام لم يخرج طالبا لقصور وأموال وسلطات وامتيازات، بل خرج لطلب الاصلاح وتحقيق السعادة والكرامة للبشر كما قدرها لهم خالقهم، لذا أينما تجد الفساد، والظلم، والفقر، والجهل، والعصبية، والجمود الفكري، والتردي في القيم الاجتماعية، والاستئثار بالسلطة والثروة فاعلم ان السيادة في ذلك المكان هي لأعداء الحسين عليه السلام، وأن الحاجة ماسة لاستلهام مبادئ ثورته العظيمة للتخلص من ظلمهم وإقامة دولة العدل
(كل يوم عاشوراء)، (كل أرض كربلاء)، (عزائنا دائم حتى ظهور القائم)، بهذه الشعارات تصدح حناجر الملايين من الشيعة والمحبين للحسين عليه السلام كل عام مع دخول شهري محرم الحرام وصفر من السنة الهجرية، فيهم العراقي والاجنبي، الاسيوي والافريقي والاوربي والامريكي والاسترالي ... ولعل معظمهم يصرخ بهذه الشعارات على الفطرة دون الوعي بمقاصدها العميقة، واشاراتها الرمزية.
ورفع هكذا شعارات بعد أكثر من ألف وثلاثمائة وخمسين عاما على واقعة الطف يثير المراقبين والمهتمين بتحليل هذا الحدث الاجتماعي الكبير، اذ كيف تتسع الجغرافيا لتكون كل الأراضي كربلاء؟ ويتمدد الزمن لتكون كل الأيام عاشوراء؟ ويدوم الحزن بدون انقطاع حتى ظهور المهدي المنتظر (عج) الذي اجمعت كل الروايات والأحاديث انه بظهوره المبارك سيحل العدل في الأرض، ويختفي الظلم والعدوان والفقر والكراهية من على ظهرها؟
ان تمدد القضية الحسينية زمانا ومكانا بهذا الزخم يدل على عمق وثراء ما يرتبط بها من معاني ودلالات، اذ هي ليست مجرد قضية رجل صالح ثار على ظالم زمانه، فتعرض للقتل والتنكيل والابادة الجماعية من السلطة الغاشمة، فصفحات التاريخ مليئة بهكذا رجال صالحين، أمست قصصهم مجرد سرد تاريخي تتناقله الأقلام والروايات وغالبا ما تقترن بالزهو الوطني او القومي لأمة او شعب ما، ولم تستمر قضيتهم حية متمددة في الضمير الإنساني لبشر ينتمون الى جميع قارات العالم. هذا البعد الاجتماعي يعطي طابعا فريدا لما حصل في كربلاء يوم العاشر من محرم الحرام سنة 60 للهجرة، وتتطلب هذه الفرادة البحث بتأمل أكثر عند تحليل ما جرى في ذلك اليوم المشؤوم، لتحديد المبادئ التي حكمت عقلية الطرفين المتحاربين – آنذاك-ومعرفة لماذا لم تتوقف الحرب الى هذا اليوم في العقل الاجتماعي والسياسي المؤمن بهذه القضية؟
في البداية يكمن السر، محمد النبي ليس محمدا فتى قريش
لا يمكن اهمال التاريخ عند متابعة القضية الحسينية، فما حصل يوم العاشر من محرم الحرام سنة 60 للهجرة لم يكن حدثا معزولا عن الاحداث التي سبقته، والمرتبطة بالبدايات الأولى لظهور الإسلام في مكة، ونعني هنا التاريخ الحقيقي المسكوت عنه في الغالب، لا التاريخ المدرسي الرسمي الذي يراد تلقينه، واهمية البحث في التاريخ الحقيقي هو أنه يساعد الباحث على الفهم، فكما يقول المؤرخ (برنارد لويس): أن " المجتمع الذي يهمل تاريخه ويتغذى على تاريخ مُحرف، مجتمع يعاني فقدان الذاكرة أو العُصَاب". (برنارد لويس، الايمان والقوة: الدين والسياسة في الشرق الأوسط، ص177).
وعند الرجوع الى هذا التاريخ الحقيقي تجد أن قريشا ببطونها وبيوتها ورجالاتها كانت تعد من أكبر قبائل العرب وأكثرها شرفا وزهوا بنفسها، وكيف لا وهي تحمي حمى مكة وترفد حجاجها، وتتفاخر على جميع القبائل بنسبها وامجادها ومآثرها وشجاعتها وكرمها. ومن رحم هذه القبيلة المعتزة بنفسها ولد محمد صلى الله عليه وآله، وتربى في احضانها، وعاش آمنا مطمئنا فيها لمدة أربعين سنة، لم تبخل عليه خلالها بالصفات الحميدة التي انطوت عليها شمائله، فكان فيها الصادق الأمين، والطيب الشريف. بل انها لم تتردد في قبول الاحتكام اليه عند اختلاف بطونها في قضية رفع الحجر الأسود الى موضعه عند بناء الكعبة، ووجدت في حكمه درئا لفتنة القوم وقطعا لنزاعهم، وتوقعت له شأنا كبيرا في مستقبل القبيلة يُكمل به سيرة اجداده وابائه: قصي وهاشم وعبد المطلب وأبو طالب وغيرهم.
وربما يكون السؤال المحير الذي يقفز الى الذهن هو: إذا كانت قريشا قد اكرمت محمدا صلى الله عليه وآله بهذا الشكل لأربعين سنة قبل بعثته الشريفة، إذا لماذا انقلبت عليه بشكل وحشي بعد هذه البعثة فلم تقبل قوله، ولم ترع حرمته، واتهمته بكل ما تجود به العقول من تهم وأباطيل، وجندت مالها ورجالها لقتاله؟
قد يزعم البعض ان قريشا انما وقفت بوجه الرسول صلى الله عليه وآله لأنه هدد زعامتها السياسية، ومصالحها الاقتصادية، وما شابه ذلك، وربما يكون بعضا من ذلك صحيحا في جزء من القصة، لكنه لا يروي القصة كاملة، والدليل على ذلك يمكن الوصول اليه من حادثتين ورد ذكرهما في السيرة النبوية لابن هشام اجتمع فيهما وجوه قريش بعد ظهور الدعوة الى الإسلام واتساع تأثيرها في المجتمع المكي:
الحادثة الأولى: في دار ابي طالب
ومختصر هذه الحادثة هي ان مجموعة من اشراف قريش هم عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس ، وأبو سفيان بن حرب ، والأسود بن المطلب بن أسد، وأبو جهل بن هشام بن المغيرة ، والوليد بن المغيرة ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة، والعاص بن وائل ذهبوا الى دار أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وآله، فقالوا له : " يا أبا طالب ان ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه احلامنا، وضلل آبائنا، فإما أن تكفه عنا، واما أن تخلي بيننا وبينه...)، ومع استمرار الدعوة ذهب القوم مرة أخرى الى أبي طالب، فقالوا له: " يا أبا طالب، أن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وانا قد استنهيناك من ابن اخيك فلم تنهه عنا، وانا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه احلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، او ننازله واياك في ذلك حتى يهلك أحد الطرفين.." . وعندما أخبر أبو طالب الرسول صلى الله عليه واله بما قاله القوم رد عليه: " يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على ان اترك هذا الامر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته". (السيرة النبوية لابن هشام، المجلد الأول والثاني، ص 170-171).
الحادثة الثانية: عند ظهر الكعبة
في هذه الحادثة أيضا اجتمع عند ظهر الكعبة وجوه قريش وكبارها ، وهم عتبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث بن كلدة، والأسود بن المطلب بن أسد، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وعبد الله بن أمية، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة، وأمية بن خلف، وغيرهم، فارسلوا الى الرسول صلى الله عليه وآله ليحاوروه، وعندما جاء الرسول قالوا له: " يا محمد، انا قد بعثنا اليك لنكلمك، وانا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الاحلام، وفرقت الجماعة... فان كنت انما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وان كنت انما تطلب به الشرف فينا، فنحن نسودك علينا، وان كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وان كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك – وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا- فربما كان ذلك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نُعذر فيك. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله: ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني اليكم رسولا، وانزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فان تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وان تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم بيني وبينكم" (سيرة ابن هشام، المجلد الأول والثاني، ص 188-189).
وعند تحليل ما ورد في الحادثتين من حوار بين اشراف قريش من جهة، والرسول صلى الله عليه وآله من جهة أخرى، يتضح ان السيادة والمال والشرف لم تكن هي العقبات التي وقفت بين قريش والرسول، بل على العكس كانت قريش بشيوخها وبطونها مستعدة لبذل كل ذلك للرسول لو أراد، شرط امتثاله لعصبيتها، وقيمها، وعقليتها، ونظامها الاقتصادي، ومعتقداتها السائدة.
لقد كانت قريش تريد محمدا فتاها المجسد لكيانها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي بما هو قائم عليه، لتطيعه بكل شيء وتعطيه كل ما يتمنى ويريد، ولتفخر به بهذه الطريقة، ولكنها لم تكن تريد محمدا النبي الذي يأتي حاملا رسالة السماء بالإصلاح الإنساني، فهي لم تكن مستعدة لتسمع ان هذا النبي جاء: {...يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويُحل لهم الطيبات ويُحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم أصرهم والاغلال التي كانت عليهم ...} (سورة الأعراف – آية 157)، او تسمع: {قل يا أيها الناس اني رسول ُ الله اليكم جميعا...} (سورة الأعراف – آية 158)، أو تسمع: {وما أرسلناك الا رحمة للعالمين} (سورة الأنبياء-آية 107)، أو تسمع: {وما أرسلناك الا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (سورة سبأ –آية 28).
ارادت قريش زعيما قبليا يحترم عاداتها وتقاليدها وانماط حياتها لتفاخر به قبائل العرب الاخرى، وان تبقى أسيرة جمودها الفكري والثقافي الذي اباح لها قتل الأبناء، وعبادة الحجارة الصماء، واراقة الدماء، واستعباد النساء، وجعل الناس اسيادا وعبيدا في مجتمع يبتدع الضلالات، ولم تكن تريد زعيما إنسانيا يؤسس لوحدة جديدة بين البشر تهدم الفوارق بينهم، وتنسف أسس الكراهية والفقر والجور من اجل تحقيق العدالة الاجتماعية، والتحرر الفكري، والسياسي.
ولكن بؤس الوضع الاجتماعي الذي لم تعد أنماط حياة القبيلة قادرة على الحفاظ عليه جعل قريشا، وعلى الرغم من كل مقاومتها المستميتة بوجه دعوة الرسول تخسر امامها في النهاية ، فتسود الدعوة وتذعن القبيلة صاغرة لها، ولكنها فهمت الأمر على أنه خسارة لمعركة واحدة وليس خسارة للحرب، لأن دعوة النبوة الإصلاحية استطاعت تحقيق السيطرة الثقافية الفوقية على المجتمع المكي القبلي، لكنها لم تحقق الهيمنة الثقافية العميقة التي تحوله بشكل شامل لينسجم مع مبادئها وأطروحاتها، فبقيت قيم ومصالح وصراعات وعقلية القبيلة متغلغلة في أعماق النفوس، شبيهة بما نسميه اليوم في الادب السياسي المعاصر الدولة العميقة التي يتحين رجالاتها الفرصة للانقضاض على الوضع الجديد بهدف تغييره. الا أن وجود الرسول صلى الله عليه وآله كمصدر لمشروعية النظام الجديد القائم لم تسمح لسلطة القبيلة العميقة بإظهار اطماعها وطموحاتها بعد ان لبست لباس الإسلام فلم تعد قادرة على نزعه لمصلحة لباس القبيلة، لكن الغياب السريع للرسول من المشهد السياسي في السنة العاشرة للهجرة، سمح لهذه السلطة بالانقضاض على الإسلام النبوي، لتؤسس اسلاما قبليا أولا، وقوميا فيما بعد، فلبست الدولة لباس الإسلام، لكنها في اعماقها تحمل روح القبيلة وقيمها وصراعاتها ومصالحها، لذا ليس غريبا ان تجدها تفخر في شعاراتها السياسية بمحمد صلى الله عليه وآله، الا انها لا تفخر بمحمد النبي انما بمحمد فتى قريش، ومحمد فتى العرب، ولم يعد الإسلام في ظلها دينا إنسانيا، بل صار دينا قوميا، وستكون معظم فتوحاته فتوحات قومية همها جمع الغنائم قبل ان تكون فتوحات إنسانية دينية تهدف الى تحرير البشر، وستجد هذه العقلية هي العقلية الحاكمة في الدولة الاموية ومن بعدها الدولة العباسية وغيرها من الدول التي جعلت الرسول والرسالة مجرد مصدرا من مصادر التعبير عن العصبية ، وكسب الشرعية والمشروعية للسلطة السياسية القائمة، ناهيك عن تبرير التخلف والجمود الفكري والظلم الاجتماعي والاقتصادي.
ان القبيلة التي اجهضت تجربة النبوة بعد أن لبست لباس الإسلام، وواجهت كل المحاولات الإصلاحية التي سعت الى إعادة العمل بمنهاج النبوة هي نفسها التي ستواجه الحسين عليه السلام فيما بعد لتخيره بين أن يكون فتاها فينعم بالعافية والغنى والشرف او يكون امتدادا للنبوة فيواجه القتل والسبي والتشهير.
حسين النبوة محكوم عليه بالقتل
انتصر محمد النبي في معركته مع قريش عندما أرغمها على قبول الدين الجديد، ولكن هذا الانتصار كان تكتيكيا مؤقتا كما أسلفنا، فالحرب لم تنته بين الطرفين، والقبيلة التي رفضت محمدا في حياته وأرُغمت على قبول نبوته مكرهة، واستعادت فتاها بعد وفاته، ووظفت دينه بطريقة عملية تحقق مصالحها أكثر من عبادة الاصنام الغابرة، أصبحت أكثر قوة وعنفا وذكاء.
وفي ظل هذا المناخ سيبرز الحسين عليه السلام محاولا مواجهة تيار القبيلة الجارف، من اجل استعادة قيم النبوة من جديد، وهذا ما ظهر جليا في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية التي جاء فيها: " وأني لم أخرج أشرا، ولا بطرا، ولا ظالما، وانما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله وسلم. أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا، اصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم، وهو خير الحاكمين" (عبد الكريم الحسيني القزويني، الوثائق الرسمية لثورة الامام الحسين عليه السلام، ص 59).
وهذه الوصية انما تعكس مقدار التشابه بين توجه الحسين عليه السلام، ورد جده رسول الله صلى الله عليه وآله على أشراف قريش في الحادثة الثانية المذكورة أعلاه. نعم اراد الحسين عليه السلام استعادة المنهج الصحيح لنبوة جده، ذلك المنهج الذي تعرض للتشويه والتحريف من دولة القبيلة الحاكمة. والذي سعى حاكمها بعد سنة 57 هجرية الى جعل ولده الفاسد وغير الكفوء وريثا لعرشها، فأرسل الرسائل لمعظم وجوه القوم يدعوهم فيها الى الإذعان لرغبته المعلنة، ومن هؤلاء الحسين عليه السلام، الذي وردته رسائل عدة من معاوية بن ابي سفيان طالبه فيها بطاعة أمره في تولي يزيد خلافة المسلمين، ومخيرا له بين القبول فيكون نصيبه الخير والشرف والقربى أو الرفض فيكون جزاءه القتل والتنكيل والعذاب، وهو تخيير بين ان يكون فتى دولة – القبيلة او يكون سبط النبي الأمين على منهاجه، ومثل الحسين عليه السلام لن يختار الا الخيار الأخير.
وعند التدقيق والتحقق من ردود الحسين عليه السلام على هذه الرسائل، وما جاء في خطبه ومواعظه التي سبقت استشهاده ستجد ان الأمور التي أنكرها على نظام السلطة القائمة، وخرج لإصلاحها تتمثل في:
- تشويه صورة الدين الاسلامي وتحويله من دين رحمة هدفه وحدة وسعادة ورفاه وحرية الإنسانية الى دين للاسترزاق والتوظيف السياسي القبلي والقومي الرخيص.
- استناد حكم الدولة الى القوة والظلم بعيدا عن أي ناموس سماوي أو بشري عادل.
- استباحة السلطة لدماء الناس وأموالهم.
- إشاعة مشاعر الكراهية والخوف بين الناس من خلال اخذهم بالشبهة، وتفريق جماعتهم بتسليط بعضهم على بعض.
- تولية الظالمين (زياد بن عبيد الله وأمثاله) وابعاد أهل الكفاءة والعدل عن أي منصب.
- توريث السلطة للفاسدين على خلاف نصوص الشرع.
- خيانة الأمانة ممن تحمل المسؤولية.
- فردية السلطة وعدم قبولها الرأي الآخر.
- نشر الرذيلة والجهل والقيم الهدامة في المجتمع.
هذه المفاسد التي استندت اليها دولة القبيلة الحاكمة، تبدو مآسيها وشرورها غير مقتصرة على هذه الدولة فحسب، بل تشمل كل دولة فاسدة شبيهة بها في كل زمان ومكان، ولكن طالما نتحدث عن الزمن الذي عاش فيه الحسين عليه السلام نقول: انه لم يكن أمام هذا المصلح العظيم من خيار الا ان يقف بوجه هكذا حكم فاسد، ولكنه لن ينتصر في هذه المواجهة عسكريا كما فعل جده صلى الله عليه وآله من قبل، لأن الواقع الجديد الذي أصبحت عليه سلطة القبيلة اختلف تماما، فقد تحولت القبيلة الى دولة، وهذه الدولة صارت مزهوة بغزواتها وفتوحاتها، ومجتمعها في معظمه مفتون بها وغير مدرك للمخاطر المستقبلية التي تنتظره بسبب منهج حكمها المعوج، فكانت النتيجة الإبادة الجماعية للحسين عليه السلام واهل بيته واصحابه، والاستباحة المطلقة لحرماتهم.
لقد انتصرت يوم عاشوراء دولة القبيلة عسكريا على الحسين عليه السلام، لكنها لم تستطع الانتصار على المبادئ التي مثلها، والقيم التي دافع عنها، والمفاسد التي أنكرها، لأن هذه المبادئ والقيم والمفاسد المنكرة لم تكن مطلب شخص واحد او امة بعينها، فمحاسبة الظالمين، والعيش بعدالة، وحرية، وكرامة، وسعادة، وأمان، واستقرار، هي حاجات إنسانية شاملة، بل أن كل الفلسفة الإنسانية على اختلاف مصادرها ومشاربها انما تتمحور حول الوصول اليها، لذا ستجد حيثما كان هناك ظلم، وفساد، وامتهان لكرامة الانسان، وتطلع الى العيش بحرية هناك حاجة الى محمد النبي وحسين النبوة.
ان استمرار حالة الظلم، وعدم بلوغ الانسان غاية سعادته في التخلص من ظالميه هو الذي يجعل القضية الحسينية مستمرة في الوجدان والضمير الإنساني، وهؤلاء الذين ينادون (كل يوم عاشوراء، وكل أرض كربلاء، وعزائنا دائم حتى ظهور القائم) لا يعيشون خارج التاريخ، ولا يرتبطون عاطفيا فقط بما حصل قبل مئات السنين، انما هم يرفعون صرخة احتجاج مدوية بوجه نظام الحياة الذي يعيشون فيه اليوم، ذلك النظام المليء بالظلم، والبعيد عن المساواة، والمتعدي على جميع الحقوق، انهم يعلنون حاجتهم الى أمثال الحسين لإصلاح حالهم اليوم وغدا، وهذا دليل على رفضهم للظلم من جهة، وتطلعهم الى اليوم الذي يحاسب فيه الظالمين على جرائمهم من جهة أخرى.
أعداء الحسين في الوقت الحاضر
إذا أردنا تحديد أعداء الحسين عليه السلام في زمننا الذي نعيش فيه، والذين يتوفر لديهم الاستعداد الكامل لإعلان الحرب عليه لو ظهر هو بنفسه الشريفة أو أمثاله من الصالحين السائرين على دربه في رفع راية الإصلاح في حياة البشر، لوجدنا أن قائمة هؤلاء ستضم ما يأتي:
- المتطرفون والمتعصبون من كل الأديان والطوائف والقوميات والمرجعيات الفكرية.
- الخائنون للأمانة من الناس ابتداء ممن خان أمانة إدارة أسرته وصولا الى من خان أمانة حكم دولته.
- الفاسدون على اختلاف مسمياتهم ومستوياتهم، ومهما كانت ادواتهم.
- المتاجرون بالأديان والمقدسات لخدمة مصالحهم على حساب مصالح عامة الناس.
- المستبدون والطغاة المستبيحون لدماء الناس وأموالهم، والمنتهكون لحقوقهم وحرياتهم.
- المدافعون عن الجمود الفكري والاجتماعي، والكارهون للتغيير حتى لو كان إيجابيا.
- العلماء غير العاملين الساكتين على الظلم في وقت حاجة الناس إليهم.
- انصاف المتعلمين من أهل البدع والضلالة.
- الداعمون للظلم من الجهلة والحمقى.
- أصحاب المصالح المستأثرون بالثروات العامة.
- كل من يدخل التعاسة على حياة البشر، ويحرمهم من السعادة التي أرادها الله لهم، بصرف النظر عن دينه وطائفته وانتمائه الفكري والقومي والجغرافي.
وهذه القائمة الطويلة العريضة تدل على ضخامة الحرب المستعرة بين يقف في صف الحسين عليه السلام ومن يقف في صف اعداءه، كما تدل على الحاجة الى تجنب أي خطأ في التقديرات، لأن الخطأ نتائجه خطيرة جدا، وتقود الى تخلف وتأخر في بناء الانسان والدول قد يستمر لقرون طويلة.
ومع استمرار الحاجة الى مبادئ الاصلاح الحسينية في حياتنا المعاصرة، تبرز الخشية من ارتباك الوعي عند بعض الناس، فيغفلون أو يتجاهلون عن حسين المبدأ والقضية ويتعلقون بشكل أعمى بالحسين فتى القبيلة، وهذا خلل جسيم يُرتكب بحق هذه القضية الإنسانية الكبيرة. ولتلافي حصول مثل هذا الخطأ الفادح لابد من الايمان بحقيقة مهمة مفادها: أن الحسين عليه السلام لم يخرج طالبا لقصور وأموال وسلطات وامتيازات، بل خرج لطلب الاصلاح وتحقيق السعادة والكرامة للبشر كما قدرها لهم خالقهم، لذا أينما تجد الفساد، والظلم، والفقر، والجهل، والعصبية، والجمود الفكري، والتردي في القيم الاجتماعية، والاستئثار بالسلطة والثروة فاعلم ان السيادة في ذلك المكان هي لأعداء الحسين عليه السلام، وأن الحاجة ماسة لاستلهام مبادئ ثورته العظيمة للتخلص من ظلمهم وإقامة دولة العدل.
اضافةتعليق