لقد كانت محادثات "صعبة ومعقدة"، بهذه الكلمات وصف حسين أمير عبد اللهيان وزير الخارجية الإيراني مفاوضات بلاده مع المملكة العربية السعودية، التي توصل فيها الطرفان يوم الجمعة الماضية في بكين الى توقيع اتفاق يسمح بعودة العلاقات بينهما بعد ستة سنوات من القطيعة والصراع.
وليس غريبا أن يعطي هذا الاتفاق دفعة قوية لإرساء السلام والاستقرار لا في العلاقات السعودية-الإيرانية فحسب، وانما في منطقة الشرق الأوسط برمتها، إذا عرفنا ان ما جعل المفاوضات "صعبة ومعقدة" خلال السنتين الأخيرتين من جولات التفاوض التي جرت بوساطة عراقية-عمانية هو رغبة الرياض الواضحة في عدم حصرها بعودة العلاقات الدبلوماسية مع طهران، وحرصها على ربطها باتفاق شامل للسلام في المنطقة، لاسيما في الملفات الحساسة التي تمارس فيها الأخيرة نفوذا مؤثرا كاليمن والعراق وسوريا ولبنان وغيرها. ولذا لم يقتصر اعلان بكين على الحديث عن التطبيع وعودة العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين، وانما تضمن الإشارة الى ضرورة الالتزام بـ" الاحترام المتبادل بين البلدين، والالتزام بحسن الجوار، واحترام السيادة الوطنية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية أو التأثير عليها".
هذه الابعاد الشاملة للاتفاق ، جعلت الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي يقول بعد التوقيع عليه:" يجمع دول المنطقة مصير واحد، وقواسم مشتركة، تجعل من الضرورة أن نتشارك سويا لبناء انموذج للازدهار والاستقرار لتنعم به شعوبنا"، ولا يذهب بعيدا عن هذا الرأي اللواء يحيى الصفوي المستشار العسكري للمرشد الأعلى في ايران، عندما يقول: " ما سنشهده في المستقبل في المنطقة سيكون مختلفا عما حدث حتى الان، ومن المهم أن نتحلى بالعقلانية عند النظر الى الاتفاق بين ايران والسعودية، ومن مصلحة المنطقة، وكلا الجانبين السعودي والإيراني أن يهتما بالصداقة والعقلانية على المدى الطويل".
إذا، نحن لسنا امام تحول في علاقات بلدين متخاصمين ومتصارعين لوقت طويل، وانما امام لحظة مفصلية وتحول واضح المعالم في علاقات وسياسات دول المنطقة، ولذا تجد اغلب الدول العربية رحبت بهذا الاتفاق، وعدته طيا لصفحة وبداية لصفحة مختلفة. فضلا على ذلك، يعكس الاتفاق تحولا لا يمكن انكاره في لغة الخطاب السياسي الخارجي الذي سيمهد للمرحلة الجديدة.
وكما يقال، فان الاقوال لوحدها غير كافية، والمواقف المتقلبة والآنية لن تسمح بتجاوز أرث ثقيل تركته عقود طويلة من التنافر والعداء المتبادل بين إيران وجيرانها العرب، فالسلام الشامل والحقيقي بين الطرفين سيتطلب الكثير من الجدية والاستعداد للبرهنة عليه في مختلف المجالات، وسيكون اختبار ذلك إيرانيا من خلال:
1- تخلي طهران عن استعمال البعد الديني-المذهبي كمنطلق لبناء ثوابت سياستها الخارجية، مما يعني بلا شك مغادرة شعارات تصدير الثورة، وتهديد الأنظمة الحاكمة المجاورة واتهامها بالشيطنة والسقوط وما شابه ذلك، وابداء الاستعداد الكامل للتعامل معها بمنطق الدولة الحديثة وما تقتضيه من شروط في بنيتها المؤسساتية الدستورية وعلاقاتها الخارجية المبنية على الندية والاحترام المتبادل، وقبول خيارات الاخر التي لا تلحق ضررا بالمصالح الإيرانية بصرف النظر عن الاتفاق او عدم الاتفاق معها، ولذا تجد أن تكرار كلمات الاحترام والالتزام المتبادل في اعلان بكين ما هو الا إشارة مقصودة لما يقتضيه السلام عربيا مع ايران.
2-الامتناع عن جعل البلدان العربية ساحة لتصفية حسابات طهران مع خصومها الدوليين، لا سيما واشنطن وتل أبيب، فتهديد العرب بالعقاب الإيراني في حال تعرض الأخيرة لعدوان امريكي –إسرائيلي ما هو الا سياسة إيرانية غير حكيمة، وتكرار لا يغتفر لأخطاء الماضي، اذ ليس من المنطق ان تقوم السياسة الخارجية الإيرانية بهذا الفعل، عندما لا يكون جيرانها جزء من أي عملية عدوان عليها، بل على العكس تسبب هذا الخطاب والخوف من الاعتداء الإيراني بمزيد من الارتماء العربي في أحضان أمريكا وإسرائيل. وعليه إذا ارادت إيران بدأ صفحة جديدة من علاقاتها مع البلدان العربية، فهي مطالبة بإرسال رسائل اطمئنان وعدم قلق بالاعتداء عليهم من جارتهم الشرقية، ولا مانع من استثمار علاقاتهم الجيدة مع المعسكر المعادي لإيران في تجنب حصول أي عمل عدائي ضدها أو تلافي اضراره في حال حصوله.
3- لا توجد دولة ذات سيادة تقبل ان تعمل على أراضيها مليشيات او فصائل او أحزاب تابعة لدولة أخرى، فهذا العمل في منطق العلاقات الدولية يعني جرحا في سيادة الدولة، وايجادا متعمدا لدويلات داخلها تهدد مصالحها، وتضعف سلطتها وقرارها، وقد شهدنا في المرحلة السابقة تورط إيراني في انتاج مثل هذه الجماعات، في دول عدة، مما اثار - ولا زال- حفيظة ليس فقط الأنظمة الحاكمة، بل ومشاعر معظم الشعوب العربية، حتى وصفها البعض بأنها شكل جديد من أشكال الهيمنة والاخضاع لمصلحة طهران، فخسرت الأخيرة بسببها الكثير من جاذبيتها وقبولها لدى جيرانها، وتحملت –أيضا-تكاليفا باهضة لا مبرر لها نتيجة ما تقدمه من دعم واسناد بشري ومالي للموالين لها. واليوم إذا ارادت طهران استعادة ثقة جوارها العربي، فستكون مطالبة بان تصبح شريكة فاعلة في بناء الدول المجاورة لها، لا أداة من أدوات تهديمها وتحطيمها، ويبدو انها تفهم ذلك تماما، وربما تكون دعوة اللواء صفوي المطالبة بـ "العقلانية" في النظر الى الاتفاق مع السعودية موجهة بالدرجة الأساس الى من يعدون أنفسهم موالين لإيران، أكثر مما هي موجهة الى خصومها، وإذا ما سارت إيران في هذا الطريق فستكون قد خطت خطوات مهمة لاستعادة الثقة وزيادة التأثير الإيجابي لها داخل الأنظمة والشعوب العربية على حد سواء.
4-تحقيق الاستقرار والسلام في المنطقة بحاجة الى ان تلعب إيران فيه دور صانعة السلام لحل المشاكل المستعصية، وتصفير القضايا الحساسة، فالمنطقة ومنذ أكثر من أربعة عقود وهي تعيش في دوامة من الازمات المعقدة والمتزايدة، وغالبا من كان الصراع الإيراني-العربي سببا من أسباب استمرار الكثير منها، وجاء الربيع العربي لزيادة الطين بلة، فخلط الأوراق وزاد مستوى المواجهة بين الأطراف الإقليمية الرئيسة. ان ممارسة إيران دورا إيجابيا وفاعلا في حلحلة هذه الازمات سيعطيها ميزة جيدة، وفي الوقت المناسب، وسيفتح لها الأبواب الى مزيد من التعاون والشراكة الإقليمية التي يمكن ان تعود بالنفع على الجميع.
أما على الجانب العربي، فان نجاح السلام مع إيران سيقتضي:
1-مغادرة كل اشكال الخطاب العدائي الموجه لها، سواء كان رسميا ام غير رسمي، فليس من المعقول ان تبني سلاما مع دولة ما، في الوقت الذي تمارس بحق نظامها وتاريخها وشعبها وثقافتها شتى أساليب التسقيط والسخرية والعداء الصريح. ان من يريد سلاما حقيقيا، عليه انتهاج خطاب معتدل يبعث برسائل إيجابية تدعم الالتزام والاحترام المتبادل.
2-عدم انخراط العرب في أي توجه عدائي امريكي-إسرائيلي يهدد طهران، والامتناع التام عن جعل أراضيهم منطلقا للعدوان عليها في المستقبل، فالتورط العربي في الاجندات الامريكية والغربية المعادية لإيران يعطي الاخيرة الحق في وضع من يقدم عليه في خانة اعدائها، وهذا سيعني نسف جهود السلام جملة وتفصيلا.
3-من المفيد للغاية العمل على بناء نظام إقليمي للأمن والتعاون في الشرق الأوسط، يشمل العرب وجيرانهم غير العرب، فمثل هذه الخطوة ستسهم في زيادة مستوى الالتزام لجميع الأطراف وستنعكس نتائجه الإيجابية على الجميع.
فضلا على ما تقدم، فان ايران والعرب مطالبين بمزيد من الشراكات الاقتصادية المبنية على قاعدة استثمار الفرص المتاحة والمصالح المتبادلة، وهذا أمر لا يمكن التغاضي عنه، فالتعاون الاقتصادي في العلاقات الدولية المعاصرة صار وسيلة من الوسائل الناجعة لتحقيق التقارب بين الحكومات والشعوب، وابعادها عن الصراعات والحروب، وهذا سيتطلب فهما اكثر من قبل ايران وجيرانها للعمل عليه بصورة أوسع في المستقبل، وعليهم الاقتداء بالصين في هذا الموضوع، وكلما كانت الشراكات الاقتصادية ذات طابع استراتيجي يسهم في تحقيق التكامل ويحفظ مصالح الاطراف الداخلة فيه، كلما زادت مكانتهم في المحيط الإقليمي والدولي.
أخيرا، لابد من القول: ان بناء السلام والاستقرار لن يكون سهلا امام إيران والبلدان العربية، لكنه ليس مستحيلا، الا انه سيتطلب عملا طويلا يجري فيه اختبار جدية كافة الأطراف واستعدادهم للقيام بما هو مطلوب منهم خلال الأشهر والسنوات القادمة.