لعل أبرز ما يميز الساحة السياسية العراقية في السنوات الاخيرة، هو وجود الحركة الصدرية وحركة تشرين التي انبثقت بعد احتجاجات تشرين 2019، وان أي قراءة لهاتين الحركتين، ولاسيما السياسية منها، قد يضعنها امام مشاهد متقاربة على الرغم من الاختلاف الكبيرة بينهما على مستوى (القيادة والانتماء والارتباطات السياسية والدينية).
فالأولى تعود اصولها إلى للمرجع الديني السيد محمد محمد صادق الصدر، وحركته الاحتجاجية – التوعوية ضد النظام السياسي السابق، التي بدأها في تسعينيات القرن الماضي في البيئة الشيعية، ولاسيما في المناطق الشعبية الفقيرة، وهي ذات الجماهير التي اكتسبها السيد مقتدى الصدر بعد عام 2003، التي ازدادت توهجاً بعد الحرب التي اعلنها الاخير ضد القوات الامريكية المحتلة والحرب الطائفية ومعارضته للعملية السياسية، فضلاً عن احتجاجه الدائم على السلوك السياسي للحكومات العراقية، ولاسيما حكومتي السيد المالكي أنذاك وحكومة السيد العبادي، على الرغم من دوره الكبير في تنصيبهم كرؤساء وزراء. فمنذ العام 2003 ومع بدايات انخراط التيار الصدري وزعيمه السيد مقتدى الصدر في النظام الجديد كجماعة سياسية بشكل تدريجي، كانت استراتيجيته تعتمد غالباً على المناورة بورقتي الوجود السياسي الممثل بذراعه البرلماني التي اتخذت مساراً تصاعدياً من حيث القوة والحجم، ووجوده في الشارع الممثل بذراعه الجماهيري الضخم. وهذه الاستراتيجية شكلت مع الوقت صورة التيار الصدري المعتادة ككيان سياسي يمارس دوراً مزدوجاً بوضعه قدماً في السياسة، وما يترتب عليها من مشاركة في الحكومات المتعاقبة، وقدماً أخرى في المعارضة الشعبية لذات الحكومات عبر تنظيم فعاليات احتجاجية تبلورت بشكل ممنهج بعد العام 2015 ومشاركته "القوى المدنية" لساحات الاحتجاج في الموجات اللاحقة وصولاً لموجة احتجاجات تشرين 2019. فضلاً عن ذلك، فان التيار الصدري يعتبر اكثر تيارات الإسلام السياسي مناورة وقبول للتيارات المدنية والشيوعية، وهذا ما تكلل بالتحالف بينهما في انتخابات عام 2018 في كتلة سائرون.
أما الثانية، فقد تعود اصولها إلى الحركة الاحتجاجية "الشعبوية" التي انطلقت نهاية العام 2019 ضد حكومة رئيس الوزراء السيد عادل عبد المهدي وما نتج عنها – وكل الحكومات المتلاحقة – من فساد وقتل وتهجير وتغييب للقانون والدستور ولمعالم الدولة وقيمها السياسية، التي اصبحت من أسوء دول العالم على كافة المستويات.
إن ما يجمع بين تشرين والصدريين أكثر مما يفرق بينهما، فكلاهما ينتميان إلى الحركات السياسية الوطنية التي انبثقت من الداخل العراقي ومن معاناة المجتمع العراقي جراء الحكومات المتعاقبة، وان خطابهما السياسي متقارب جداً، ولعل الكثير من التشارنة هم صدريون في الانتماء، وكلاهما ينتميان إلى مدرسة الاحتجاجات الشعبوية في مطالبها السياسية، كتلك التي تريد اقصاء القوى السياسية التقليدية عن إدارة الدولة وابعاد شبح التدخلات الخارجية التي اضرت بالدولة العراقية على كافة مستوياتها وما ترتب عليها من تداعيات، وان الاختلاف يكاد يكون محصور في محورين، احدهما ثابت، وهو القيادة القوية والطاعة العمياء والمنظمة، التي يدين بها اتباع التيار الصدري لزعيمهم السيد مقتدى الصدر، وهو ما تفتقده تشرين كحركة سياسية ناشئة، التي تشتتت بين عدة انتماءات، والاخر متغير، يتمثل في انقلاب الصدريين على ساحات الاحتجاج وتورطهم بسلسلة من الاعتداءات على المحتجين، من بينها مثلاً اقتحام أصحاب القبعات الزرق موقع الاعتصام في محافظة النجف، والاصطدام بالمتظاهرين مع استخدام السلاح وحرق خيام المعتصمين، وهي المرحلة التي ما تزال تعيق التقارب بين الطرفين، على الرغم من كل المشتركات التي تجمعهما، إلا أن مع كل ذلك، فقد حافظ الصدريين على باب العودة والتحالف مع تشرين، ولاسيما بعد ان فشل مشروعهم السياسي المتمثل بالأغلبية الوطنية وانسحاب نوابهم من مجلس النواب العراقي. لهذا يتسائل الكثيرون عن فرضيات اعادة احياء التحالف بين التيار الصدري وتشرين مرة اخرى وتحقيق التقارب الذي يمكنهم من مسك ساحة الاحتجاج بقوة ضد القوى السياسية المناوئة لهم وتحقيق ما يسعون له من دولة مدنية وانفاذ سلطة القانون على الجميع.
طالما كان الهدف السياسي الذي يحرك تشرين، يتماشى ويتماهى مع ما يسعى له التيار الصدري منذ عام 2015 وحتى الآن، فان فرضية التوافق بينهما تبقى قائمة، وهناك الكثير من الذي ينتمون لتشرين قد انظموا إلى تظاهرات واعتصام الصدريين الاخير في ما سمي بثورة عاشوراء، وكذلك الكثير من الصدريين قد انتفضوا وانظموا لانتفاضة تشرين منذ بداية انطلاقها، قبل ان يتغير تكيتك السيد الصدر اتجاه المتظاهرين بعد حادثة المطار ومقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني ورئيس هيئة الحشد الشعبي ابو مهدي المهندس، تلك الحادثة التي غيرت طريقة تعاطي زعيم التيار الصدري مع متظاهري تشرين. فهناك من يرى بأن تشرين لا خيار لها سواء ان تدير ظهرها للماضي وان تفتح صفحة جديدة أو تكتيك جديد مع التيار الصدري من اجل تحقيق استراتيجيتها السياسية أو هدفها السياسي، كما يقول الباحث منقذ داغر "لا خيار أمام قوى تشرين من جهة والتيار الصدري من جهة أخرى، إلا أن يعيدوا تحالفهم ويشكلون جبهة قوية تواجه جماعة الإطار والمتحالفين معه، إذ لا يمكن لهذا الموضوع أن يتم إذا نزلوا إلى الساحة لحالهم، وهذه هي الاستراتيجية التي تعمل عليها القوى المضادة لتشرين أي أن تجعلهم متفرقين من جهة وتجعلهم بعيدين عن التيار الصدري"، فتشرين ليس قوية سياسياً ولا جماهيرياً، بدون التيار الصدري، عكس الاخير، الذي يبدو قوياً، لكنه بحاجة إلى الزخم الجماهيري من غير انصاره، فالتيار الصدري هو الوحيد القادر على اسناد تشرين والوقوف بوجه القوى السياسية المناوئة لهم من الناحية السياسية والعسكرية واللوجستية اذا ما قررا النزول إلى الشارع مجتمعين.
قوى تشرين عليها ان تتخلى عن شعبويتها اتجاه الاخرين، وتقوض من خطوطها الحمراء، وان تحدد خيارتها السياسية وتتحالف مع احد الاطراف السياسية الذي يتشارك معها في الاهداف والاستراتيجيات، او ذلك الذي يمكنها من تحقيق مبتغاها السياسي انطلاقاً من مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" وان لا يقفوا كثيراً عند حدود او مواقف معنية. فباستطاعتهم ان يملوا تحالفهم مع الصدريين بإخذ ضمانات متبادلة وان يبنى التحالف على اسس واضحة تفند مخاوف التشرينيين المستقبلية، سواء بفتح ملف قتلة المتظاهرين او بخارطة الطريق مستقبلية واضحة، وعليهم ان يفرقوا بين السياسة كفن الواقع او الممكن وبين الطموح، فالسياسة لا تعترف بالطموح فقط، وانما تنظر إلى المساحات والاوزان والواقع، وهذا ما يفرض على الطرفين التحالف، ولاسيما التشرينيين اذا ما ارادوا تحقيق مشروعهم السياسي الطامح؛ لأن الصدريين ربما يكونوا قادرين على حماية انفسهم من بطش السلطة والاحزاب والفصائل المسلحة اذا ما قرروا النزول إلى الشارع، على عكس تشرين، فهي مكشوفة الظهر للسلطة والاحزاب والمندسين. فضلاً عن ذلك، فانهم يتشاطرون نفس الاهداف، ولاسيما تلك التي تسعى إلى تقوية الدولة ووقف التدخلات الخارجية وانفاذ سلطة القانون ومكافحة الفساد بكل صوره السياسية والادارية واقامة العلاقات الخارجية المتوازنة مع الجميع، وهذه المشتركات "يفترض" أن تكون كفيلة بتحقيق التقارب والتحالف فيما بينهم، طالما يتشاركون بنفس المشتركات، وبغض النظر عن بعض سلوكيات التيار الصدري السياسية والاتهامات التي تطاله بمشاركته القوى السياسية الاخرى فيما وصلت له الدولة العراقية من انهيار سياسي، الا أن التحالف بين تشرين والصدريين قد يكون مرهون بقيادة التيار وما تبتغيه من إصلاح حقيقي، بعيداً عن اذرع التيار الصدري السياسية.