الفشل السياسي مظهر لافتقار النسق الكلي الى الحيوية الضرورية، المتمثلة بمقومات ذاتية للتصحيح والتغير والتطور الذي يقترن دائما بتكوين مرتكزات جديدة وقوى ذات تأثير نوعي. ولا شك ان الدولة في العراق لها الدور المحوري في اللحاق الحضاري وقد عجزت عن مزاولته. ومن الخطأ الفادح النظر إليها مجتزأة، طالما قادت الأحداث إلى خضوعها الكامل لاشتراطات التخلف الاجتماعي. المقاربة صعبة ولا توجد أدوات نظرية مختبرة، هي محاولة للتفكير مجددا في هذا الموضوع الشائك.
مركز السلطة التنفيذية، متمثلا بمجلس الوزراء على وجه الخصوص ودوائره، لا يستطيع استيعاب النظام الحكومي على حقيقته ومن داخله. ولا يعي واقع تنظيم أجهزة الدولة وعلاقته بوظائفها وإدارة عملياتها والصلات المنطقية – الضرورية فيما بينها. ولم يظهر ان لديه منهجا لإشراف منظم يَفرض احترام ضوابط النزاهة والكفاءة، فالمركز يُدار ولا يُدير، على الأكثر. ولا تختلف الحكومات المتعاقبة في هذا العوق الخطير والمحبط لكل أمل في تغيير أو إصلاح ولو على نطاق محدود.
السيطرة مفقودة ومن النادر ان تجد دائرة تشعر بحضور فعال لمركز الدولة يتجلى في ترشيد السلوك أو توجيه النشاط او شحذ الهمم. ودون مبالغة يكاد لا يعرف الكادر المتقدم في الوزارات والهيئات المستقلة والشركات العامة ماهي المعايير المُلزمة، وما هي الحدود التي من العيب تجاوزها في استخدام الصلاحيات للانتفاع من المال العام. الروادع التلقائية غائبة والانسجام الطوعي مع العقلانية والعدالة مفقود، وأية محاولة لإيقاظ الإحساس بالواجب تصطدم بصلابة شبكة النفوذ والمصالح، صغيرة وكبيرة، وشراسة المألوف.
ومن أسباب هذه العدمية البغيضة أن السياسة، اصبحت في بلادنا، لغوا لا صلة له بموضوعاتها: الأمن وسيادة القانون، والعدالة وكرامة الإنسان، والتنمية الاقتصادية الحقة، والرفاه، والشراكة الإيجابية في الحضارة الإنسانية... ونهضة شاملة. السياسة المعروفة للراي العام تجهل الدولة تماما واستعاضت عنها بمفردات قليلة كرسّت البلادة المعرفية والأخلاقية. التفكير والخطاب السياسي لا يختلف عن إدارة الدولة في عقمه وكسله عن مباشرة موضوعاته ومجافاته للحقائق ولا منهجيته ومعاداته للنزاهة.
ولو أهدِرَت نصف الموارد من دائرة واحدة، أو استأثرت عصابة بما شاءت من إمكانات الدولة وصلاحياتها ووصل الخبر إلى القيادات العليا فقد تصرح لا غير، على الأغلب، بأن الأمر موكول لجهات مختصة دون رئاسة الوزراء، أوهي معروضة على القضاء، وكأن السلطة التنفيذية ليست ضامنة لسلامة الدولة، ومكلفة أخلاقيا ودستوريا بوقاية دوائرها من الانحراف. ولا تختلف القيادات غير الرسمية، رؤساء الكتل والأحزاب، المتنازعة والمؤتلفة، في انفصال تفكيرها وخطابها السياسي عن منظمات الدولة والآليات الفعلية لعملها. تكرار سقيم لمفردات بلا موضوع. تصور أنك تسأل منتسبي شركات النفط، الكهرباء، البلديات، الطرق والجسور، موظفي التعليم والصحة ... الزراعة ... هل وصلت إليكم رسالة من المركز، او قادة السياسة، ذات مضمون محدد يؤثر في مجريات عملكم، أتوقع ان الجواب بالنفي.
وفي الجانب الآخر، لا يُفهم من أهداف المعارضة سوى استبدال المجموعة الحاكمة بغيرها وبعض مواد الدستور. وجماعة الحكم شغلتهم معضلة اختيار الرؤساء والمواقع الوزارية عن المشكلات الحقيقية، مستنزفون تماما لم يعد في أذهانهم متسع للنظر في أداء الدولة.
من صخب الإصلاح والتغيير لم يحدث، ولا مرة ولو بالخطأ، ان أشير إلى ضرورة إعادة تنظيم شاملة، للوزارات ودوائرها ومهامها، الهيئات المستقلة، الشركات، ... وغيرها. ولا توجد جهة أعدت، فعلا، قواعد جديدة لتنظيم الدخل المكتسب من الدولة. ولا حزب تبنى مقترحا لتغيير نظام عقود التجهيزات والمقاولات، رغم أن مكافحة الفساد على كل لسان وهو دليل على ان النزاهة ليست مقصودة بذاتها.
نزاهة الدولة ليست بالفوضى والرعب، وليست متوقفة على اعتقال هذا أو محاكمة ذاك. بل فكر نزيه يقود السلطة التنفيذية لإعادة التنظيم وتغيير أنظمة العمل، وتقليل وضبط نوافذ الاتصال بالقطاع الخاص، وإعفاء الفاشلين والمتواطئين، بلا تشفي ولا انتقام.
نُزِعَت عن القطاع العام قدرات البناء والإنتاج تماما، ولم يحدث أن رئيسا أو وزيرا أو زعيما، مؤيدا او معارضا، بادر لطلب تعبئة جزء يسير من إمكانات القطاع العام لتكوين شركة تستطيع تشييد طرق، او شبكات صرف صحي، أو تطوير النفط والغاز دون مواصلة التورط مع مزيد من الشركات الأجنبية، ولا حتى وحدة هندسية لشبكات الإرواء والمبازل، أو بناء مدارس ... مثلا. نستورد ابنية المدارس من الصين لنتفرغ للتكنولوجيا الجديدة؟ لصناعة الروبوتات والطائرات المدنية المنافسة؟ ... نعم لأننا عقدنا العزم على إضافة روافد أخرى للعملة الأجنبية وتمويل الإنفاق العام، ولذلك كلّفنا الصين لبناء المدارس. دولة بأكملها وجميع اقسامها لا تُحسن غير التعاقد، والأحزاب لا تعرف سوى تخصيص اموال أكثر من الموازنة ... وبشرط أن تبقى دوائر العقود والمقاولات وآليات عملها وجراثيمها كما هي. لأنها أثبتت جدارة!!. لا يهتمون بالمالية العامة، مالية القطاع العام على سعته رغم كثرة التجاوزات ومختلف صور الاستئثار، بل تهمهم الموازنة وفقط جانب الإنفاق بلا شروط، ويسكت هناك صوت الإصلاح. الوطنية الاقتصادية والدولة التنموية تتقلص إلى تنافس المحافظات والدوائر ومعهم المجلس النيابي على تقاسم إيرادات النفط.
وليتأكد القارئ ان التصنيع في العراق ليس من اهتمامات الحكومة أو المعارضة ولا دعاة التغيير الجذري. وقطاع المال لا يعني لأحد منهم سوى أخبار عن وقائع سرقات توظف للتسقيط، وكلام ملتبس عن مزاد العملة تائه بين حصر المبيعات بتمويل المستوردات، دون سواها، أو التنافس بين المصارف لاقتسام الهامش.
تعاقبت أجيال على الشكوى من ازدحام الناس في دوائر التسجيل العقاري والضريبة والمرور والتقاعد وغيرها ... وفي نفس الوقت جميعهم يتحدثون عن فائض التشغيل في القطاع العام، ولم ينتفض أحدهم لمعالجة هذه المشكلة الساذجة، نقل موظفين لا يحتاجون أكثر من شهر تدريب، بل اقل، واستنساخ سجلات. ولو حدثت معمعة في العراق بعنف الثورة الفرنسية والسوفيتية مجتمعتين، تبقى هذه المشكلة، فما بالك بالتصنيع والبنى التحتية. أما فرض القانون لإقامة العدل، والأجهزة المعنية بمكافحة الجريمة، ودوائر الأمن الداخلي؛ والجيش وسلاحه، والكفاءة والنزاهة ضمن هذا النطاق من الدولة، فلا وقت لديهم. يبدو أن لدى القادة في بلادنا مهام أسمى من البناء والإنتاج والعدالة والمساواة وترقية المستوى المعيشي والصحي، لا نعرف ما هي.
ثقافة العمل في دوائر الدولة فاسدة والأساس الفني لتنظيم وإدارة العمليات هزيل، إن وجد، والإدارة الاقتصادية هي الأبرز في هذا الهزال، قد لا تجد متخذ قرار، أو خبير، استاذ، أو مستشار، ولا في المعارضة، يؤمن حقا ان الاقتصاد معرفة لها أدواتها وحساب متخصص ليس من مصلحة المجتمع تجاوزه في القرار. ما أكثر الاعتباط والتحيز والتنكر لمبادئ العدالة التوزيعية في القرار الاقتصادي، ودون حياء من التبرير الهابط والسوقي لتحيزاتهم، وينعمون بالحماية والتوقير. في قناعتهم الاقتصاد مثل السياسة، كما يفهمونها ويتداولونها في الفضائيات، يسمونها رؤى وتصورات وتحليلات وهي براعة صلفة في غمط الحقائق وإسكات المخلصين للحقيقة.
انماط السلوك وقيم الجهاز البيروقراطي في العراق لم تدرس جيدا، وقد أهملت لأن الزعماء والأحزاب شغلهم التدافع على مركز السلطة السياسية والمحافظات. والمستوى المحلي لم ينجح في تطوير إمكانات ذاتية بالانتفاع من اللامركزية التي ترجمت إلى صلاحيات أوسع للتصرف بحصة أكبر من موارد المركز، وهذه مشكلة أخرى.
والقطاع الخاص فاشل ولا يقل فسادا عن القطاع العام، بل أكثر النشاط الاقتصادي شراكة: بين المال والإدارة والعمل؛ والمجهز والصناعي؛ والمستورد وتاجر الجملة والمفرد؛ والمصرف والمقترض، وجميع هذه الشراكات وغيرها ينخرها الفشل لضعف الضوابط التي اعتادت المجتمعات في وضعها الاعتيادي على التزامها طوعا. القطاع الخاص لا يتعامل مع دوائر الدولة بمعلومات صحيحة، يُزوّر ويتهرب، وكان طرفا فعّالا في مآسي فشل الاستثمار العام، وتخلف البنى التحتية، والمبالغة في عقود التجهيزات وإفساد الذمم. هذه المشكلات لا أحد يتحدث عنها لأنهم لا يريدون الإصلاح ولا يؤرقهم القلق حول مستقبل الضعفاء في العراق، يتسابقون، يتدافعون، ويؤلبون، ويحرقون، والجماهير تصفق ... وتهتف بأمجاد القادة والمفكرين العظام، لأن عمليات تشويه الوعي وتعطيل العقول نشطة دائما.
القيم التي تؤسس لمجتمع حر ودولة معاصرة لا زالت ضعيفة، مبدأ الشراكة المتساوية للعراقيين في الشأن العام نفوذه محدود، الفرد لا يتعامل بمسؤولية تجاه النظام العام والدولة والثروات الوطنية، بل بالمغالبة والمشاطرة، واتسع نطاق هذا السلوك ليشمل فئات اجتماعية كبيرة إضافة على الأفراد. اتضح لي، على الصعيد العملي، ان اغلب العراقيين لا يؤمنون بالمساواة الأصيلة بين البشر في استحقاق الكرامة وتكافؤ العضوية الاجتماعية، والإصرار على التراتبيات العمودية واضح، وهذا المرض يعيق استكمال التأسيس والديمقراطية الحقة.
المطلوب من رؤساء الأحزاب التي شاركت في المجلس النيابي، من الجمعية الوطنية إلى يومنا، الايعاز إلى أوليائهم في دوائر القرار العاجزين عن مباشرة الاصلاح وخدمة النزاهة الاستقالة واستبدالهم بآخرين، وكذلك الذين ترسخت علاقاتهم بالتجار والمستثمرين والمقاولين ومن على شاكلتهم. ونُذكّر الجميع بأن الضعفاء هم الأولى بإمكانات الدولة والنفوذ المعنوي للقادة. وليس من المعقول دفع الوضع المتأزم نحو حافة الهاوية.