ان التراجع الحاد الذى سجلته انتخابات تشرين في حصة بعض الاحزاب والقوى السياسية، يؤشر إلى أن هناك توجهاً جديداً يحكم الرأي العام العراقي، مؤداه أن الشعب لن يتنازل عن التغيير، وتحديداً ذلك النوع من التغيير الذى يخرج العراق من فلك وسيطرة الأحزاب التقليدية وانتماءاتها الايديولوجية. ولعل قانون الانتخابات الجديد الذي صاغه مجلس النواب بعد احداث تشرين، كان السبب المباشر في الإطاحة بتلك الأحزاب
أعلنت مفوضية الانتخابات العراقية نتائج الانتخابات البرلمانية المبكرة التي اجريت في 10 أكتوبر 2021، والتي كشفت عن تراجع واضح لبعض الأحزاب السياسية، ولاسيما الشيعية. إذ جاءت نتائج الدورة الانتخابية الخامسة مغايرة للكثير من التوقعات، بسقوط وفشل بعض الاحزاب والقوى السياسية في الحفاظ على مقاعدها البرلمانية التي حصلت عليها في انتخابات ايار 2018، كتحالف (الفتح) ذا العلاقة الوطيدة بإيران، وتحالف (قوى الدولة الوطنية) بزعامة رئيس الوزراء الاسبق السيد حيدر العبادي، وزعيم تيار الحكمة السيد عمار الحكيم، بموازاة ذلك، كان هناك تطور مفاجئ على صعيد النتائج، ولاسيما فيما يتعلق بحصول بعض القوى والحركات التي انبثقت من انتفاضة تشرين 2019 والمستقلين، على عدد من المقاعد تصل إلى 40 مقعد تقريباً. هذا التحول الكبير في مخرجات الدورة الانتخابية الخامسة، ولاسيما فيما يتعلق بسقوط بعض القوى السياسية التقليدية، تقف خلفه الكثير من الاسباب والدلالات.
اسباب سقوط الكبار:
لا يمكن ايجاز اسباب فشل وسقوط القوى السياسية الشيعية التقليدية، ولاسيما القريبة من طهران، بسبب دون آخر، وإنما هناك عدة اسباب (ذاتية وخارجية). فعلى الرغم من الفشل السياسي الكبير الذي منيت به بعض القوى والاحزاب السياسية بشكل عام، والإسلام السياسي الشيعي بشكل خاص، على مدار الـ(18) سنة الماضية في إدارة الدولة والعملية السياسية وانعكاسها على حياة المواطن العراقي، إلا أن اسباب السقوط، ربما تعددت بشكل اوسع، ويأتي في مقدمتها طريقة وطبيعة تعاطي هذه القوى مع الاحتجاجات العراقية بشكل عام واحتجاجات تشرين 2019 بشكل خاص، وما تعرض له المحتجين من قتل واختطاف وتخوين... وغيرها من الوسائل البشعة التي اودت بحياة ما يقارب الـ (800) قتيل واكثر من (20) الف جريح، والارتباط السياسي والايديولوجي الإقليمي العميق، وانعكاساته (السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية) على عملية بناء الدولة والمجتمع العراقيين، كذلك لا ننسى موقف المرجعية الدينية من تلك القوى وخطابها السياسي، ولاسيما ذلك الخطاب الذي ترافق مع بداية احداث تشرين 2019، والفشل الكبير الذي منيت به تلك القوى على صعيد دعايتها الانتخابية وبرامجها الانتخابية، فضلاً عن ما انتجته انتفاضة تشرين من نتاجات (مادية ومعنوية) كتغيير قانون الانتخابات، الذي انتقل من قانون (سانت ليغو) المعدل إلى قانون (الدوائر المتعددة) وتغيير مفوضية الانتخابات، ورفع مستوى الوعي السياسي والانتخابي لدى المواطن العراقي.
ولعل تلك الاسباب تحمل في ثناياها الكثير من المسببات المبطنة، التي اثرت سلباً على حظوظ تلك القوى السياسية، كالمواقف التي ترتبَّت على موقف المرجعية الدينية، مثل الخلافات السياسية والفقهية بين القوى السياسية الداعمة او القريبة من (مرجعية النجف) والقوى السياسية القريبة من (مرجعية قم)، وما ترتب عليها من تداعيات على المستوى السياسي والأمني، كالصراع بين قوات الحشد الشعبي، وخروج حشد العتبات المقدسة "التي تتبع مرجعية السيد السيستاني" من مضلة الحشد الشعبي، فضلاً عن الغاء انتخابات الخارج، التي كانت كثيراً ما ترجع كفة الاحزاب السياسية التقليدية بشكل كبير، وتزيد من رصيدها الانتخابي.
دلالات سقوط الكبار:
إن اسباب سقوط بعض القوى السياسية التقليدية في انتخابات تشرين، لها الكثير من الدلالات، واغلبنا فهم تكل الخسارة وفسرها بأنها جاءت كعقوبة سياسية لهذه القوى بعد فشلها في تثبيت اركان الدولة العراقية وخدمة المجتمع العراقي. ولعل اهم تلك الدلائل التي اعطاها الناخب العراقي للقوى السياسية الخاسرة، احتجاجه ورفضه للإرادة والتدخلات الإقليمية وهيمنتها السياسية على العراق، التي اصبحت صفة ملازمة في مواقف وسلوك بعض الاحزاب والقوى السياسية الخاسرة، التي تريد أن تضع العراق كتابع لبعض الدول الإقليمية وتقزيم دوره السياسي في المنطقة. هذه الدلائل ربما ساقتها في الفترة الاخيرة المرجعية الدينية في النجف الأشرف (بشكل او باخر) كموقف (حشد العتبات) على سبيل المثال واحتجاجها المستمر على هيئة الحشد الشعبي، وعدم رغبة مرجعية النجف بالدور السياسي للحشد الشعبي، الذي بدأ جلياً بعد انتهاء عمليات التحرير ودخوله انتخابات عام 2018 تحت مسمى تحالف (الفتح)؛ وهذا بدوره انعكس على مواقف مقلدي المرجعية الدينية من تلك القوى في الانتخابات الاخيرة. إذ ترجمت هذه الانتخابات الغضب الشعبي العراقي من الدور الإيراني في العراق والطبقة السياسية المرتبطة بها، وهو ما انعكس بشكل كبير في نتائج هذه الأحزاب مقارنة بانتخابات عام 2018. فضلاً عن الدلالات السياسية التي اعطاها فوز المرشحين المستقلين بشكل كبير للغاية مقارنة بكل الانتخابات السابقة، والحركات السياسية التي انبثقت من انتفاضة تشرين، ولاسيما أن اغلب مرشحي تلك الحركات، حصلوا على نسب عالية جداً في التصويت لصالحهم في بعض المحافظات، مقارنة بمنافسيهم في القوى السياسية الأخرى، وهذا ربما يعطينا مؤشر كبير على تآكل شرعية اغلب الاحزاب والقوى السياسية الحالية، والتصدعات التي اصابتها بعد فشلها السياسي وقمع المحتجين في عام 2019. وأن تآكل شرعيتها لا يتجلى في خسارتها الانتخابية أو سقوطها الانتخابي فقط، وإنما يمكن استنتاجه من خلال نسب المشاركة والمقاطعة، التي من المؤكد أن تعطينا دلالات اكثر من ذلك بكثير، ولاسيما اذا ما اخذنا نسبة المصوتين مقارنة بنسبة المقاطعين بنظر الاعتبار؛ لأن لو ارتفعت نسبة المشاركة السياسية في الانتخابات بشكل كبير، ربما قد تنهي حياة الكثير من الاحزاب السياسية الحالية، كما انتهى المجلس الإسلامي الأعلى، وحزب الدعوة تنظيم العراق، والحزب الإسلامي... وغيرها من الاحزاب.
لهذا فان التراجع الحاد الذى سجلته انتخابات تشرين في حصة بعض الاحزاب والقوى السياسية، يؤشر إلى أن هناك توجهاً جديداً يحكم الرأي العام العراقي، مؤداه أن الشعب لن يتنازل عن التغيير، وتحديداً ذلك النوع من التغيير الذى يخرج العراق من فلك وسيطرة الأحزاب التقليدية وانتماءاتها الايديولوجية. ولعل قانون الانتخابات الجديد الذي صاغه مجلس النواب بعد احداث تشرين، كان السبب المباشر في الإطاحة بتلك الأحزاب؛ لكونه اعطى للناخب حرية كبيرة في الاختيار وعدم مصادرة اختياراته، ووسع من حظوظ المستقلين في منافسة الاحزاب التقليدية، ذات النفوذ والتمويل المالي الكبير، على الرغم من التلاعب الكبير الذي قام به البرلمان في توزيع الدوائر الانتخابية.
بالمجمل، هناك اعتقاد يرى بأن العراق مقبل على مرحلة سياسية يبتعد فيها خطوات عن حالة التأثير الإيرانية المهيمنة على سياساته الداخلية والخارجية، دون أن يعنى ذلك "فك الارتباط" بشكل كامل بينها وبين القوى السياسية الشيعية، ولاسيما اذا ما تشكلت الحكومة القادمة على اسس سياسية صحيحة، وابتعدت عن التأثيرات الإقليمية والدولية، وغادرت الاعراف السياسية السابقة التي تشكلت عليها الحكومات العراقية المتعاقبة بعد عام 2003. كذلك هناك من يعتقد بأن تكون السلطة التشريعية المقبلة "سلطة فاعلة" على صعيد الرقابة والتشريع، وان النواب الجدد، ربما يساهموا في كسر المعادلة التشريعية القائمة "منذ سنوات" على موافقة زعيم الكتلة أو الحزب او التحالف بمشروع القانون قبل تشريعه، وهذا ما انعكس على عملية المحاسبة والرقابة التشريعية والعلاقة بين السلطة التشريعية والتنفيذية واداءهما التشريعي والتنفيذي.
اضافةتعليق