إن العملية السياسية التي اسستها الولايات المتحدة الأمريكية على انقاض النظام السياسي العراقي السابق عام 2003، مرت بتقلبات سياسية كبيرة على كافة المستويات، وكانت مقدمة مبكرة لما يسمى بأحداث الربيع العربي، ولعل كل احداث منطقة الشرق الأوسط ابتداءً من احتلال افغانستان والعراق ومروراً بأحداث الربيع العربي، التي اطاحت بالنظم السياسية التقليدية في المنطقة وبعض البلدان العربية، كانت مقدمة لبداية المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط بعد احداث 11سبتمبر 2001، الهادف إلى الإطاحة بالأنظمة السياسية السلطوية في المنطقة، والدخول بمرحلة الفوضى الخلاقة، التي من شأنها أن تنتج وضع سياسي افضل بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية وللمنطقة.
إن الاستراتيجية التي اعتمدتها الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الاوسط متمثلة في نظرية الفوضى الخلاقة، ربما لم تكتمل بعد، ولم تكشف عن كامل اسرارها وسيناريوهاتها، ولعل الهدف الأمريكي في جر إيران إلى حالة مشابهة لما حدث في دول الربيع العربي، أو استنزافها في المستنقع العربي في (العراق، سوريا، اليمن، لبنان)، هو الهدف الأكبر للمشروع الأمريكي، وهذا ربما يأخذ وقت طويل، ولاسيما أن بعض الفرضيات البحثية تعتقد بأن العراق (متغير مستقل) في مسار تجربة الفوضى الخلاقة، وان استقراره مرتبط حكماً، بمرور ايران بدوامة فوضاه الخلاقة باي صيغة من الصيغ، بعد المرور بدوامة الربيع العربي. نتيجة لذلك، سنحاول قراءة المشهد السياسي العراقي، وطبيعة التحولات والاحداث والتطورات السياسية وانعكاسها على طبيعة الانقسام السياسي بين النفوذين (الأمريكي والإيراني) ورؤية إيران الاستراتيجية بالنسبة للعراق.
إن المتتبع للوضع العراقي، يلاحظ بأن المشهد السياسي بعد عام 2003 وحتى الآن أنقسم إلى مرحلتين أو حقبتين:
الحقبة الاولى: يمكن ان نسيمها بالفترة الامريكية أو مرحلة الفوضى الخلاقة، التي انتهجتها الولايات المتحدة الأمريكية في العراق بعد عام 2003 واستمرت لعقد من الزمن تقريباً، حتى مرحلة ما قبل اجتياح تنظيم داعش للموصل، وهي المرحلة التي شارفت على نهايتها مع بداية التحول السياسي لرئيس الوزراء الأسبق السيد نوري المالكي بعد عملية الانسحاب الأمريكي عام 2011 وسعيه لضرب منافسيه وخصومه في القوى السياسية السنيّة، وتشجيعه على تفكيك التحالفات والتيارات السياسية الآخرى، كتحالف القائمة الوطنية بزعامة السيد اياد علاوي، والانشقاقات التي تعرض لها التيار الصدري أنذاك، ودعمه لتأسيس التشكيلات والجماعات المسلحة خارج المؤسسة العسكرية الرسمية، فضلاً عن خصومته مع الإدارة الأمريكية، واصطفافه مع المحور الإيراني، الذي بدأ واضحاً بالنصف الثاني من ولايته الثانية تقريباً، الذي استهله بالتحالف السياسي أو "ما اسماه بالزواج الكاثوليكي" مع منظمة بدر بزعامة السيد هادي العامري، فضلاً عن دعمه لمشروع تشكيل الحشد الشعبي بعد اجتياح تنظيم داعش للعراق عام 2014. هذه المرحلة أو مرحلة ما قبل الانتكاسة بين حكومة السيد المالكي والأمريكان بعد الانسحاب الأمريكي، اخضعت الدولة العراقية بشكل كبير إلى الإرادة الأمريكية تحت مفاهيم عدة، ولعل مفهوم او نظرية الفوضى الخلاقة ‘‘التي رسمتها الولايات المتحدة في الانطلاق نحو مشروعها في الشرق الاوسط‘‘، كان العنوان الابرز في تلك المرحلة؛ أملاً بخلق وضع جديد يتناسب مع طبيعة المجتمع العراقي، وبما لا يتعارض مع الديمقراطية الغربية أو الديمقراطية الليبرالية؛ وذلك من خلال تفكيك النظام السياسي القديم للدولة تفكيكا شاملا، وبناء هيكل جديد على انقاض الهيكل القديم للنظام المنحل لتكون تلك الفوضى خلاقة. إذ لا يمكن بناء دولة حديثة وفق المقاييس الأمريكية من خلال ترميم هيكل الدولة القديم أو من خلال اصلاحه, فمهما كان نوع وحجم تلك الترميمات والإصلاحات لن تكون كافية ولا تنتج دولة حديثة والسبيل الوحيد هو الهدم ثم البناء. وهذا هو اساس تلك النظرية التي تقول: "إن رحم هيكل لنظام استبدادي لا يمكن أن يلد نظاما جديدا لدولة ليبرالية حديثة". وهذه النظرية تكللت بسلوك القوى السياسية العراقية، التي فشلت في إدارة الدولة وبناء المجتمع على كافة المستويات.
إن مناقشة حيثيات هذه المرحلة وتطوراتها وتحولاتها السياسية، يضعنا امام تغيرات راديكالية في مسار وسلوك اغلب القوى السياسية، ولاسيما الشيعية، فالكتل والقوى السياسية التي كانت رافضة للعمل السياسي ووجود الامريكان، اصبحت فيما بعد، مهادنة له وتعاملت معهم والعمل السياسي بطريقة براغماتية "نوعاً ما"، وأن القوى السياسية التي كانت تحسب على المحور الأمريكي أنذاك، أصبحت مناهضة ومعادية له. هذه التحولات، رسمت بدورها ملامح نهاية المرحلة الأمريكية، أو مرحلة الفوضى الخلاقة، ووضعت اللَبِنات الاولى للحقبة الثانية، أو للحقبة الإيرانية تحت عنوان (الفوضى المنضبطة)، وهي المرحلة التي رسمتها الإدارة الإيرانية للعراق بعد الانسحاب الأمريكي، ووجدت ضالتها فيها بعد حزيران عام 2014. وبما يتوافق مع استراتيجيتها الهادفة إلى عدم انجاح النموذج العراقي، كعملية ديمقراطية ونظام سياسي، وعدم ظهور العراق كقوة منافسة، سواء كان ذات طبيعة عسكرية أو سياسية، أو كان مستمداً من إخفاقه النهائي (وقوعه في حرب أهلية) أو نجاح حاسم (ظهوره كنموذج ديموقراطي حقيقي)، تلك الاستراتيجية القائمة على فرضية دعم الفوضى الطويلة الأمد، والقابلة للسيطرة عليها في المدى القصير، او ما نسميه بالفوضى المنضبطة، بشكل يتناسب ومصالحها وادواتها العسكرية، وابقاء الوضع على ما هو عليه، دون الذهاب إلى الفشل التام، الذي يهدد نفوذها ومصالحها ومصالح حلفائها في العراق، أو النجاح التام الذي يضع العراق كمنافس إقليمي لها؛ وهذا يتطلب الحفاظ على النموذج السياسي القائم لأطول فترة ممكنة، بما يحقق رغباتها السياسية والاقتصادية والامنية، والابقاء على صراعها مع الولايات المتحدة الأمريكية في العراق وبعض دول المنطقة؛ لأن استقرار العراق، هو اضعاف لدورها السياسي والعسكري والاقتصادي في المنطقة، وهو تهديد لنفوذها أيضاً ومستقبل النظام السياسي الحالي، ولاسيما اذا ما اخذنا الهدف الأمريكي من مشروع الشرق الاوسط على المستوى البعيد وفرضيات نظرية الفوضى الخلاقة "التي اشرنا لها في بداية المقال" بنظر الاعتبار. لذلك فان العقل السياسي الإيراني يفكر بما تمليه عليه مصالحه القومية العليا اتجاه العراق، بعيداً عن المساعدات والمساعي الحميدة واممية الدين والمذهب، وان مصالحه الاستراتيجية تفرض عليه ابقاء العراق ساحة ضعيفة مسيطر عليه بمختلف الادوات (السياسية، والعسكرية، والاقتصادية) فضلاً عن الادوات الاجتماعية والدينية. كذلك الحال بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، تريد ان تتعامل مع الواقع السياسي العراقي، بقدر ما يؤمن لها مصالحها الاستراتيجية والقومية وحلفائها في المنطقة.
إن ابقاء العراق في دائر الصراع الأمريكي – الإيراني، هو خطأ فادح وكبير، تتحمله القوى والاحزاب السياسية العراقية بمختلف تسمياتها، وان الخطأ الأكبر والمسؤولية التاريخية، تقع على القوى السياسية الشيعية، ولاسيما أنها كانت الادوات السياسية والقاسم المشترك بين الحقبتين الأمريكية والإيرانية، او بين حقبتي الفوضى الخلاقة والفوضى المنضبطة.
فهل تعي القوى السياسية العراقية ذلك الخطر وتبادر إلى تنازلات واقعية لصالح الدولة والمجتمع العراقيين، أم سيبقى الجميع في دائرة الخطر...؟