فرضية الانتظار: إشكالية في مسار بناء الدولة المدنية في العراق

ربما تختلف الدراسات أو تتفق في بعض المفاهيم والمصطلحات، ولاسيما في العلوم الإنسانية والدينية، وبعضها تّشذُ في طروحاتها العلمية؛ نتيجة لظروف أو معطيات معينة، وهناك من يريد أن تكون عقيدة المهدي المنتظر كذلك، إلا أنها تبقى عقيدة دينية متأصلة في الفكر الإسلامي بشكل عام والفكر الشيعي بشكل خاص. فهناك شبه اتفاق على معظم فرضياتها، حتى وأن ارتقت بعض تفاصيلها أو جزئياتها إلى المفاهيم الاعجازية أو الاسطورية. وهذا الاتفاق يكاد يكون شامل بين عامة المسلمين، باستثناء بعض التفسيرات الفقيهة التي لا يمكنها التأثير في أصل النظرية (كعقيدة دينية أو فلسفة كهنوتية)، إلّا أنها تصبح فرضية وليست عقيدة دينية، مختلف عليها بين عامة المسلمين، وتكون أداة تفريق بين أبناء المذهب الواحد والدين الواحد وقد تمتد خلافاتها إلى البيت الواحد والعائلة الواحدة، حينما تتداخل في الحياة السياسية، وتصبح نظرية سياسية تطبيقية، ولاسيما أن تبريرها الفقهي، قد يكون عابراً للحدود القومية للدول، كنظرية سياسية حاكمة، تدين بالولاء للفقيه الجامع الشرائط أو ما يسمى بـ (ولي أمر المسلمين)، بالاستناد إلى فقه التقليد والولاية، وستصبح أكثر خلافاً في ظل معطيات (الاجتهاد والتفسير والأعلمية والتقليد... وغيرها) من المفاهيم الفقهية التي يقوم عليها المذهب الشيعي، ولاسيما مع الاختلاف الفقهي بين المدرسة الشيعية التقليدية أو الكلاسيكية "مدرسة النجف" والمدرسة الإيرانية القائمة على اخضاع تلك النظرية إلى الواقع العملي من خلال طرحها لولاية الفقيه العامة المطلقة، التي انتجها السيد الخميني بعد الثورة الإيرانية عام 1979. فالأولى تحّرم او تمتنع عن أنزالها ‘‘نظرية المهدي المنتظر‘‘ إلى الواقع السياسي أو التجربة السياسية منذ غياب المهدي المنتظر (ع) وحتى وقتنا الحاضر، كحال أكثر فقهاء حوزة النجف الأشرف، ولاسيما مع بروز الدولة القومية الحديثة القائمة على فكرة السيادة ومفهوم المواطنة واحترام القواعد القانونية المحلية والدولية والحدود القومية، لكنها لا تمانع من أنّ يمارس المؤمنون او المعتقدون بها، دورهم في الحياة السياسية العامة، سواء من ناحية الاندماج في الدولة المدنية أو من ناحية المشاركة السياسة فيها كـ(الانتخاب والترشيح والانتساب إلى المؤسسات الأمنية وقيادتها). 

إن خطورة نظرية الإمام المهدي المنتظر تكمن في تفسيراتها وتوظيفاتها السياسية المعاصرة، القائمة على فكرة استحضار المهدي المنتظر واطروحتهُ أو دولتهُ العالمية، وهي طروحات تتنافى او تتعارض مع فكرة بناء الدول الحديثة، القائمة على مفاهيم (السيادة، المواطنة، الحدود القومية...وغيرها من المفاهيم المعاصرة)، التي تختص بها الدولة القومية الحديثة، سواء ما يتعلق بمقومات وجودها، أو ما يتعلق منها بالمفاهيم الأمنية المعاصرة كـالأمن (الوطني والقومي والسيبراني)، فضلاً عن الامن التقليدي. هذه الطروحات، التي تتجلى اليوم بالخطاب السياسي الإيراني، قائمة على ذات الفكر، وتُبني فرضياتها المهدوية والسياسية على الصراع مع النموذج الغربي والولايات المتحدة الأمريكية وحلفائهم، وتسّوق خطابها نيابةً عن المهدي المنتظر، القائم على افشال النموذج الغربي القائم حالياً، أو أفشال مفهوم الدولة القومية التي رُسِمت ملامحها في أوروبا بعد معاهدة وستفاليا 1648 أو النموذج القومي للدولة في الشرق الاوسط، الذي رسمه الاستعمار الغربي في المنطقة طبقاً لاتفاقية سايكس بيكو عام 1916، بعد انهيار الدولة العثمانية، وهي فرضيات ودعوات قد تسبب الكثير من المشاكل والصراع بين النموذجين الغربي والإيراني، ولاسيما في ظل الصراع القائم في المنطقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من جهة، وإيران وحلفائها من جهة أخرى، وهذا الصراع يسَّوّق من قبل النظام السياسي الإيراني إلى العراق ودول المنطقة على انه صراع مقدس بين نموذجين (أحدهما مقدس والاخر كافر)، وهذا قد يضع الكثير من دول المنطقة والعراق ‘‘على وجه التحديد‘‘ في مأزق حقيقي وحالة عدم استقرار بشكل دائم، وربما يفشل العملية السياسية الحالية، ويعّقد من عملية بناء الدولة العراقية، وترسيخ الديمقراطية، أو يجعلها أسيرة مفاهيم معينة وإرادات خارجية مؤدلجة. وعليه سيكون وضع المذهب الشيعي بشكل عام، والاحزاب الشيعية بشكل خاص في مأزق حقيقي أمام الرأي العام الداخلي والخارجي؛ لأن كلا المجتمعين (العراقي والدولي) لن يسمح بانهيار انموذج الدولة القومية القائم حالياً، مهما بلغت نقاوة فرضيات اسقاطها أو تقويضها لصالح النموذج الإيراني القائم على فكرة التمهيد لدولة الإمام المهدي وليس على فكرة الانتظار المتعارف عليها في الفكر الإسلامي بشكل عام والفقه الشيعي بشكلٍ خاص. وإنّ ما أكده العميد إسماعيل قاآني، قبل أن يخلف قاسم سليماني بقوله: "أن التدخّلات الإيرانية في كربلاء والنجف، إضافةً إلى سوريا ولبنان ليست سوى تدخلات براغماتية، هدفها هو إقامة حكومة إمام الزمان التي ستحكم العالم أجمع"، يؤكد خطورة نظرية التمهيد التي يتّعكز عليها الخطاب الإيراني المعاصر. وهو خطاب يكشف لنا حجم المخاطر الحقيقية التي تحملها تلك نظرية في العقل والفكر السياسي الإيرانيين، التي تحاول من خلالها استمالة وجذب الشعوب والعقول المؤمنة بهذه العقيدة دون قراءة أو متابعة او التمعن والتمحيص فيها.

وهذا بالتأكيد سيكون له تداعيات كبيرة من شأنها أن تُفشل الشيعة والاحزاب السياسية الشيعية في إدارة الحكم في العراق وتقّوض العملية السياسية والديمقراطية وفكرة بناء الدولة المدنية في العراق، التي وضعت لبّناتها الأولى بعد عام 2003، ولاسيما أنها تعاني من أزمات حقيقية حتى الآن. فضلاً عن ذلك، فهناك الكثير من الحركات المتطرفة التي استغلت العقيدة المهدوية، وتسببت في اضطرابات حقيقية في مسألة الامن الوطني العراقي، كما حدث في الناصرية وحادثة الزركة في عام 2008، وحركة الصرخي والداعي والمختار، وغيرها من الحركات التي ما تزال قائمة لحد الآن، وما تحمله تلك الحركات من أفكار متطرفة تناهض كل مفاهيم الدولة المدنية او القومية الحديثة. 

وهذا لا يعني بأننا ضد نظرية الانتظار بمفاهيمها الشيعية المعروفة، أو ضد فكرة المهدي المنتظر، وإنما ضد الفهم الخاطئ والتفسيرات النفعية "البراغماتية" التي تستغلها بعض الانظمة السياسية والحركات المهدوية المعاصرة، سواء ذلك الخطاب الذي يسّوّق إلى شعوب المنطقة بخطاب ثيوقراطي، أو سلوكيات تلك الحركات التي تستهدف أمن المجتمع وتركيبته الاجتماعية وأمنه السياسي والاقتصادي، بحجة التمهيد لظهور الإمام المهدي المنتظر (ع). وكلاهما محاولات سياسية تخريبية، هدفها تقويض الدولة العراقية أو اضعافها لأهدافً أخرى؛ الأمر الذي يؤدي إلى اضعاف العقيدة المهدوية، ويُبعدها عن الهدف الرئيس الذي رسمهُ لها التشيع العلوي، ليضعها في خانة التشيع السياسي، القائم على توظيف العقائد الشيعية في الصراع السياسي، وهو ذات الفكر والسلوك الذي اتبعته الدولة الصفوية في تبرير صراعها ضد الدولة العثمانية، بعد أن وضعت العلامة الكركي والعلامة احمد النراقي الملقب بالفاضل النراقي، كواجهة فقهية لها، ليبررا سلوكيات الصفويين أنذاك بطرق شرعية قائمة على نظرية النيابة العامة عن الإمام المهدي المنتظر (ع).

إنّ ما نسعى إليه في هذا المقال، بأن يتم أبعاد العقائد والطقوس الدينية والعقيدة المهدوية عن الصراعات السياسية القائمة في المنطقة لسببين؛ اولهما للحفاظ على قدسية هذا العقائد، وثانيهما للحفاظ على تماسك المجتمع وامنه الوطني ومستقبل الدولة المدنية او القومية سواء في العراق أو في المنطقة او في إيران نفسها.

التعليقات