إن العلاقة بين الارتقاء بإدارة الحكم والسير بهدي الأفكار السياسية التي انتجتها عقول جهابذة المفكرين في حقل السياسة علاقة وثيقة لا تشبهها أية علاقة أخرى، فبقدر ما يمثل الفكر السياسي انعكاسا للواقع، فهو لا يمثل انعكاسا له بعلاته كأنعكاس الصورة في المرآة، بل هو ينطلق من هذا الواقع بما ينطوي عليه من حاجات ليؤسس واقعا اخر اكثر رقيا وتقدما، وميزة الفكر السياسي انه فكر وثيق الصلة بالسلطة وما يجب أن تعتمده من رؤى وإيديولوجيات ومناهج سلوك، كما انه فكر لاينفع معه الانغلاق على فكرة واحدة او السير بهدى مفكر ما بعينه لأن هكذا سلوك يصيب صاحبه بالشلل والقصور ثم العجز، وهو سلوك ان دل على شئ فأنما يدل على جهل بالحقيقة او تطرف أعمى سجين الذات، إذ يجب في مجال السياسة الجمع بين رؤى سياسية مختلفة لصبها في اطار تيار سياسي فكري ناضج يرسم الاهداف الملحة للنهوض بالواقع، ويحدد في الوقت نفسه الاليات العملية التي تمنع الانحراف، ولهذا نجد إن الدولة الحديثة لم تكن نتاج رؤية سياسية واحدة، وإنما تشكلت من موائمة عجيبة بين سيل كبير من الافكار السياسية كان ورائها جمع غفير من المفكرين كسقراط وافلاطون وأرسطو.. وبودان، وفولتير، ولوك وهوبز وروسو، ومونتسكيو، وحتى أفكار ميكيافيلي وماركس وانجلز وهيغل وغيرهم لم تكن بعيدة عن المساهمة نوعا ما في بناء هذه الدولة، ولولا ذلك لبقي العالم غارق في دياجير الظلمة خاضعا لسيف الحاكم بأمره، وكلما ظهرت فكرة جديدة وحاول اصحابها الاكتفاء بها والتعالي على فكر غيرهم كلما اثبتت الحقائق خلاف ذلك وانتهى بهم الأمر مهزومين مخذولين وعاجزين–المدرسة الماركسية السوفيتية ودعاة الفكر الشوفيني القومي على اختلافهم مثلا على ذلك – حتى سمح هذا الحال بالقول إن من سنن السياسة الاصيلة هو جمع اراء المفكرين السياسيين مع بعضها واستخلاص ما يساعد على الارتقاء بالواقع منها. إن هذه المقدمة حول العلاقة بين صاحب السلطة أو الطامح لها وصاحب الفكر السياسي ضرورية جدا في هذا المقال الذي نحاول فيه ترشيد بعض مسارات العملية السياسية الجارية في العراق في الوقت الحاضر من خلال الرؤى السياسية لواحد من المفكرين المسلمين المهمين الا وهو السيد محمد الحسيني الشيرازي صاحب المؤلفات التي تجاوز عددها الالف في مختلف المجالات -كان للسياسة نصيب وافر منها - وما دفعنا لهذا الامر سببان:
الأول: إن العملية السياسية في العراق تعاني من كثير من الاخطاء أهمها:
- استفحال حالة الانحراف السياسي لدى كثير من القوى والاحزاب والتيارات السياسية وعجزها عن تحديد مسارها الصحيح.
- بروز اللامبالاة بمتطلبات العمل السياسي لدى السياسيين العراقيين وتغليب المصالح الذاتية على المصلحة العامة.
- وجود رأي عام عراقي محبط من نتائج العملية السياسية وغير مصدق ومقتنع بما يقوله الساسة.
- ظهور التخبط والفوضى بين مجموعة من النظريات والرؤى السياسية وتمادي الشخصنة في إدارة السلطة.
- استمرار الأرقام المهولة في تبديد ثروة العراق والعجزعن وضع حد للمفسدين.
الثاني: إن فكر السيد الشيرازي ينطوي على اضاءات جيدة يمكن ان تساعد على تصحيح كثير من هفوات المسارات التي اتخذتها العملية السياسية حتى الان دون ان يكون في ذلك دعوة الى الاكتفاء بهذا الفكر والاستغناء عن نتاجات غيره من المفكرين. إضافة إلى انه فكر عميق أثبتت الأيام صحة كثير من طروحاته في مختلف مجالات الحياة لاسيما السياسية منها.
انطلاقا مما تقدم، فان تأمل الفكر السياسي للسيد الشيرازي يفتح للباحث اضاءات عديدة سنختار منها مانراه مهما لترشيد العملية السياسية المتأرجحة في العراق، وهذه الاضاءات هي:
مجال الحزبية والعمل الحزبي
تعد الأحزاب السياسية من أهم أدوات العمل السياسي في الدول الديمقراطية، بل يقاس رشد سياسة الدولة برشد الأحزاب السياسية فيها، وقد وجدنا في العراق خلال السنوات القليلة الماضية ثورة مبشرة في تشكيل الاحزاب لكن للاسف كانت نتائج هذه الثورة مخيبة للآمال، فما أريد به أن يكون أداة ضمان للحقوق والتربية السياسية اصبح اداة انتهاك وفوضى وإرباك، ولا نريد الخوض كثيرا في المظاهر والأسباب، ولكن تصحيح مسار الاحزاب العراقية يمكن أن يجد معينا نافعا في الفكر السياسي الشيرازي الذي تطرق إلى هذا الموضوع بشكل جيد، إذ دعى صاحبه الى ضرورة تشجيع التعددية الحزبية واعتبرها من متطلبات مؤسسة الحياة المعاصرة التي بدونها تفقد الحياة السياسية عامل تقدمها وتنظيمها وضبطها، إذ بدونها تنساق السلطة الى مهاوي الطغيان والفردية والتفرعن ولكي تأخذ الحزبية مجالها الرحب في ترشيد السياسة يجب ان تمتاز بما يلي:
- أن تمارس الأحزاب الإسلامية دور المبشر الإسلامي في الدعوة الى الاسلام وتجسيد قيمه وقواعده وأحكامه، أما الأحزاب الوطنية فأنها تمارس ذات المهمة من خلال التمسك بالمبدئية والفضيلة في العمل السياسي، ويجب أن لا تنساق وراء السعي للاستحواذ على السلطة مهما كانت الطرق والأساليب، لان مثل هذا السلوك سوف يحرف الأحزاب عن دورها الحقيقي، فيجعلها تتشبه بالمليشيات والعصابات في نشاطاتها.
- أن تجعل الأحزاب من أولى مهماتها تقديم الامة الى الامام وترقية وعيها السياسي من خلال البرامج التي تضعها والأفكار التي تعتنقها لا ان تكون احزابا هامشية سطحية عديمة التأثير في واقعها.
- أن تسود علاقة التنافس بين الأحزاب من اجل خدمة الامة لا ان تسود علاقة الاحتراب والتصادم التي تضيع الحقوق وتضعف الدولة.
- أن تكون أحزاب مبادئ وقيم لا أحزاب قادة وقمم.
- أن تبتعد عن العنف في العمل السياسي، بل انه حمل الاحزاب الاسلامية مسؤولية تراجع التأييد الشعبي لها وتشويه صورة الاسلام لدى الرأي العام الاسلامي والعالمي لما اعتمدته من سلوك عنيف تجاه خصومها للاستحواذ على السلطة او لنشر افكارها او لكسب التأييد لها، وقد أثبتت الأحداث في العراق خلال هذه السنوات صدق هذا الرأي ومطابقته للواقع الحزبي في ساحة العمل السياسي الإسلامي.
- أن يتقدم عنصر الكفاءة والأهلية على عنصر الولاء والمحسوبية في العمل الحزبي حتى لا يتقدم الضعيف على القوي، والجاهل على العالم، والظالم على العادل، والأمين على الخائن.
مجال العفو والتسامح
حاول الشيرازي عند حديثه عن العفو والتسامح ان يجعل من هذا المنهج منهجا عاما شاملا لكل جوانب الحياة من الأسرة إلى السلطة، وقد وجد ان حاجة السياسي الى اعتماد هذا المنهج اكثر من حاجة سواه، لأنه يتصرف بمقدرات امة بكاملها، ويؤثر على مجتمعات واسعة، ويتعامل مع اناس مختلفي الاهواء والاتجاهات والقيم، لذا فأن تخلي السياسي عن العفو والتسامح سيكون سبيلا الى اثارة الاحقاد والصراعات المختلفة التي تلحق الكوارث بالدولة، أما المظاهر التي يمكن ان يتجسد فيها العفو والتسامح فكثيرة منها:
- العفو والتسامح مع المعارضة حتى لا تشعر المعارضة إن العمل السياسي عبارة عن مباراة صفرية الخاسر فيها لا يخسر منصبه فقط وانما قد يخسر حياته مما يجعلها معارضة متخندقة خائفة من الخسارة، تستقتل لمنعها بالقوة، وهذا الأمر أي شعور المعارضة بالأمان هو من اهم مبادئ العمل الديمقراطي الذي يؤكد على ضرورة شعور الأقلية الخاسرة بأن حقوقها وحرياتها محترمة من قبل الأكثرية الفائزة، وقد وجد الشيرازي ان هذا السلوك هو السلوك الذي دعى إليه القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
- العفو والتسامح مع الرأي الآخر، من خلال اطلاق الحرية له وعدم منعه من التعبير عن نفسه.
- العفو والتسامح في الادارة وتطبيق القانون، بما لا يضيع حقا أو يهدر كرامة.
مجال المسؤولية والمسؤول
ان يكون الانسان مسؤولا في الدولة لايعني انه قد صار فوق الأمة أو مستأثرا بحقوقها، بل هو خادم لها يبذل جهده في تحقيق مصالحها ومساعدة افرادها ،ومشكلة العراق اليوم ان كثيرا من الذين تصدوا للمسؤولية فيه وجلسوا في مفاصل الدولة الحيوية لا يعرفون هذه الحقيقة، فتجد ممثلين للشعب تفتقدهم مقاعدهم، وأعضاء لجان حساسة ومجالس محلية عديمي الجدوى وووو حتى يمكن القول ان من ابرز مشاكل البلد اليوم هي مشكلة من يكون المسؤول فيه؟ وأي صفات يحملها؟ ولكي نعرف الإجابة عن ذلك، نجد إن على المسؤول في العراق – وفقا للفكر السياسي الشيرازي – أن يتصف بـ:
- خوف الله سبحانه وتعالى لان المسؤول الذي لا يخاف الله لن يكون جديرا بتولي منصبه.
- الأمانة ، فكل انسان لا يتصف بالأمانة من الخطأ اعطائه المسؤولية، لان المسؤول اذا كان ذئبا ضاعت حقوق الناس على يديه.
- الرقابة والمحاسبة الذاتية، إذ على المسؤول ان يمارس هذه الرقابة دائما لمعرفة ما اذا كان على خطأ أم على صواب في عمله، وكلما مارس المسؤول هذه الرقابة والمحاسبة كلما كان عمله اقرب الى الإتقان.
- الجماهيرية، ويقصد بها عدم عزلة المسؤول واختفائه وراء بوابات حديدية وجدران كونكريتية تمنع آهات الناس من الوصول إليه، لأن المسؤول الحقيقي هو من يعيش وسط الجموع لا على القمم والسفوح، والمسؤول الجماهيري تزداد محبة الناس إليه والتفافهم حوله.
- البساطة، وتعني القناعة بضروريات الحياة، فلا يشغل المسؤول نفسه بالجري وراء امتلاك الفلل والشاليهات والمنتجعات، واقتناء السيارات الفارهة، والمواكب المجلجلة، واتخاذ الخدم وملئ المصارف الوطنية والاجنبية بالأموال... فالابتعاد عن البساطة من قبل المسؤول هو ابتعاد عن كل صفة نبيلة فيه كإنسان يتصدى للمسؤولية.
- احترام الوقت، فإذا كان مهما احترام الوقت من قبل الفرد العادي، فأن احترامه من المسؤول أولى، لأن العمل كلما انجز بوقته المقرر، كلما تقدمت الدولة بسرعة الى الأمام، وعطفا على هذا القول، نرى ان فضفضة الوقت من قبل الساسة والمسؤولين العراقيين اليوم تجعل البلد يفقد فرصا مؤاتية للتقدم لا يمكن تعويضها.
- المشاورة واتخاذ الأعوان الكفوئيين، فالمسؤول كلما ابتعد عن منهج الديمقراطية في الادارة واعتمد منهج الفردية كلما كان انحرافه اقرب من استقامته، فإذا اقترن مع هذه الفردية وجود الاعوان الهزيلين وغير الكفوئيين، فان الحديث عن تقدم المؤسسة أو الدولة يكون حديثا عديم الجدوى، أما النتائج فهي كارثية بكل المقاييس قرب الزمن او بعد.
مجال حقوق الاقليات
يثير موضوع الاقليات في كثير من البلدان مشاكلا جمة، وقد برزت مشكلة الاقليات بشكل مثير في العراق بعد إلغاء المادة خمسين من قانون انتخابات المجالس المحلية في العراق، التي تعطي الاقليات نسبة معينة من المقاعد البرلمانية، لكن الأقليات أي كانت صفتهم هم بشر لديهم حقوق وعليهم واجبات ولايجب غبن حقوقهم وحرياتهم مهما كانت الأسباب، وقد أكد الفكر السياسي الشيرازي على ضرورة منحهم كافة حقوقهم وحرياتهم ومنها حقهم في التمثيل السياسي في إطار طوائفهم، وفي المجالس النيابية وفقا للنسبة السكانية التي يشكلونها من الأمة، لان ذلك سوف يساعد على:
- شعورهم باحترام حقوقهم وحرياتهم في الدولة التي يعيشون فيها، وهذا يجعلهم اعضاءا فاعلين في المجتمع.
- عدم التعدي عليهم من قبل الأكثرية سواء كانت اكثرية سياسية او دينية او قومية مستغلة انعدام دورهم السياسي وغياب المدافع عنهم.
- منع التلاعب بهم من قبل القوى الخارجية.
- إعطاء الدولة صورة جيدة في عيون الشعوب والامم الأخرى.
إن فوائد إعطاء الأقليات في العراق حقوقها وحرياتها تجعل اي مسار مخالف لذلك مسارا خاطئا وقصير النظر ، ويجب التراجع عنه من قبل السياسيين.
هذه الاضاءات الاربع التي بدت لنا في الفكر السياسي للسيد الشيرازي نجد ان اخذها بالحسبان من قبل السياسي العراقي أمراً مفيدا لتلافي الكثير من الاخطاء التي تم الوقوع فيها في المجالات التي شملتها، حتى يتجاوز هذا السياسي ولو لحد ما تلك الاجابة الفجة التي يواجه بها من يتهمه بالقصور والتقصير الا وهي ما العمل ؟ محاولا بها تخفيف النقد الموجه إليه بإخفاء عيوبه وسلبياته، وما يزيد من فاعلية هذه الاضاءات هو إن صاحبها مفكر سياسي مسلم ينطلق من المرجعية الاسلامية في طرحه النظري، وعليه لا يمكن اتهامه باستيراد فكره او اجنبيته، ولان السياسي يعمل في ميدان السياسة الذي لمسنا انفا تعقيداته، فأنه لا يجب ان يكتفي بما يطرحه الفكر السياسي الشيرازي، بل يجب عليه الغوص اكثر في ميادين الفكر السياسي لاستخلاص الجيد والمفيد منها لترشيد عمله السياسي وجعله اقرب الى الله والى الناس وبعيدا عن الانحراف والفوضى.
اضافةتعليق