كثيرة هي الاسئلة التي راودت دوائر صـنع القرار السياسي والاعلامي على مستوى العالم وعلى مستوى منطقة الشرق الاوسط -بؤرة الازمات والـصـراعات، بشكل خاص حول قرار الرئيس الاميركي دونالد ترامب الانسحاب العسكري الاميركي خلال شهر من سوريا. وهذه الاسئلة تتمحور حول، هل ان الانسحاب جاء بعد تصريحات لمسؤولين في البيت الابيض بان قواتهم اقتربت من القضاء على تنظيم داعش الارهابي؟ وهل ستنسحب الولايات المتحدة من سوريا خدمة لتركيا في ازالة عقبة القوات الأمريكية المتمركزة في مناطق الأكراد الانفصاليين – كما تراهم تركيا -عن الحملة العسكرية التي تعد لها تركيا شرق الفرات، أم خوفا من الانغماس في مستنقع سوريا، أم تلبية للطلب الروسي الذي أكد على أن خروج أمريكا سيحل الأزمة السورية، أم أنه، كما يقول البعض تطبيقا لاستراتيجية الانكفاء على الذات التي بدأها أوباما ورسخها ترامب بشعاره الانتخابي (أمريكا أولا) وهو ما سيقلل نفقات أمريكا في بؤر الصراع؟ ولكن كيف ستترك الولايات المتحدة الساحة السورية لايران والاطراف التابعة لها؟
بداية، قرار الانسحاب، كما هو معروف، ليس جديدا، فقد تأجل ستة أشهر من قبل بناء على توصية وزير الدفاع الاميركي ماتيس. وحول سبب الانسحاب، اكد مسؤولون في البنتاغون ان الرئيس الاميركي دونالد ترامب امر يوم الاربعاء 19/ كانون الاول / 2018 بانسحاب القوات الاميركية من سوريا البالغ عددها 2000 جندي من القوات البرية الاميركية خلال شهر، معللا ذلك بان الولايات المتحدة قد ربحت الحرب التي قادتها ضد تنظيم "الدولة الاسلامية" داعش الارهابي منذ اربعة اعوام عند تشكيل التحالف الدولي لمكافحة الارهاب في العراق وسوريا في أواخر 2014. وهذا ما اكده الرئيس ترامب في تغريده له في حسابه على موقع تويتر " ان الولايات المتحدة هزمت داعش في سوريا، وهو السبب الوحيد الذي يدعونا للبقاء في سوريا خلال مدة رئاستي" .
يبقى السؤال، هل ترفع الولايات المتحدة يدها نهائيا من سوريا في ظل تعقيد المعادلة الامنية والسياسية في الشرق الاوسط؟ ام ان هناك تقاسم ادوار اراد الرئيس ترامب من خلاله ان يقول ان القضاء على داعش هو هدف القوات الاميركية هناك وهذا الهدف تحقق الشيء الكثير منه؟
اذا ما تتبعنا طبيعة الانسحاب وفقا لتصريحات بعض مسؤولي الولايات المتحدة والخبراء فيها، نجد انه لا يمكن للولايات المتحدة ان تركن نفسها بعيدا عن الازمة السورية والتخلي عن اوروبا التي أوكلت ملف الأزمة من أول يوم لأمريكا ممثلا للغرب فيها، ولم تتدخل أوروبا إلا بعد ان تهدد أمنها بهجرة اللاجئين، وهي الورقة التي تلعب بها تركيا حتى الآن مع أوروبا، ومن مصلحة كل من أمريكا وأوروبا تحجيم الدور التركي الذي تمثل إدارته إزعاجا شديدا لهما لاسيما بعد تطور قدراتها العسكرية والاقتصادية وكذلك تطور علاقاتها الخارجية بصناعة أوراق لعب أهلتها للجلوس على طاولة الكبار على الأقل في أزمات المنطقة. كما ان الولايات المتحدة لا يمكن ان تترك المجال متاحا بهذه السهولة للقوات الايرانية والمجموعات المرتبطة بها لتهدد امن اسرائيل عبر سوريا بيضة القضبان بما سمي سابقا " الهلال الشيعي ".
لذا، فان انسحاب القوات الاميركية من سوريا لا يعني انتهاء مهام التحالف الدولي لمكافحة الارهاب في العراق وسوريا. اذ اكد مسؤولون في البنتاغون اليوم الاربعاء 19 / 12 / 2018 ان القوات الاميركية الجوية ستواصل استهدافها جويا لعناصر داعش في سوريا وذلك بمساعدة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والقوات الكردية. اذ اكد المتحدث بأسم البنتاغون كول (روب ماننغ) عشية قرار الانسحاب: " في هذا الوقت، نستمر في العمل مع شركائنا ومن خلالهم في المنطقة". ولهذا لاحظنا ان البنتاغون يوم 29 كانون الاول 2018 توجه النصح للقوات الكردية بأن تحتفظ بسلاحها.
واكد هذا الرأي رئيس مجلس العلاقات الخارجية الاميركية في واشنطن ريتشارد هاس، في تغريده له في حسابه على موقع على تويتر بعد القرار:" انه لا يمكن ان يأمل أحد ان الانسحاب الاميركي من سوريا سيكون غير مشروط. والا فأن هكذا انسحاب سيكون خطأ من الناحية الاستراتيجية والاخلاقية، اذ سيترك الاكراد والقوات الكردية لمصيرهم في مواجهة تركيا، وسيترك الشعب السوري في مواجهة نظام الاسد وايران وروسيا".
لذا بالإمكان القول، ان هناك تقاسم ادوار جديد بين اللاعبين الكبار الولايات المتحدة وروسيا وتركيا في الملف السوري. فإن كانت امريكا في ظل إدارتي أوباما وترامب ارسلت إشارات بأنه ليس لديها مصلحة جيوستراتيجية أو أمنية للتورط بشكل عميق في الأزمة السورية، إلا أنه ومع تنامي المناكفات بين كل من إدارة ترامب وأردوغان فأن الوجود الأمريكي في سوريا سيبقى ولو في شكل استخباراتي أو نفوذ في مناطق محددة يمكن بها ان تبقى في واحدة من أهم مناطق الصراع في الشرق الأوسط، وهو ما يعني أن عملية شرق الفرات التي تنوي تركيا القيام بها تحتاج إلى مزيد من الترتيبات التي ستقدم فيها الأطراف الفاعلة تنازلات قد تكون من بينها تمرير تركيا لتسوية سياسية في سوريا، وهو ما اكده وزير خارجيتها، حين قال أن بلاده لا تمانع من التعامل مع الأسد فيما لو أتت به انتخابات (ديمقراطية)، وهو ما يتنافى مع الموقف التركي السابق، لكنه في نفس الوقت يتوافق مع الموقف الأمريكي من نظام الأسد.
من جانبها اكد اجتماع وزراء خارجية ودفاع روسيا وتركيا يوم السبت 29 كانون الاول 2018 انهما سيعملان سوية لقضاء على بقايا تنظيم داعش الارهابي في سوريا وهو ما وعد به الرئيس اردوغان ترامب خلال الاتصال الهاتفي بينهما كما تناقلت بعض وسائل الاعلام.
كيف يؤثر ذلك على الامن العراقي؟
محصلة ما سبق ستكون حملة كبيرة ضد ما تبقى تنظيم داعش الارهابي في سوريا من قبل التحالف الدولي بالتنسيق مع قوات" قسد" والقوات التركية والروسية وقوات النظام السوري.
استفادت داعش من العمق الاستراتيجي لجبهتها السورية وهو العراق والاراضي الواسعة والمفتوحة غربي العراق وحققت نجاح بداية صعودها في تحقيق الانتشار والتمدد في هذا العمق. لذلك أي حديث عن مواجهة داعش الارهابي في سوريا يضفي على القوات الامنية العراقية مزيدا من التركيز والاستعداد لسد هذا العمق الاستراتيجي امام عناصر التنظيم وهذا بحد ذاته يكلف كثيرا، اذ هناك ترابط حدودي يمتد لأكثر من 600 كم. على الرغم من سيطرة القوات العراقية على هذا الشريط الحدودي في اغلبه وقيام القوة الجوية العراقية باستهداف تجمعات واجتماعات التنظيم داخل الاراضي السورية. ولغرض ان يكون الامن العراقي غير متأثر سلبا من تلك الحملة، على الحكومة العراقية ان تكون شريك في تلك الحملة عبر الآتي:
- استمرار التنسيق مع التحالف الدولي المستمر في عمله في مواجهة داعش في العراق وسوريا وتبنى دورا امنيا قائم على استهداف عناصر التنظيم وتجمعاتهم داخل الاراضي السورية القريبة من الحدود العراقية لتجنب ان تكون القوات البرية العراقية في موقع الدفاع على الحدود وان يتحدد دورها في صد التعرضات التي قد لا تنجح اذا ما اعتمد التنظيم اسلوب التعرضات الممتدة طوليا وبوقت واحد. الامر الذي يتطلب الاستمرار في العمل داخل قيادة العمليات المشتركة.
- العراق هو احد اطراف اللجنة الامنية الرباعية التي تضم (العراق، روسيا، وايران، وسوريا). وفي ظل التغير في المواقف والادوار، مطلوب من الحكومة العراقية اعادة التنسيق الامني مع تلك الاطراف مع اولوية الحفاظ على ما تحقق في العراق من هزيمة للتنظيم الارهابي.
- التنسيق مع الجانب التركي على اعلى المستويات الامنية حول عملية شرق الفرات التي تعد لها القوات التركية، للتصدي لعناصر التنظيم داخل الاراضي السورية وليس للمشاركة في مواجهة قوات سوريا الديمقراطية او القوات الكردية الاخرى، فهذا شأن سياسي على العراق ان يكون له موقف اخر.
- سياسيا، العراق ملتزم بموقفه السياسي من الازمة السورية وهو ان يحدد الشعب السوري نظامه الحاكم وحكامه بعيدا عن العنف. وهذا الثبات شيء موضوعي بحاجة الى تعزيز اكثر لاسيما مع تغير الموقف التركي من نظام الاسد والذي يتفق مع موقف الادارة الاميركية، كما اشرنا في اعلاه.
- كذلك، أي مطالبة لخروج القوات الاميركية من العراق يجب ان تؤجل لأشعار اخر على ان تتوفر المقومات الموضوعية الامنية والسياسية لذلك الانسحاب وفي ظل بيئة اقليمية مؤاتية، ولا يجب الاحتكام لإرادات اقليمية او انفعالات عاطفية لهذا الطرف او ذاك بعيدة عن الواقع وربما تقود الى تكرر سيناريو 2014 المدمر الذي لازالت كلفهُ باهظة. فالقوات الاميركية موجودة بشكل شرعي وبموجب اتفاقية امنية مصادق عليها من قبل مجلس النواب. لذا نرى وجوب الاستمرار بهذه الاتفاقية وتعزيز التنسيق مع الجانب الاميركي لاسيما واننا في مرحلة استكمال بناء مؤسساتنا الامنية.