تقع مسألة توفير سكن ملائم للإنسان في قاعدة هرم احتياجات الإنسان ضمن إطار الدولة بعد مسألة الأمن، وهي تمثل تحدياً صعباً امام جميع الحكومات دون استثناء المتقدمة منها والنائية، الا ان الدول المتقدمة استطاعت ان تحد من حجم هذه المشكلة الى المستوى الذي ماعاد يمثل مشكلة لها، في حين وعلى الرغم من اتخاذ العديد من المعالجات والسياسات لحل هذه المشكلة، الا انها مازالت تمثل عائق امام الدول النامية والتي منها العراق، اذ يعاني العراق منذ عقود من أزمة في قطاع السكن هي الأسوأ بين نظرائه من الدول المجاورة والإقليمية، وذلك لأسباب عديدة منها سياسية ومنها اقتصادية واخرى اجتماعية، وتتمثل الاسباب السياسية في مامر به البلد من حروب واضطرابات سياسية وأمنية شديدة مازالت تفرض نفسها لحد الان، اما الاقتصادية فتتمثل في النهج الشمولي للحكومة وتبعية الاقتصاد للسياسة وتحول موارد البلد نحو القطاع الصناعي العسكري والمجهود الحربي في الثمانينات ومن ثم فرض الحصار الاقتصادي الذي عطل جميع مفاصل الدولة في العام (1991)، انتهاءاً بالاحتلال وما نجم عنه من مشاكل لم تسعف القائمين على الوضع السياسي في حلحلة هذه المشكلة وان حصلت بعض التطورات في نشاط السكن.
يقدر سكان العراق في نهاية عام (2011) بحوالي (33) مليون نسمة، وبمعدل نمو سنوي مركب يصل الى (7%) عام (2010)، مع استقرار لمتوسط حجم الاسرة عند (9,6)، وبلغت نسبة السكن الحضري (70%) من مجموع السكان(1). وبعد مرور عقدين من الزمن على تعثر السياسات والخطط الموضوعة لمعالجة أزمة السكن في العراق، وفي ظل النتائج غير المرضية للاستثمار في البنى التحتية، ازدادت مشاكل الاحياء الفقيرة وتجمعات السكن العشوائي والنزوح غير المنظم من مناطق معينة الى مناطق اخرى، بالاضافة الى المشاكل المرتبطة ببيئة السكن، والمتمثلة بخدمات المجاري والماء والكهرباء والمدارس ... الخ. كما ان عدم كفاية المساكن والقدرة المحدودة لقطاع البناء والتشييد يمكن ان تعد احد اوجه التضخم في البلد، وعليه فأن هذا القطاع يفسر التضخم اكثر من الغذاء ونقص العملة الاجنبية، اي (قطاع الخدمات) بشكل عام هو الوجه الحقيقي للتضخم في البلد.
وهذا يقودنا الى استنتاج ان معالجة التضخم في البلد لم تؤت ثمارها، بسبب النظر الى مشكلة الخدمات بضمنها مشكلة السكن في البلد التي تمثل العائق الأكبر امام المواطن العراقي على انها مشكلة مستقلة بذاتها، في حين ان واقع الأمر يبين انها مشكلة مرتبطة بالمشاكل الاخرى التي تواجه البلد مثل مشكلة الكهرباء والبنى التحتية وماشابه، ولايمكن فصلها ومعالجتها بذاتها. بالاضافة الى هذا يعاني العراق من ارتفاع اسعار الأراضي والإيجارات بسبب محدودية السكن وارتفاع حجم الطلب عليها في العراق. وكما هو موضح في الجدول أدناه :
وقد اظهرت الدراسات الخاصة بهذا الشأن ان ثمة عجزا في الوحدات السكنية يصل الى (2- 5) مليون وحدة سكنية، وقد يستمر هذا العجز بالزيادة اذا ما أخذنا بنظر الاعتبار ايضاً دمار البنى التحتية للمناطق المحررة بسبب الحرب مع تنظيم داعش الإرهابي، والتي يحتاج اعادة بناءها وتأهيلها الى مبالغ كبيرة في ظل التقشف المالي وسوء الاضاع الاقتصادية التي يمر فيها البلد، اذ يمثل هذا تحديا اخر يضاف على كاهل الحكومة المثقلة بالمشاكل. ومما تقدم يبدو ان مشكلة أزمة السكن في العراق هي أزمة معقدة وعميقة ومتجذرة منذ زمن، وعليه لأبد ان تكون الحلول الموضوعة لها حلولا استراتيجية شاملة، ومن جملة الحلول التي يجب ان تفكر فيها الحكومة هو قضية توزيع الأراضي للمواطنين، اذ اتسمت مسألة توزيع قطع الاراضي للمواطنين بالتشوه؛ بسبب انها اخذت اتجاهات سياسية عدة، ولم تتسم بمعايير العدالة في التوزيع، اذ لابد من ان يكون الاستهداف للطبقات الفقيرة التي لاتملك سكناً، اذ المعيار هو استهداف الاكثر تضرراً او الاكثر فقراً او من لايملك سكن، او استهداف شرائح محددة مثل الاطباء وغيرهم الذين هم احسن حالاً من الكثير من شرائح المجتمع، واذا تم استهداف شرائح معينة فالمعيار يجب ان يكون الأولوية لمن لايملك سكناً لامعايير النقاط والخدمة وماشابه التي تفتقر الى العدالة، اذ لايعني حصول شخص على نقاط كثيرة انه مستحق لقطعة الأرض خاصة اذا ماكان يملك سكن خاص به، وبالتالي تضيع الفرصة على من لايمتلك هذه النقاط او السكن، هذا اذا تم اعتبار توزيع الأراضي على المواطنين هو خيار غير ناجع ومثمر اصلاً، لان توزيع الاراضي على المواطنين، يرغم الحكومات المركزية والمحلية على توفير باقي الخدمات المتعلقة بالسكن كمياه الصرف الصحي وتوفير شبكات المياه والشوارع والكهرباء والمستشفيات والمدارس... الخ، وهذا قد يشكل ضغطاً على هذه الحكومات في عدم قدرتها على توفير هذه الخدمات، اما اذا تركت للمواطنين الحرية في بناءها فالمشكلة لم تعالج بسبب ارتفاع اجور البناء وصعوبة الحصول على القروض الخاصة بذلك، مع فرض ان الكثير ليس له القدرة على البناء لمحدودية دخله، واحتمال حدوث تشوه عمراني -كما نعاني منه اليوم- اذا ماتم ترك البناء لمزاج المواطن، بالاضافة الى انه يجب يؤخذ بالحسبان الاجيال اللاحقة؛ لأن توزيع الأراضي على المواطنين، في ظل جمود عرض الارض، قد يحرم الاجيال اللاحقة من فرصة الحصول على سكن مناسب، وعليه يجب ان تكون الحلول حقيقية وتعالج اصل المشكلة، وافضل حل لهذه المشكلة في الوقت الحالي، هو الاستثمار الاجنبي لأن الاستثمار المحلي والمتمثل بشركات القطاع العام أثبت فشله في تنفيذ هكذا مشاريع ولأسباب عديدة منها الفساد الاداري وافتقاره للخبرة والدقة ولمحدودية ... الخ، فمن خلال الاستثمار الاجنبي ووفق رؤية وخطة مصممة بشكل واقعي تاخذ في إطارها الاحداث المتوقعة في المستقبل ومعدلات النمو السكانية، تشترك وتتفاعل فيها كافة المنظمات والجهات المرتبطة بالموضوع، ضمن آلية تتسم بالعدالة من خلال استهداف الشرائح والطبقات والأفراد الذين لايملكون سكن في الأصل، يمكن الحد من هذه المشكلة وعلى مراحل، فضلا على توفير السكن وباقي الخدمات، يمكن توفير الجهد والوقت والنفقات وتحويلها نحو مشاريع أخرى إنتاجية واستثمارية .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) احمد بريهي علي : الاستثمار الاجنبي والنمو والسياسات الاستقرار الاقتصادي، دار الكتب، كربلاء، العراق، ط1، 2014، ص2018.