لا يخفى على الجميع الوضع الحالي الذي يمر فيه العراق، من تدهور أمني وتفاقم في الانفاق العسكري بسبب الحرب ضد تنظيمات داعش الارهابية من اجل استرداد المناطق المسيطر عليها من قبل التنظيم الارهابي، يرافق ذلك تدهور اقتصادي مشابه للتدهور الامني متمثلا بانخفاض مستويات اسعار النفط العالمية بشكل قياسي وغير مسبوق والذي بدوره انعكس بصورة عجز في الموازنة العامة للدولة وبمقدار قيمته (20,5) مليار دولار، وما نجم عن ذلك من تفاقم المشاكل الاقتصادية للبلد من انخفاض في تمويل المشاريع الاستثمارية وتوقف الباقي منها بسبب انقطاع التمويل وانخفاض الايرادات كنتيجة لتردي اسعار النفط، وهذا القى بظلاله على المستوى المعيشي لإفراد المجتمع خاصة قرار تنفيذ فرض ضرائب الدخل واقتطاعات رواتب الموظفين في القطاع العام، ومع غياب تصور واضح لما سيؤول له الامر في النهاية خصوصا وان حزم الاصلاح التي اطلقتها الحكومة ما عادت تؤتي ثمارها بسبب المناكفات السياسية والأجواء السائدة في البلد التي تُنبأ بأن المشهد العراقي مازال يكتنفه الغموض وتعتليه سحب سوداء قد لا تنقشع في الأمد القريب، وفي ظل هذه الاوضاع المتردية، ذهبت الحكومة نحو انتهاج سبل أخرى لتلافي سوء الوضع أكثر وذلك من خلال الاقتراض الخارجي وعبر صندوق النقد الدولي، وبعد لقاء تم في الاردن من خلال وفد رسمي شمل وزير المالية هوشيار زيباري ومحافظ البنك المركزي العراقي علي العلاق وشخصيات سياسية عالية المستوى للتباحث والتفاوض مع صندوق النقد الدولي من اجل منح العراق قرضا ماليا كمحاولة للخروج من عنق الزجاجة، اذ على ما يبدو ان الوسائل التقشفية التي اعتمدتها الحكومة والإجراءات الأخرى مثل طرح سندات الخزينة للجمهور كوسيلة للاقتراض الداخلي وترشيد الانفاق الحكومي من اجل سد العجز في الموازنة وضمان حصولها على ايرادات مالية غير الايرادات النفطية لم تكن ناجعة او كافية خصوصا مع تزايد الانفاق العسكري في الحرب ضد داعش مما دفع الحكومة الى هكذا خطوة، وبالفعل نجحت الحكومة العراقية في استحصال القرض الذي تبلغ قيمته (13) مليار دولار وبدفعة اولية قدرها (5,4) مليار دولار على ان يسدد القرض على مدة امدها (3) سنوات وبفائدة قدرها (1,5%)، وذلك من أجل تعزيز القدرة الائتمانية للعراق ورفع درجة تصنيفه الائتماني، مما يسهل مستقبلا تقديم تسهيلات ائتمانية للعراق من قبل الدول الصناعية الكبرى لتقديم معونات مالية تصل الى اكثر من (15) مليار دولار، اضافة الى خفض العجز الاضافي في الموازنة العامة للدولة، ومقابل القرض اشترط الصندوق على العراق أن يخفض نفقات الموازنة العامة بنحو (13) تريليون دينار واخضاع مخصصات كبار الموظفين الى ضريبة الدخل وتسوية مستحقات الشركات النفطية، كما اشترط تفعيل مراقبة هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية واجهزة مكافحة غسل الاموال للتصرفات المالية. ولكن هناك ثمة تساؤلات قد يتم أثارتها هنا منها: ما هي أمكانية العراق في تنفيذ الشروط الخاصة بالصندوق والالتزام بها في ظل التقلبات والتغيرات الحاصلة في الشأن العراقي؟، وما مدى قدرة هذا البلد على الاستفادة من هذا القرض في ظل تفشي الفساد الاداري وتفاقم الوضع الاقتصادي والحرب على داعش ومتطلباتها مع وجود تخوف مشروع في أن تذهب اموال القرض الى جهات او مسارات غير صحيحة وقنوات غير انتاجية ؟. أضافة الى ما قد ينتج عن ذلك من ردود فعل جماهيرية معارضة كنتيجة لهذا القرض اذا ما علمنا ان احدى انعكاساته على الوضع الداخلي هو ضرورة هيكلة القطاع العام وتوقف التعيينات الحكومية وقطع بعض المخصصات الخاصة برواتب الموظفين للسنوات الثلاث القادمة -وهي المدة اللازمة لضمان استيفاء ميلغ القرض -وعليه فأن الصورة الحالية قد تظهر تشاؤماً حول امكانية ان يستفاد العراق من هذا القرض في ظل هكذا ظروف سياسية واقتصادية وأمنية، فالقرض ما هو الا قيد جديد يضاف الى جملة القيود والعراقيل السياسية والاقتصادية والأمنية. وبسبب انشغال الحكومة بالحرب على داعش وصعوبة تحديد موعد لانتهاء هذه الحرب، وعدم وجود رؤية واضحة حول آلية ادارة هذا القرض قد يحصل جدل واعتراض واسع لدى المتابعين في امكانية نجاح الحكومة في جعل القرض بابا لطلب المزيد من القروض والاعتماد على الخارج في تسوية المشكلة الاقتصادية.
وبالتالي فأن البلد قد سيواجه أزمة مديونية جديدة في نهاية المطاف كالتي شهدها في اعقاب النظام السابق، والتاريخ يخبرنا بأن تجربة الاقتراض الخارجي دائما تكون نتائجها سلبية على كثير من الدول لاسيما دول العالم الثالث التي تعاني من عسر في السيولة ومشاكل اقتصادية وعجز في موازينها ولم تساعدها القروض في شيء، بل على العكس من ذلك زادت تبعيتها للخارج وفاقمت الوضع الداخلي فيها وما تجربة اليونان الاخيرة الا خير دليل على ذلك، على الرغم من ان اليونان لم يمر بما يمر به العراق من تحديات صعبة تقف حائلا امام كل خطوة يتخذها نحو تصحيح المسار الاقتصادي، الا ان البعض قد يرى في ذلك صورة مغايرة لهذه الصورة، وهي صورة اقل تشاؤما، منطلقاً من التحسن الاخير الحاصل في اسعار النفط العالمية خصوصاً بعد وصول خام برنت الى حاجز الـ (50) دولار، كما ان مشهد الانتصارات الاخيرة للجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي قد تضفي شيئا من التفاؤل على المشهد الاقتصادي العراقي بعكس مشهده السياسي، الا ان القراءات الاولى للوضع تُنبأ بأن الوضع في العراق مقبل على بوادر أزمة سياسية جديدة وفقاً للمعطيات الحالية؛ بسبب تعطل عمل البرلمان العراقي واستمرار التظاهرات وانعكاس ذلك سلباً على الوضع الاقتصادي، فمعنى ان تتوقف التعيينات الحكومية لمدة ثلاث سنوات قادمة هو زيادة معدل البطالة الذي هو اصلا في تزايد مستمر، وهذا بدوره سينعكس على ارتفاع مستوى الفقر في البلد الى اكثر من الثلث عما هو عليه حالياً، كما ان الاقتطاعات الضريبية على الدخل ستقلل من حجم السيولة المحلية في الداخل، وهذا قد يثير موجة من الفوضى داخل الشارع العراقي مما يمهد لانتشار الشائعات التي من شأنها ان تؤدي الى زيادة الوضع سوءاً، وقد ينجم عن ذلك زيادة نشاط حجم المضاربة بالعملة المحلية مقابل الدولار ، مما قد يلحق الضرر بأسعار الصرف للعملة المحلية مقابل الدولار، وفي ظل حالة من الاغراق السوقي للسلع والخدمات الاجنبية للسوق العراقية وتدهور القطاع الزراعي خصوصا بعد انخفاض تمويل المزارعين والعجز عن سداد مستحقاتهم قد يدفع الكثير منهم الى التوقف عن زراعة الكثير من المحاصيل خاصة الاستراتيجية منها كالحنطة والشعير في ظل تعاظم مشكلة المياه والانحسار في الاراضي الزراعية في المناطق التي تحت سيطرة داعش، يقابل ذلك انخفاض في مجال تقديم الخدمات لاسيما الطاقة والبنى التحتية، الا ان هذا قد يدفع الحكومة الى ان تستثمر كل الجهود والامكانيات وان تعمل بكل طاقاتها من أجل عدم تفاقم الوضع، اذا ما تم التعامل مع القرض الجديد بشكل سليم ووفق المعايير الاقتصادية ومعايير الشفافية فأن الحال قد يشهد انفراجاً وان كان بسيطاً في منع تفاقم الأزمة الحالية، وستكون خطوة بالاتجاه الصحيح في أن تكون هناك دولة مؤسسات فاعلة وحقيقية قادرة على تحقيق جميع اهدافها وحل مشاكلها لتكون ضمن المسار الذي يضعها بمصاف الدول الناجحة .