يواجه الاقتصاد العالمي تحديات متعددة مع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية وتداعيات ارتفاع اسعار الطاقة والغذاء عالميا. يتزامن ذلك مع دخول جائحة كورونا عامها الثالث، واستمرار القيود الصحية في عدد غير قليل من الاقتصادات الكبرى، وما يسفر عنه ذلك من نقص في القوى العاملة وانقطاع في سلاسل التوريد (التجهيز)، ساهمت، الى جانب قوة الطلب وارتفاع اسعار الطاقة، في رفع الضغوط التضخمية. ويمكن أن تتفاقم مقيدات العرض مع سياسات الصين الصارمة في مواجهة سلالات فايروس كورونا.
وتقف السياسات الاقتصادية عند منعطف حرج في معظم بلدان العالم، فعلى مستوى السياسات النقدية تواجه البنوك المركزية خيارات صعبة في معايرة السياسات المناسبة لدعم التعاف الاقتصادي عبر السياسات النقدية التيسيرية، او التراجع عن الدعم الاستثنائي الذي تقدمه السلطات النقدية لصالح مكافحة الضغوط التضخمية من خلال رفع اسعار الفائدة للحيلولة دون رسوخ الضغوط التضخمية في الاقتصادات الوطنية. وقد بدأت بالفعل عدة بنوك مركزية برفع سعر الفائدة تحسبا لضغوط الاسعار. ويتطلب تشديد السياسات النقدية تكيُف الاقتصادات الوطنية مع اسعار فائدة مرتفعة، خصوصا بالنسبة للبلدان التي تعتمد على الديون الخارجية في تمويل الاقتصاد والاسواق، وهنا تنشأ معضلة اخرى (معضلة كلف الديون).
لذلك، لا تقل الخيارات صعوبة على مستوى السياسات المالية، فعلى الرغم من نجاح ادوات الحقيبة المالية في انعاش النشاط الاقتصادي وعكس اتجاه الدورة الاقتصادية عبر ضخ الاموال الحكومية في مختلف شرايين الاقتصاد لتعويض الركود الاقتصادي الذي خلفه الاغلاق الكبير للاقتصاد العالمي مطلع عام 2020، الا ان ارتفاع الانفاق الحكومي ولد عجوزات مالية كبيرة وضاعف من معدلات الدين العام لمستويات تاريخية، اقترنت بمعدلات الفائدة منخفضة ساهمت في خفض تكلفة خدمة الدين. اما الان، ونتيجة ارتفاع معدلات التضخم وتشديد السياسات النقدية عبر رفع اسعار الفائدة فان الاستمرار في سياسة التمويل بالعجز مخاطرة تهدد النمو والاستقرار الاقتصادي. كما ان ارتفاع تكاليف خدمة الديون جراء ارتفاع اسعار الفائدة يهدد ايضا قدرة العديد من البلدان في تسديد ديونها وتحقيق الاستدامة المالية. وقد ارتفع الدين عام 2020، في أكبر طفرة خلال عام واحد منذ الحرب العالمية الثانية، بمقدار (28) نقطة مئوية إلى (256%) من إجمالي الناتج المحلي، اذ قارب اجمالي الدين من (226) تريليون دولار طبقا لبيانات صندوق النقد الدولي.
وجاءت الحرب بين روسيا وأوكرانيا لتضيف صدمات متعددة تضر بالنمو والاستقرار الاقتصادي الهش. فالأسعار المتزايدة منذ شهور بفعل تداعيات جائحة كورونا وتدهور سلاسل التوريد وارتفاع تكاليف الشحن والمواد الاولية، تفاقمت من جديد بعد انطلاق العمليات العسكرية وفرض العقوبات الاقتصادية على روسيا. ويتوقع ان تزداد الاوضاع الاقتصادية سوءا اذا ما استمرت الحرب والعقوبات على قطاع الطاقة الروسي نتيجة عدة عوامل اهمها ارتفاع معدلات التضخم العالمي نتيجة ارتفاع اسعار السلع والطاقة. كما ان تراجع حركة التجارة وتدهور سلاسل التوريد وارتفاع تكاليف الشحن وضعف الطلب، اذا ما استمرت الاسعار بالارتفاع، يزيد من مخاطر انكماش الاقتصاد العالمي من جديد. خصوصا مع ضعف مناخ الاعمال وارتفاع التوقعات التشاؤمية للمستثمرين ورجال الاعمال مما قد يولد ايضا حركة عكسية صوب تصفية الأصول المالية وهروب رؤوس الاموال وتراجع الاسواق المالية الدولية، وما لذلك من مخاطر متنوعة على الاقتصاد العالمي المنهك من تداعيات الجائحة.