تطورت المالية العامة بشكل عام من الحياد مروراً بالتدخل المحدود في الأزمات الرأسمالية وحتى التدخل المباشر والمفتوح في الاقتصادات الاشتراكية.
تعنى المالية العامة بالعلم الذي يدرس الأدوات المالية من نفقات عامة وإيرادات عامة بقصد تحقيق الأهداف النابعة من فلسفة النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي السائدة في البلد.
الحياد والتدخل
الحياد، هو حياد الدولة عن الاقتصاد وعدم ممارسة النشاط الاقتصادي، إلا في مجالات محدودة جداً؛ كالأمن والقضاء والدفاع، وهذا ما يستلزم بشكل تلقائي حياد المالية العامة لارتباط الأخيرة بشكل وثيق بدور الدولة في الاقتصاد.
والعكس صحيح في حالة التدخل، أي تدخل الدولة في الاقتصاد وممارسة النشاط الاقتصادي، وهذا ما يستلزم توسع المالية العامة لتحقيق أهداف الدولة التي تسعى لتحقيقها من تدخلها في الاقتصاد.
بعبارة أوضح، هناك علاقة طردية بين المالية العامة وحجم الدولة أي كلما زاد حجم الدولة في الاقتصاد كلما زاد حجم المالية العامة تباعاً والعكس صحيح كلما انخفض حجم الدولة في الاقتصاد كلما انخفض حجم المالية العامة.
الحياد-الوظائف التقليدية
كانت المالية العامة قبل أزمة الكساد الكبير-أزمة عام 1929-هي مالية محايدة يقتصر دورها على الوظائف التقليدية كالأمن والقضاء والدفاع، وإن ذلك الحياد ناجم عن الأفكار الاقتصادية التي كانت سائدة في ذلك الوقت.
حيث كانت النظرية التقليدية التي تؤمن بتلقائية تحقيق التوازن الاقتصادي استناداً لقانون ساي الذي يُعرف بقانون المنافذ" العرض الكلي يخلق الطلب الكلي" وتحقيق التشغيل الكامل من خلال المنافسة الحرة ومرونة الأجور، هي السائدة في ذلك الوقت.
بمعنى إذا ما كانت هناك نقص التشغيل وزيادة البطالة في هذه الحالة فإن العمال سيتنافسون فيما بينهم للحصول على فرص العمل وهذا ما يدفعهم لتخفيض أجورهم وزيادة أرباح المنتجين فيزداد الطلب عليهم مرةً أخرى حتى يستوعب النشاط الاقتصادي جميع الأيدي العاملة فتزول البطالة ويتحقق مستوى التشغيل الكامل بعيداً عن تدخل الدولة.
هذا ما يعني إن الدولة لا تحتاج لمزيد من التوسع في المالية العامة لان دورها ينحصر في تحقيق الغرض المالي، أي الحصول على الإيرادات لمواجهة النفقات، وبما إن النفقات العامة محددة بالوظائف التقليدية وهي نفقات عادية لذا لا بد أن تكون الإيرادات هي الأخرى إيرادات عادية أيضاً بعيداً عن الإيرادات غير العادية كالقروض والإصدار النقدي الجديد، وبالنتيجة تحقيق التوازن المالي بشكل تلقائي.
ونتيجة لظهور أزمة الكساد الكبير التي زعزعت دعائم الاقتصاد وأوقفت النشاط الاقتصاد وإلقاء الملايين من العمال في صفوف البطالة، أصبحت النظرية التقليدية عاجزة عن تقديم الحلول وانتشال العمال من مستنقع البطالة، ولم يتحقق التوازن تلقائي الذي جاءت به هذه النظرية رغم حياد الدولة وعدم تدخلها، فأدى ذلك إلى سقوطها الذي أعطى مبرراً للدولة للتدخل في الحياة الاقتصادية.
النظرية الحديثة-تدخل الدولة والتوازن الاقتصادي
حيث جاء كينز بفكرة تدخل الدولة في الاقتصاد لمعالجة الأزمة الاقتصادية وتحقيق التوازن الاقتصادي، فإذا ما كان الاقتصاد يعاني من الانكماش حينئذٍ تتدخل الدولة عبر المالية العامة لعلاج الانكماش وذلك من خلال تخفيض الضرائب وزيادة الإنفاق العام والعكس صحيح حينما يعاني الاقتصاد من التضخم تتدخل الدولة عن الطريق المالية العامة أيضاَ لعلاج التضخم من خلال زيادة الضرائب وتخفيض الإنفاق العام، وهذا ما يعني انتقال المالية العامة من الحياد إلى التدخل.
كما أكدت النظرية الحديثة التي جاء بها كينز على التوازن الاقتصادي بدلاً من التوازن المالي، بمعنى أنه لا بأس أن تكون الموازنة في حالة عجز أو فائض إذا ما كان كل منهما وسيلة لجعل الاقتصاد القومي بلا انكماش أو تضخم.
إن دور الدولة والمالية العامة في الاقتصادات الرأسمالية أخذ دور المسعف الاقتصادي والمالي، بمعنى إن الدولة والمالية العامة معها بشكل تلقائي تتدخل في الشأن الاقتصادي والمالي فقط في الأوقات الحرجة ومجرد أن تعود الأوضاع الاقتصادية إلى وضعها الطبيعي تنسحب الدولة والمالية العامة من الاقتصاد لذلك يُطلق على المالية العامة في الاقتصادات الرأسمالية بالمالية المعوضة أو الوظيفية.
المالية العامة المنتجة
لم يقف التطور الذي لحق بالمالية العامة، نتيجة لتطور دور الدولة وطبيعتها عند الحد السابق، بل امتد ليكون أكثر عمقاً وشمولاً انطلاقا من المبادئ الاشتراكية في الحياة الاقتصادية.
حيث لم تعد الدولة مجرد محايدة أو متدخلة خلال الأزمات فحسب بل أصبحت دولة منتجة لا تتحدد مسؤوليتها في حفظ التوازن الاقتصادي والاجتماعي كما كانت في الاقتصادات الرأسمالية حيث تتدخل الدولة في الأخيرة حينما يختل التوازن لإعادته، على أن تترك الإنتاج والتوزيع بصفة أساسية للقطاع الخاص، بل أصبحت تقوم بالإنتاج والتوزيع وكما يرسمه التخطيط المركزي.
هذا ما يعني إن الدولة أصبحت هي المالك الرئيس لوسائل الإنتاج وهي المسيطر على الإنتاج والتوزيع، وما للقطاع الخاص إلا دور محدود في النشاط الاقتصادي، هذا ما جعل المالية العامة في الاقتصادات الاشتراكية تندمج مع الخطط الاقتصادية وأصبحت جزء لا يتجزأ من نشاط الدولة الاقتصادي، بعد إن كانت تسير بشكل مستقل ومجاور للسياسة الاقتصادية في ظل الاقتصادات الرأسمالية.
المالية العامة في العراق
قبل ثورة 1958 كانت المالية العامة قريبة للحياد أكثر منها للتدخل والإنتاج، بحكم طبيعة النظام السياسي والاقتصادي، حيث كان النظام الملكي هو السائد آنذاك مما يعني إن القطاع الخاص له دوراً كبيراً في الحياة الاقتصادية.
إن عدم التدخل أو التدخل المحدود من قبل الدولة في الاقتصاد ترتب عليه انخفاض دور وحجم المالية العامة نظراً للعلاقة الطردية بينهما كما أشرنا أعلاه، حيث ركزت الدولة على الوظائف التقليدية خصوصاً وإن العراق في بداية بناء الدولة الحديثة مما يستلزم إعطاء هذه الوظائف الأولوية في تحققها.
بعد ثورة 1958
ولكن بعد ثورة 1958 التي أطاحت بالحكم الملكي وجاءت بالحكم الجمهوري والذي تزامن معه تبني التخطيط المركزي كطريق للنظام الاقتصادي، حيث أخذت الدولة تتدخل في الاقتصاد شيئاً فشيئاً حتى أصبحت هي المحرك الرئيس فيه ملكيةً وتخطيطاً وتنفيذاً، وما شجع الدولة على ذلك التدخل هو زيادة الإيرادات النفطية.
هذا ما يعني إن المالية العامة في العراق لم تمُر بمرحلة السير المستقل والمجاور للسياسة الاقتصادية بل انتقلت بشكل مباشر من المالية المحايدة إلى المالية المنتجة وأصبحت جزء رئيس من الخطة الاقتصادية وجزء لا يتجزأ من نشاط الدولة الاقتصادي.
بعد 2003
وبعد عام 2003 تحول العراق من الدكتاتورية إلى الديمقراطية سياسياً شكلياً وليس مجتمعياً، تزامن مع هذا التحول أن أعلن العراق التحول نحو اقتصاد السوق، مما يعني انسحاب الدولة من الاقتصاد وإحلال القطاع الخاص محلها وانحسار دور المالية العامة بشكل تلقائي!
لكن ما حصل على أرض الواقع هو أزمة معقدة ومركبة، ففي الوقت الذي انسحبت الدولة من الاقتصاد لم يحل القطاع الخاص محلها-لأسباب موضوعية أكثر مما هي ذاتية- مما جعل الطلب الكلي يعاني من عدم الإشباع، ونظراً لتوفر الإيرادات النفطية تزامناً مع ارتفاع أسعار النفط، تدخلت الدولة من خلال المالية العامة وبالتحديد في جانب النفقات التشغيلية أكثر منها في جانب النفقات الاستثمارية، وهذا ما يعني تضخم دور المالية العامة وحجمها في العراق بعيداً عن العلمية والمنطقية.
الخلاصة
ولجعل دور وحجم المالية العامة في العراق أكثر علمية ومنطقة لابُد من إعادة النظر بالنفقات العامة بجانبيها ويتم التركيز على نفقات الوظائف التقليدية إضافة إلى نفقات البنى التحتية والنفقات التي تسهم في خلق بيئة استثمارية مشجعة وجاذبة للقطاع الخاص ليحل محل الدولة بشكل حقيقي لإشباع الطلب الكلي وتحقيق التوازن والاستقرار الاقتصادي.
مصادر تم الاعتماد عليها
1- عادل العلي، المالية العامة والقانون المالي والضريبي، صفحات متعددة.
2- عادل أحمد حشيش، أساسيات المالية العامة، صفحات متعددة.