تداعيات ما بعد كوفيد 19-على النموذج الإيراني

كثيرةٌ هي التداعيات التي خلفّها وسيخلفّها تفشي وباء كوفيد 19-على المستوى العالمي، وإنّ اغلب المتخصصين والمحللين والمهتمين بالشأن السياسي والاقتصادي، يكاد يُجمعون على أنّ عالم ما بعد كورونا يختلف عن سابقهِ، فالجميع قد أدرك حجم المخاطر الحقيقية التي تسبب بها هذا الفيروس على الصعيدين (المحلي والعالمي)، والفجوة الكبيرة التي خلّفها بين الدولة كـ "مؤسسة" وبين المجتمع، فضلاً عن مؤشرات عدم الثقة التي شخّصها في أداء النظام العالمي. وعلى الرغم من ذلك، إلّا أنّ تأثيره -من المؤكد-مختلفٌ من دولة إلى أخرى، ومن بيئة إلى أخرى، وقد يتراوح تأثيره حسب طبيعة الدولة ونظامها السياسي، وبنيتها الاقتصادية والاجتماعية. ومن المتوقّع أن يكون تأثيره كبيرًا في منطقة الشرق الاوسط، ولاسيما تلك الدول التي تعاني من حالة عدم الاستقرار السياسي مثل (العراق وسوريا واليمن ولبنان)، أو غيرها من الدول التي تعيش في عزلة دولية مثل إيران؛ نتيجة العقوبات الأمريكية المفروضة عليها. وقد تكون تداعيات كوفيد -19 مختلفة بالنسبة لإيران؛ وذلك لما تتمتع به إيران من نموذج سياسي إسلامي "شيعي" بمتطلبات معاصرة، مختلف عن الانظمة السياسية السائدة في العالم والمنطقة، فهو يجمع بين ولاية الفقيه "النموذج الديني"، والمتطلبات السياسية المعاصرة "الوضعية" للحياة السياسية، مثل الديمقراطية والانتخاب وسيادة القانون والبرلمان وحقوق المرأة "النموذج السياسي المعاصر للحكم"، إلّا أنّ سلوك النظام السياسي وتطلعاته الإقليمية والدولية، ونفوذه السياسي والعسكري في المنطقة، جعله محط انتقاد وهجوم من أغلب دول المنطقة والعالم؛ مما جعله هدفاً للعقوبات الأمريكية، التي عزلته عن أكثر دول العالم والمنطقة. وبغض النظر عن النوايا الأمريكية والغرض من العقوبات، إلّا أنّ تزامنها مع جائحة كورونا، قد جعل البعض يعتقد بأنّ: "فيروس كورونا وصل إلى إيران في واحدة من أسوأ الفترات التي مرّت على الجمهورية الإيرانية منذ تأسيسها قبل أربعة عقود، وأن النظام الإيراني تلقى ضربات قوية لشرعيته الأيديولوجية، وشعبيته الثورية، وكفاءته العملية، وبنيته الاقتصادية، وسياسته الخارجية، وتطلعاته للهيمنة الإقليمية". هذا الاعتقاد، أنقسم بشأنه المتخصصين، فهناك من يرى، بأنّ طهران بإمكانها أن تتحمل بسهولة الظروف الصعبة لسنوات عديدة أخرى، وإن كان ذلك ربما ليس من دون تغيير في طبيعتها بشكل كبير، ولاسيما أن تفشي وباء كوفيد 19- في إيران، ساعد كثيراً في تمكين الحرس الثوري أكثر من أي مؤسسة أخرى، وهناك من يرى، بأن تفشي الوباء بالتزامن مع العقوبات الأمريكية، فضلاً عن، الظروف التي يعيشها الإيرانيون على كافة المستويات، وحالة الشك التي تنتاب المجتمع الإيراني بنظامهم السياسي، قد تفشل مقاومة النظام السياسي الإيراني في المستقبل القريب، بوجه تلك التحديات، ولاسيما إذا ما تزامن معها تصاعد الاحتجاجات والسخط الجماهيري، كما يحدث الآن في بعض المدن الإيرانية. 

وإذا ما ناقشنا أو حللنا تلك الفرضيتين أعلاه، نرى بأن تفشي أيّ وباء، كـ (وباء كوفيد 19-) في بلد يحكمه نظام مضطرب، ربما يؤدي ذلك بنتيجة إيجابية للنظام في بداية الأمر "على أقل تقدير"؛ وذلك بسبب المخاوف التي تنتاب الشعوب من انتشار الوباء، وخلال تفشي الوباء أو انتشاره، ربما يصبح من الصعب الحديث عن الحقوق والمطالب السياسية، والخروج بتظاهرات لتحسين الواقع السياسي أو الاقتصادي او غيره. وهذا بالفعل ما حدث في إيران، كما هو الحال في العراق، فأن تفشي الوباء أّثر كثيراً على حركة الاحتجاجات التي انطلقت في تشرين العام الماضي؛ لهذا فربما يكون تفشي الوباء عامل مساعد للسلطة والنظام، حتى وأن كانت مجرد مسألة وقت. وهذا قد يضعنا في متن الفرضية الأولى، إلّا أنّ هذه الفرضية لا يمكنها الثبات فيما لو أستمر الوباء لفترات زمنية طويلة "وهذا ما يبدو عليه فيروس كورونا لحد الآن"؛ مما يضعنا أمام الفرضية الثانية؛ لأن الشعوب لا يمكنها المكوث في منازلها ومقاومة الوباء بعزلة أو بالحجر المنزلي فقط، ولاسيما في حال كان النظام السياسي يعاني من مشاكل واضرابات (داخلية وخارجية)، كتلك التي يعيشها النظام السياسي في إيران حتى الآن. فالمشاكل متعددة والتحديات كبيرة، فهناك سخط شعبي وتحديات على مستوى الأمن، والأمن السيبراني، وانفجارات متكررة، وعقوبات اقتصادية، وانهيار للعملة المحلية، وركود عالمي، فضلاً عن تحدي وباء كورونا، الذي يهدد بنية الدولة واستقرارها السياسي... وغيرها من التحديات، التي لو اجتمعت في أي نظام، لسببت له الكثير من المشاكل. 

على الرغم من كل ذلك، إلّا أننا نرى بأن تفشي الوباء زاد من الدور الاستبدادي الذي يفرضه النظام في عالم الانترنيت والتواصل الاجتماعي؛ وذلك من أجل حماية النظام والحفاظ عليه، انطلاقاً من فرضية نظرية المؤامرة التي تحكم العقل السياسي الإيراني بشكل كبير، فضلاً عن ذلك، فقد اعطى الوباء فرصة كبيرة للمؤسسات الموازية للمؤسسات الحكومية في تلميع صورتها التي تدهورت. فقد توسّع النظام الصحي والبنية التحتية الطبية التي يديرها الحرس الثوري والجماعات التابعة له توسعا هائلا، بالرغم من تحذيرات بعض المؤسسات الحكومية الإيرانية من تلك الأدوار التي تقاسم الدولة والمؤسسات الحكومية الرسمية في دورها الحقيقي، التي قد تعود بنتائج عكسية على الدولة والنظام السياسي الإيراني. 

بالمجمل هذه الاجراءات مجتمعةً، سيكون لها تداعيات كبيرة وخطيرة على النموذج الإيراني في المستقبل القريب أو البعيد، وأنّ المواجهة السياسية بين المؤسسات الحكومة والاجهزة الموازية، ربما تزيد من تعقيد المشهد السياسي أو تعّجل من تلك التداعيات، أو تضعف من جاذبية النموذج الإيراني "بالنسبة لمؤيديه"، ولاسيما أنّ هناك من ربط بين تلك التداعيات ومرحلة ما بعد السيد الخامنئي، خصوصاً وأن الأخير في الثمانين من عمره، وأن فرضية موته أو عجزه عن أداء مهامه، مسألة واردة جداً. وهناك من يرى بأن: "الفشل الذريع بالامتثال للحس السليم والضمير الحيّ، قد يؤدي إلى تهيئة الظروف التي بدورها تؤدي إلى علمنة القيادات المستقبلية في البلاد، ولاسيما أنّ الهوة الآخذة في الاتساع بين السلطات الشيعية من جهة، والطبقة الوسطى العصرية للغاية والشباب المثقف في إيران من جهة أخرى، ستجعل الجهات الفاعلة في السلطة أقل اهتماما بالسعي للحصول على دعم أيديولوجي أو سياسي من رجال الدين في مرحلة ما بعد خامنئي". فضلاً عن ذلك، فأنّ فاعلية دور المؤسسة الدينية في إيران، ربما يكون على المستوى الرسمي فقط، وهو دورها بدأ يتضائل تدريجياً بالتزامن مع الفشل السياسي للنموذج الإيراني، ولاسيما، نتيجةً للفشل (الداخلي والإقليمي)؛ لذلك قد يكون النموذج الإيراني الحالي في حالة تغيير تطوّري، لمرحلة مابعد كوفيد 19-، ولاسيما إذا ما وضعنا كل تلك التحديات اعلاه "مجتمعة" مع مرحلة مابعد السيد الخامنئي وتفشي وباء كوفيد 19-. وهو ذات الرأي الذي ذهب إليه الباحث كريم سجّادبور، إذ يرى بأن: "الفيروس لن يعجّل بانهيار الجمهورية الإسلامية، بل من المرجح أن يسرّع في انتقالها من الحكم الديني إلى الحكم العسكري، ولا شك في أن الدور البارز جدًا للحرس الثوري الإيراني في مكافحة الفيروس كان مدفوعاً جزئياً بالرغبة في إصلاح صورته بعد أن أسقط عن طريق الخطأ طائرة ركاب أوكرانية بالقرب من طهران في كانون الثاني/ يناير 2020، واتهامه بقمع التظاهرات". 

كل تلك التنبؤات ستبقى رهن التكهنات البشرية، وأن إيران ما بعد خامنئي، قد تكون مختلفة بشكل كبير عن عصره، لكن من غير المرجح أن يقرر هذا الوباء بمفرده مستقبل النظام السياسي أو النموذج الإيراني من دون الاخذ بنظر الاعتبار الملفات الأخرى، ولاسيما ملف العقوبات الأمريكية وتمددها الإقليمي وصراعها مع واشنطن، الذي من الممكن أن ينتهي بقبول طهران الجلوس على طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة، وإعادة النظر بالاتفاق النووي وبعض الملفات العالقة بين الجانبين، ولاسيما مسألة الوجود الأمريكي في العراق وموقف طهران والفصائل المسلحة العراقية منه... لكن مع ذلك، حتى وأن حدث التغيير في النموذج الإيراني، بالتأكيد لن يكون على شاكلة الانتقال الإيراني بعد ثورة عام 1979، أو بعد وفاة السيد الخميني في عام 1989، فربما يكون مختلفاً عن كلاهما. 

التعليقات