يتمثل وضع الاقتصاد العراقي على السكة بالشكل الصحيح في العمل على تقليص دور الدولة في الاقتصاد مع فسح المجال أمام القطاع الخاص، على أن يأخذ بعين الاعتبار الآثار التي ستتركها هذه العملية أثناء التنفيذ، إذ إن انسحاب الدولة من الاقتصاد، خصوصاً إذا ما كان هذا الانسحاب غير مدروس، يعني إفراز الكثير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية
بعد انتهاء حكومة السيد العبادي الذي أنجز الكثير من المهمات، دخل العراق مرحلة اليتُم السياسي، نتيجة لغياب رئيس الحكومة لمدة طويلة بعد انتهاء ولاية العبادي.
إذ نخرت المحاصصة السياسية النظام السياسي منذ عام ٢٠٠٣ ولكنها كانت أخف وطأة خلال مدة السيد العبادي بحكم تركيزه على الهوية الوطنية والعمل والانجاز بعيداً عن الهويات الفرعية التي تسببت في تخلف العراق بشكل كبير عند اتخاذها كمنهج رئيس للتعامل مع المكونات الأخرى.
إحياء المحاصصة وإعلان الاستقالة
وبمجرد انتهاء ولايته تم إحياء المحاصصة السياسية من جديد في حكومة السيد عادل عبد المهدي المشكوك فيها وتم نسف جهود الحكومة السابقة بل وارتفاع الغضب الشعبي نتيجة القرارات السريعة، علماً أن تلك الجهود كادت أن تكون بمثابة التوجه الصحيح لبناء العراق سياسياً واقتصادياً، ويبدو من خلال النسف لم يُراد للعراق الاستقرار والتقدم سواء بقصد أو بدون قصد.
وسبب الشكوك التي أثيرت في حكومة عادل عبد المهدي واختياره قبطاناً للحكومة العراقية، تعود لآلية اختيارها حيث كانت الانتخابات تعاني من التزوير وحرق صناديق الاقتراع في بغداد، وكانت النتيجة استمرار المحاصصة والفساد والبطالة وتردي الخدمات وتكللت أخيراً في استخدام العنف تجاه المتظاهرين، فكانت الاستقالة هي الامر المحتوم ومطالبة الجماهير بالقصاص العادل لعادل عبد المهدي وحكومته.
أبرز القرارات التي دفعت للاستقالة
أبرز القرارات السريعة التي أسهمت في دخول العراق مرحلة اليتم السياسي هي إهمال حملة الشهادات العليا بل قيام الحكومة عبر مكافحة الشعب تصويب خراطيم الماء الحار تجاههم مما أثار الرأي العام ضد الحكومة، إضافة إلى قرار إزالة العشوائيات وسط تردي الأوضاع المعيشة في البلاد، وقرار إعفاء رئيس مكافحة الإرهاب العقيد عبد الوهاب الساعدي، إضافة إلى التردي المزمن للخدمات وعدم تحقيق تقدم اقتصادي ملموس.
هذه الأمور دفعت لانتفاضة بعض الشبان في العاصمة بغداد في ١ / ١٠ /٢٠١٩، وبدلاً أن تسمع لهم حكومة عادل عبد المهدي تمت مواجهتهم بالعنف وسقط على إثرها العديد منهم، هذه المواجهة أثارت غضب الشارع العراقي وانتفض على إثرها تظاهرات كبيرة في ٢٥ / ١٠ أجبرت رئيس الوزارة بإعلان الاستقالة، ولم تفلح القوى السياسية في ترتيب أوراقها بشكل سريع وسليم لتهدئة الشارع العراقي، إذ ظلت تماطل مع استمرار قمع التظاهرات في أغلب محافظات العراق خصوصاً في الوسط والجنوب، وبعد فشل تكليف السيد محمد توفيق علاوي وكذلك السيد عدنان الزرفي، تم اخيراً اختيار السيد مصطفى الكاظمي بعد سقوط أكثر من ٧٠٠ شهيد وآلاف الجرحى.
بداية تجاوز الأزمة السياسية
أن اختيار رئيس الوزراء وتشكيل كابينته الوزارية واكتمالها، قد أسهم في تجاوز نسبة كبيرة من الأزمة السياسية التي رافقتها الكثير من الأحداث المؤلمة والأزمة الصحية بسبب انتشار فيروس كورونا وانخفاض أسعار النفط الذي يُعد شريان الاقتصاد العراقي.
بعد تجاوز الأزمة السياسية خصوصاً وأن هذه الأزمة استمرت لمدة طويلة، ظل العراق خلالها بلا قبطان لحكومته، قد أعطت لمن سيتم اختياره صورة واضحة عن سبب التردي السياسي والاقتصادي الذي يشهده العراق، ولابُد أن يعمل بشكل مُكثف لتغيير هذه الصورة من خلال العمل على الإصلاح السياسي والاقتصادي بالدرجة الأولى كما عمل من قبل السيد العبادي بل وأكثر بحكم تعقُد المشهد الداخلي والخارجي في الوقت الحاضر.
ليس المطلوب من السيد الكاظمي في مسألة العلاج الاقتصادي هو أن يصبح الاقتصاد العراقي في مصاف الاقتصادات المتقدمة خلال المدة الوجيزة التي من أولى أولوياته إجراء انتخابات نزيهة وعادلة تضع العملية السياسية على السكة الصحيحة، فالمطلوب على المستوى الاقتصادي بالإضافة لما مطلوب منه سياسياً هو أن يضع الاقتصاد العراقي على السكة الصحيحة أيضاً حتى تكون الخطوات اللاحقة تتم بالشكل الصحيح دون الحاجة لعملية الهدم والبناء، التي تتطلب المزيد من الجهود والوقت، وهذا ما لا ينسجم مع المنطق الاقتصادي القاضي تحقيق أقصى المنافع بأقل الكلف.
التوجه الاقتصادي المطلوب
يتمثل وضع الاقتصاد العراقي على السكة بالشكل الصحيح في العمل على تقليص دور الدولة في الاقتصاد مع فسح المجال أمام القطاع الخاص، على أن يأخذ بعين الاعتبار الآثار التي ستتركها هذه العملية أثناء التنفيذ، إذ إن انسحاب الدولة من الاقتصاد، خصوصاً إذا ما كان هذا الانسحاب غير مدروس، يعني إفراز الكثير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولذا لابُد في بداية الأمر قبل انسحاب الدولة العمل على تطوير القطاع الخاص وتنميته بشكل حقيقي حتى يستطيع تلافي تلك الافرازات عند انسحاب الدولة من الاقتصاد.
أن العمل على تطوير القطاع الخاص وتنميته بشكل حقيقي ليأخذ الدور المطلوب ويصبح المحرك الرئيس وقاطرة النمو الاقتصادي في العراق، لا يأتي من فراغ ولابد من العمل على مجموعة خطوات كي تحفز وتجذب القطاع الخاص للنشاط الاقتصادي في العراق.
خطوات تحقيق التوجه الاقتصادي المطلوب
من اولى الخطوات المطلوبة بهذا الاتجاه هو العمل على محاربة الفساد، كون العراق يحتل مرتبة متقدمة وهي ١٦٩ من أصل ١٨٠ دولة عام ٢٠١٩حسب مؤشر مدركات الفساد العالمي الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية. أن العمل على محاربة الفساد يعني العمل على معالجة أكبر معوق من معوقات الاستثمار، كون الفساد يمثل تكاليف تثقل كاهل المستثمر دون مقابل ملموس، فالعمل على محاربة الفساد يعني تذليل أهم عقبة أمام الاستثمار.
الخطوة الثانية، العمل على إشراك القطاع الخاص في المشاريع الاستثمارية، خصوصاً في المشاريع التي يتخوف من الإقدام عليها، حتى يؤمن بأن الدولة تقف بجانبه ولا تريد إقصائه ومنافسته وخسارته، كذلك بيع الكثير من مشاريع القطاع العام للقطاع الخاص، خصوصاً المشاريع الخاسرة وتقديم بعض الدعم في بداية الأمر لتشجيعه على إعادة الحياة لهذه المشاريع. وبهذا تنبني ثقة القطاع الخاص بالدولة ونستطيع القول أنها نقطة الانفراج نحو البناء والتقدم.
الخطوة الثالثة، تحسين بيئة الأعمال، إذ معروف أن العراق يحتل مرتبة متأخرة وهي ١٦٥ من اصل ١٩٠ دولة عام ٢٠١٨ في مؤشر سهولة أداء الأعمال، مما يعطي انطبعاً لدى المستثمر الأجنبي بصعوبة الاستثمار في العراق، فيحجم عن الاستثمار في البلد، لان صعوبة أداء الأعمال وعدم انجازها وفق المخطط، تعني التأخر في الإنجاز أو اللجوء للفساد من أجل الإسراع في الانجاز، وكلا الأمرين يعنيان زيادة التكاليف وهذا ما يؤثر وبشكل سلبي على الأرباح التي يسعى المستثمر لتحقيقها فيحجم عن الاستثمار ويلجأ لبلدان أخرى افضل من حيث ممارسة الأعمال.
الخطوة الرابعة، تحديث وإعادة هيكلة الجهاز المصرفي، حيث تحتاج عملية التنمية الاقتصادية إلى جهاز مصرفي قادر على الاستجابة لمتطلبات التنمية الاقتصادية ولا يمكن خلق هكذا جهاز إلا بعد اعادة هيكلة الجهاز المصرفي، لان المعروف أن الدولة تهيمن على نسبة كبيرة من هذا الجهاز مما يعني غياب المنافسة وانخفاض الخدمات التي يقدمها الجهاز المصرفي فضلاً عن ارتفاع أسعار هذه الخدمات وهذا الارتفاع يؤثر سلباً على عملية التنمية الاقتصادية، فالعمل على تحديث الجهاز المصرفي وإعادة هيكلته سيسهم في توفير متطلبات تنمية الاقتصاد العراقي.
الخطوة الخامسة، انسحاب الدولة من النشاط الاقتصادي بشكل تدريجي لتلافي افرازات الانسحاب المفاجئ، والتخلي عن الأراضي التي تحوز على ٨٠% منها، لصالح القطاع الخاص على أن تراعى العدالة في عملية التوزيع والاستملاك، إذ إن ترك عملية التوزيع والاستملاك بلا إدارة عادلة ستؤدي بلا شك إلى تحقيق تفاوت طبقي كبير، وعليه، فانسحاب الدولة لابُد أن يرافقه الأسلوب التدريجي لتجنب الافرازات السلبية والتخلي عن الأراضي لابُد أن ترافقه العدالة لتجنب التفاوت الطبقي.
الخطوة السادسة، وهي خطوة متزامنة لابُد أن تسير بشكل متوازي مع جميع الخطوات أعلاه، وهي الإعلام الاقتصادي، حتى يتم إعلام الجميع، مجتمع وافراد، بجميع الفرص التي يستطيع المجتمع استثمارها، وكيف تعمل الحكومة على تطوير الاقتصاد واعلامهم بأن المجتمع والافراد هم هدف تطوير الاقتصاد ووسيلته، ولا يمكن تطوير الاقتصاد دون إشراكهم في تطويره، وبهذا سيتم زرع الثقة بين الدولة والموطن ويتم تحقيق تقدم ملموس على أرض الواقع، فالاهتمام بالإعلام الاقتصادي يسهم في تطوير الاقتصاد العراقي.
خلاصة القول، أن قيام الحكومة الجديدة بالعمل على تحقيق التوجه المطلوب من خلال تنفيذ الخطوات أعلاه، يعني بداية مغادرة التخلف والاتجاه نحو التقدم الاقتصادي في العراق.
اضافةتعليق