لا يمكن لأي محلل منصف ان ينكر ماعاناه اكراد العراق من مآسي وويلات تحت الحكم الاستبدادي لصدام حسين، بل وغير مقبول القفز فوق الحقائق بأنكار الأخطاء التي ارتكبتها الحكومات العراقية المتعاقبة بحق مواطنيها الكرد، ومن حق الكرد ان يحرصوا في الوقت الحاضر على عدم تكرار نكبات الماضي التي مارستها حكومات شوفينية او فئوية تتخذ من بغداد مقرا لقرارات جائرة ومتطرفة وضيقة الأفق، وان يضغطوا باتجاه تثبيت كونهم شركاء في إدارة العراق الفدرالي الذي يتسع لجميع ابنائه بدون تمييز او اقصاء لاي من مكوناته المجتمعية، ولكن هل يحق للكرد ان يمارسوا فيتو على قرارات حكومتهم الاتحادية التي يشاركون في إدارتها؟، وإذا كان الكرد لديهم هاجس الخوف من حكومة بغداد الحالية في المجال الأمني، فهل يعتقدون ان الفدرلة تعني منحهم الحق في التصرف كما يحلو لهم، حتى لو كانت هذه التصرفات تنطوي على تهديد امن العراق نتيجة اتفاقيات خارجية أو تحركات داخلية تصب في نفس الاتجاه، دون أن يكون للحكومة الاتحادية الحق بالتحرك الحازم لمنع مثل هذه التصرفات؟.
ابتداءً، لابد من الاشارة الى ان مفردة (فيتو) شاع استخدامها من خلال اليات التصويت في مجلس الامن الدولي، حيث تستطيع اي من الدول الخمس دائمة العضوية –الولايات المتحدة، روسيا، الصين، بريطانيا، فرنسا– تعطيل أي مشروع قرار يرغب المجلس في اصداره حتى لو حضي بموافقة أربعة عشر صوتا من مجموع خمسة عشر- عدد اعضاء المجلس- وقد منعت هذه الالية في التصويت المجلس من اداء عمله بفاعلية وكفاءة وعدت من أسباب فشله في تحقيق المساواة والعدالة فيما يصدره من قرارات دولية، وعلت الأصوات من داخل المجتمع الدولي مطالبة بأيجاد بديل اكثر كفاءة واكثر ديمقراطية.
كما شاع- مجازا- الحديث عن فيتو آخر يمارسه رئيس الولايات المتحدة عند اعتراضه على مشروع قرار صوت عليه الكونغرس، مما يدفع باتجاه ارجاع المشروع إلى المجلس ثانية لغرض تعديله أو إجازته من خلال التصويت عليه بأغلبية الثلثين دون ان يؤثر عليه فيتو الرئاسة. ووفقا لهذا يكون استخدام الفيتو -حتى لو كان مجاز قانونا- على مشروع قرار ما معرقلا لصدوره، حتى لو كان هذا المشروع عادلا 100 %، مما يشل العملية التشريعية ويربكها. وتحليل الوضع السياسي في العراق اليوم، يدفعنا إلى الاعتقاد إن الطرف الكردي يضغط باتجاه تمتعه بحق ممارسة فيتو على قرارات الحكومة الاتحادية ، وهذا الاعتقاد مصدره مانلمسه من ممارسات للقادة الكرد، لعل آخرها مطالبتهم في ان يكون تسليح الجيش الاتحادي من قبل حكومة بغداد، خاضعا لضوابط معينة اولها موافقة حكومة اقليم كردستان على ماتعقده حكومة بغداد من صفقات تسليح خارجية، خوفا من استخدام هذه الاسلحة ضدهم عند حصول اختلاف في وجهات النظر بين الطرفين مستقبلا، وهذا القول مردود جملة وتفصيلا لاسباب عديدة منها:
أولاً: إن تصرف الأكراد بهذه الطريقة مع الحكومة الاتحادية اشبه بالتعامل بين دولتين مستقلتين، وليس تعاملا بين حكومة اقليمية وحكومة اتحادية.
ثانياً: إن مسؤولية حماية الامن الوطني هو من حق الحكومة الاتحادية التي يجب عليها اتخاذ كافة القرارات المناسبة لتحقيق ذلك، وهذه الحكومة هي حكومة كل العراقيين ومن ضمنهم الكرد الذين يحضون بنسبة عالية من المناصب فيها.
ثالثاً: إن الدستور الاتحادي قد ضمن من خلال العلاقة بين السلطات الثلاث -التشريعية والتنفيذية والقضائية- عدم إطلاق يد الحكومة الاتحادية في استخدام القوة الا في الحدود التي يسمح بها الدستور.
رابعاً: ليس من حق الكرد فرض معاييرمستعجلة وغير محسوبة، تحدد علاقة الحكومة الاتحادية مع حكومات الاقاليم قبل تشكل الوحدات الاقليمية لبقية مكونات المجتمع العراقي، ذلك إن تحديد هذه المعايير يتطلب مشاركة كل هذه المكونات من خلال حكوماتهم المحلية التي ستنشأ مستقبلا، ولا يمكن اعتبار مجالس المحافظات الحالية بمثابة حكومات محلية لها ثقل حكومة اقليم كردستان.
ولكن أذا اراد الكرد ضمان حقوقهم الوطنية والقومية ، فليكونوا فاعلين في بناء حكومة اتحادية قوية من جانب ، وديمقراطية في قراراتها – اي غير فردية - من جانب آخر. وقيام هذه الحكومة يعد ضمانا حقيقيا لمصالح العراقيين، أفراداً ومجموعات، وإذا اتخذت مثل هذه الحكومة قرارا وجب احترامه من كافة الوحدات الإقليمية، ووجود هذه الحكومة لايتنافى مع البعد الفدرالي للعراق الجديد، لكن المشكلة في العراق اليوم هي ان بعض دعاة الفدرالية، يريدون تفصيلها على مقاساتهم، فيكون الغرض ليس اقامة حكومة فدرالية، كما هو حال الحكومات الفدرالية الموجودة في بقية بلدان العالم، وإنما إقامة حكومة اتحادية خاضعة لحكومات الاقاليم ومشلولة الارادة تجاههم، وهذا خطأ جسيم من جانبين: الأول هو مخالفتها للاصول الدستورية المتعارف عليها في الدول الفدرالية، والثاني هو إن البيئة الإقليمية للعراق تقتضي وجود حكومة قوية تتخذ اجراءات حازمة في حماية الامن والوحدة الوطنيين، ومن بينها حقها في دخول اي من الاقاليم المكونة للاتحاد بالقوة عند الضرورة، دون أن يكون في ذلك مخالفة للاصول الدستورية المتعارف عليها في الدول الفدرالية، فهذه الولايات المتحدة -على سبيل المثال- عندما نشبت الحرب الاهلية فيها عام 1863، احتجت حكومتها الاتحادية برئاسة لانكولن بحقها الدستوري في إعلان الحرب الشاملة على أكثر من عشر ولايات من الولايات المكونة لها من اجل الحفاظ على وحدتها وامنها الوطنيين، إن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على ان الفدرلة منهج مخالف للانفصال من جهة، ويرفض شل ارادة المركز من جهة ثانية، ويسمح للحكومة الاتحادية بممارسة ماتراه مناسبا من قوة لضمان الامن والوحدة الوطنيين من جهة ثالثة.
وعلى ضوء ما تقدم، يمكن القول: إن على أي إقليم عراقي قائم حاليا او يقوم في المستقبل اذا فكر بالانفصال او الاعتداء على جواره الاقليمي الداخلي او التجاوز على صلاحيات الحكومة الاتحادية، أن يتوقع رداً حازما من هذه الحكومة. وأن إرساء أسس صحيحة لعراق فدرالي معافى، يتطلب أدراك الآتي:
- إن فرض فيتو على الحكومة الاتحادية العراقية هو امر غير دستوري، ويخالف المبادئ الفدرالية المعروفة في الدول الفدرالية، فيجب تجنب ممارسته من أي حكومة محلية مكونة للاتحاد.
- إن ضمان مصالح مكونات الشعب العراقي يكون من خلال تعزيز العمل بالقواعد الدستورية، وفرض شراكة حقيقية في ادارة الدولة الاتحادية.
- إن بناء حكومة اتحادية قوية متمسكة بالمنهج الديمقراطي في الحكم يعد امرا مهما، لأن ضعف الحكومة يتناسب عكسيا مع نجاح الديقراطية واستمرارها.
- إن حكومة العراق الاتحادية يجب أن لا تكون ضعيفة في تمسكها بصلاحياتها الدستورية في مجال الامن الوطني، كما هو الحال بالنسبة للحكومات القائمة في الدول الفدرالية المعاصرة، أو يأتي يوم تجد فيه هذه الحكومة نفسها مشلولة الارادة وعاجزة عن حماية وحدة العراق وسيادته امام تهديد خارجي او تمرد داخلي.
اضافةتعليق