لا شك أن سقوط بشار الاسد، يمثل ضربة كبيرة للدور الروسي في سوريا، وأن استعادة مثل ذلك الدور لا يمكن أن يأتي بسهولة، ولاسيما في ظل التحفظات السورية الداخلية على طبيعة الدور الروسي السابق في ظل حكم بشار الاسد، فضلًا عن طبيعة التحفظات الأمريكية والأوروبية، ويمكن أن يكون الدور الروسي القادم في سوريا مرهون أو مشروط برؤية القيادة السورية الجديدة وطبيعة الدعم الخارجي والإقليمي لها، او من الممكن أن يخضع لمعايير التبادل الدبلوماسي الرسمي ولا يخضع لتواجد عسكري وقواعد عسكرية
على الرغم من رفض الكرملين توصيف ما حدث في سوريا بأنه هزيمة لروسيا ولدورها في منطقة الشرق الاوسط، إلا أن انهيار نظام بشار الاسد حَجَّم بشكل كبير النفوذ الروسي في سوريا والمنطقة، وجعل بقاء القواعد الروسية محل شك، لكنَّ موسكو استطاعت أن تتعامل مع التطورات الجديدة في سوريا وحكامها الجدد بطبيعة براغماتية بانت ملامحها في حديث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن بقاء قواعد بلاده العسكرية في سوريا من عدمه، إذ يقول: "الآن علينا أن نفكر في مستقبل قواعدنا العسكرية في سوريا، وعلينا أن نقرر بأنفسنا كيف ستتطور علاقتنا مع القوى السياسية الجديدة التي ستحكم سوريا وإدارة مصالحنا هناك". توافق المصالح الروسية – السورية في ظل المتغيرات الجديدة، مهمة قد تبدو صعبة جدًا لكنها ليست مستحيلة، ولاسيما في ظل الضغوط الغربية والأمريكية على حكام سوريا الجدد في أخراج الدور الروسي من المعادلة السياسية أو المشهد الجيوسياسي في المنطقة. وفي ظل هذه المعطيات والتطورات المتسارعة، كيف يمكننا أن نفهم الدور الروسي في سوريا الجديد، وما هو مستقبل القواعد الروسية الجوية في حميميم والبحرية في طرطوس؟
تعد سوريا بوابة روسيا إلى المياه الدافئة من خلال البحر المتوسط، إذ سعى الرئيس بوتين منذ توليه مقاليد السلطة في روسيا إلى استعادة الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط، الذي تشكّل خلال حقبة الحرب الباردة بتعزيز علاقات التحالف الاستراتيجي، وقد اتيحت له الفرصة عام 2015 بعدما تدَّخل الروس لحماية نظام بشار الأسد بعد تزايد ضربات المعارضة السورية المسلحة لأسقاط نظام بشار الأسد، وقد ارتبط الهدف الروسي في سوريا بتعزيز مكانة روسيا على الصعيد الدولي، باعتبار أن هذا الوجود سيسهم في مواجهة النفوذ الغربي، ويدعم مساعي الرئيس الروسي الرامية إلى نظام عالمي متعدد الاقطار، تتشارك في ادارته روسيا والصين بموازاة الدور الأمريكي والغربي. هذه التطلعات من قبل الرئيس الروسي ما تزال تعترضها الكثير من المصدات، ولعل الاهداف الأمريكية ومصالح أمريكا في المنطقة تعد من أكبر التحديات التي تواجه الدور الروسي في المنطقة، ولاسيما بعد اسقاط نظام بشار الاسد. إذ تتنوع الاهداف الأمريكية في مرحلة مابعد الاسد، فهناك بعض التيارات الأمريكية تريد أن تحرم روسيا من الوصول إلى المياه الدافئة عبر المتوسط في سوريا واستنزاف قدراتها، والحد من سعيها لتعزيز مكانتها على مسرح السياسة الدولية، وهو ما يمكن أن نسميه الحد من الدور الروسي في المنطقة، وتعظيم دور الولايات المتحدة الامريكية فيها، ولاسيما في سوريا، فالأمريكان لديهم الحجج الكثيرة في البقاء في سوريا حتى في ظل الادارة الأمريكية الجديد (إدارة ترامب). وقد عبر الرئيس المنتخب عنها في بعض مواقفه وتصريحاته السياسية، إذ تهدف الولايات المتحدة كذلك إلى تقليص النفوذ الإيراني في سوريا، وفي بيان صادر عن مجلس الأمن القومي الأمريكي في 9 ديسمبر 2024، اعتبر أن ما حدث أخيرًا في الشرق الأوسط أسهم في إضعاف إيران وأوصل إلى ما حدث في سوريا. ويمثل موقف الرئيس المنتخب دونالد ترامب دعمًا لذلك التصور، لا سيما وأن ولايته الأولى شهدت فرض عقوبات على إيران، وإلغاء الاتفاق النووي الذي وافقت عليه إدارة الرئيس الأسبق أوباما. فضلًا عن ذلك، فالولايات المتحدة لديها من الحجج ما يعزز موقفها في سوريا. ولعل تنامي المخاوف من عودة تنظيم "داعش" الإرهابي بعد سقوط نظام الأسد، ربما سيعزز موقفها بشكل كبير للغاية، ولاسيما أن الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن أكد على حرص الولايات المتحدة على منع تنظم داعش من العودة إلى سوريا أو العراق، وأن بلاده لن تعطِ فرصة للتنظيم الإرهابي لبناء قدراته، ولن تسمح بتحول سوريا لملاذ آمن له. وهذا ما اكده وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، بأن الولايات المتحدة الأمريكية عازمة على منع تنظيم "داعش" الإرهابي من إعادة تنظيم صفوفه في سوريا، وكذلك منع تفكك هذا البلد بعد إسقاط نظام بشار الأسد، ولاسيما أن للولايات المتحدة مصالح كبيرة في سوريا وتحالفات مع قوى محلية مثل الاكراد في سوريا؛ الأمر الذي يدفع إلى تعزيز الدور الأمريكي في سوريا لمرحلة ما بعد بشار الاسد وتحجيم الدور الروسي هناك. بموازاة ذلك، يشكل الحد من النفوذ الروسي في سوريا أحد الأهداف الأوروبية المشتركة، لذلك أعلنت المفوضية العليا للسياسة الخارجية والأمن للاتحاد الأوروبي كايا كالاس، 16 ديسمبر 2024، أن الاتحاد سيبحث مسألة إغلاق القواعد الروسية في سوريا، وأضافت أنه خلال اجتماع وزراء الخارجية لدول الاتحاد بأن بعض الوزراء تحدثوا عن ضرورة طرح شرط إنهاء النفوذ الروسي في سوريا للحوار مع السلطات السورية الجديدة؛ وهذا من شأنه أن يتسبب في أرباك الحسابات الروسية، ولاسيما أذا ما تعاظمت الاهداف الأمريكية والأوروبية برغبة القوى السياسية السورية وبعض رغبات الانظمة العربية.
لهذا يمكن أن نوجز التحديات او العقبات التي تقف ضد استعادة الدور الروسي في سوريا لمرحلة ما بعد بشار الاسد ببعض المقاربات:
1. المقاربة الأوروبية التي تقوم على نشاطات مشروطة في دعم سوريا الجديدة، فالجهود الأوروبية اشترطت على القوى السياسية الجديدة في سوريا عدة شروط مقابل دعمها لسوريا واعطاءها دفعة قوية للعلاقات الأوروبية – السورية، كالمشاركة في إعادة الأعمار ورفع العقوبات بموازاة اطلاق عملية سياسية جامعة للسوريين بعيدًا عن التطرف والدور السوري والإيراني فيها . وهذا ما أكدته مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس، في 16 ديسمبر، بأن التطرف وروسيا وإيران يجب ألا يكون لهم مكان في مستقبل سوريا، وأضافت أن وزراء الاتحاد الأوروبي متفقون على وجوب تخلص قيادة سوريا من النفوذ الروسي.
2. المقاربة الأمريكية القائمة على تعظيم دور الولايات المتحدة في سوريا والمنطقة، وهي المقاربة التي كشف عنها الرئيس المنتخب دونالد ترامب بعد أن تمت الإطاحة ببشار الاسد، حيث غرّد على منصة "تروث سوشيال" مؤكدًا أن تهاوي سلطة الأسد كان من أسبابها عدم تلقيه مساعدة من روسيا، التي لم تكن لتتورط بسوريا في المقام الأول.
3. المقاربة الروسية – الاوكرانية، المتمثلة بطبيعة انهاء الحرب، التي استنزفت القدرات الروسية وأثرت بشكل كبير على دورها في سوريا والشرق الاوسط، إذ تعد أوكرانيا الشغل الشاغل للروس في الوقت الراهن؛ لكونها تمثل الدائرة المرتبطة بالأمن القومي الروسي بشكل مباش. وهذا من شأنه أن يعرقل الجهود الروسية في استعادة دورها في سوريا أو حتى الحفاظ على قواعدها العسكرية.
4. المقاربة السورية الجديدة التي تعيد خليط من رؤى متعددة على المستويين الداخلي والإقليمي، سواء تلك القوى السياسية المدعومة من قبل تركيا او المدعومة عربيًا، فضلًا عن القوى المحلية المدعومة أمريكيًا. إذ يتوقف مدى الوجود الروسي في سوريا على رؤية القيادة الجديدة ونمط تحالفاتها المستقبلية، وما إذا كانت ستتجه نحو تحالفات استراتيجية، أم أن التركيز في تلك المرحلة الانتقالية سيكون على قضايا الداخل. كما سيتوقف ذلك الوجود، ومداه على توجهات السياسة الخارجية السورية الجديدة، وما إذا كانت ستتبنى فكرة تعزيز شراكاتها مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، وأوروبا.
خلاصة القول، لا شك أن سقوط بشار الاسد، يمثل ضربة كبيرة للدور الروسي في سوريا، وأن استعادة مثل ذلك الدور لا يمكن أن يأتي بسهولة، ولاسيما في ظل التحفظات السورية الداخلية على طبيعة الدور الروسي السابق في ظل حكم بشار الاسد، فضلًا عن طبيعة التحفظات الأمريكية والأوروبية، ويمكن أن يكون الدور الروسي القادم في سوريا مرهون أو مشروط برؤية القيادة السورية الجديدة وطبيعة الدعم الخارجي والإقليمي لها، او من الممكن أن يخضع لمعايير التبادل الدبلوماسي الرسمي ولا يخضع لتواجد عسكري وقواعد عسكرية.
اضافةتعليق